أقلام حرة
سامي فارس: أطفال على مسارح الكبار.. ثقافة تخلف تضطهد الطفولة
على مدى أكثر من ثلاثة عقود من العيش والعمل في بريطانيا وأوروبا، وفي مؤسسات ومنظمات مجتمع مدني بريطانية وأوروبية وعالمية تُعنى بالطفولة والتربية، لم نشهد يومًا زجّ الأطفال في حفلات ليلية مخصّصة للكبار. لم نرَ طفلًا يصعد إلى مسرح مطرب يغني أغاني عاطفية لا تناسب عمره، ولم نصادف أسرة تسمح لصغارها بالتواجد في أجواء صاخبة ليلية أو محتوى موجّه للكبار.
هنا في بريطانيا رغم تحفظنا على العديد من القضايا التي تخص الطفولة إلا أن الثقافة المجتمعية قبل القانون ترسم حدودًا واضحة:
الطفولة لها عالمها الخاص، والحفلات الليلية للكبار فقط، وخلط العالمين يُعدّ تخلفًا إجتماعيًا وانتهاكًا لحقوق الطفل. أما مشاهد “الإعجاب المبالغ” من طفل تجاه مطرب، فيراها المجتمع الأوروبي مؤشرًا على خلل أسري يجب معالجته، لا الاحتفاء به.
ما حدث في حفلة الفنان الشامي الأخيرة في بغداد أثار صدمة إجتماعية واضحة. ظهور أطفال بين 7 و13 عامًا وهم يبكون لصعودهم إلى المسرح واحتضانهم المطرب في فعالية للكبار فقط يعكس فجوة ثقافية خطيرة.
فالمشهد الذي رآه البعض “لطيفًا” هو في الحقيقة صورة لغياب فهم الطفولة وحدودها. فالطفل الذي يُدفع إلى منصة الكبار لا يدرك معنى الأغاني أو سياق الحدث، وتُختطف براءته للحظة إستعراضية كان يجب أن يكون بعيدًا عنها.
غياب وعي الأسرة…
الأسرة هي الحامي الأول للطفل، لكن ما حدث كشف ضعفًا في الوعي التربوي، وتخليًا عن مسؤولية الحماية، واندفاعًا نحو ما يسمى “تطورًا” بينما هو في الواقع تطور مخادع فارغ.
فالطفل الذي يُؤخذ إلى حفلة ليلية يُعرَّض لضغط نفسي، وتجرِبة تتجاوز عمره، ومحتوى قد يؤثر على نموه العاطفي والأخلاقي مستقبلًا. إن هذه الممارسات ليست “انفتاحًا”، بل إضرارًا مباشرًا بالطفولة.
يمتلك العراق عشرات المنظمات التي ترفع شعار حماية الطفولة، لكنها غابت تمامًا أمام هذه المشاهد وهذا التجاوز. لم يصدر بيان أو تحذير أو حتى مطالبة بتنظيم حضور الأطفال للحفلات.
وهذا الغياب يكشف أن كثيرًا من هذه المنظمات تعمل بصورة شكلية، دون تأثير حقيقي في القضايا الجوهرية التي تمس مجتمعنا ومستقبل أجيالنا.
دور الرقابة الحكومية.. ثغرة يجب سدّها
الحفلات العامة تتطلب رقابة لحماية الفئات الأضعف، وعلى رأسهم الأطفال. لكن ما جرى يطرح تساؤلات مهمة: من سمح بدخول الأطفال؟ لماذا غابت ضوابط العمر؟ وكيف صعد الأطفال إلى المسرح دون حماية؟
غياب الرقابة لا يعني مجرد خطأ تنظيمي، بل تهديد مباشر للطفولة، ما زال البعض يرى بكاء طفل في حضن مطرب “لقطة عاطفية”، بينما يراها العالم الواعي خللًا نفسيًا واجتماعيًا يجب التعامل معه ومعالجته نفسياً .
المشكلة ليست في عدم فهم الطفل للأغاني العاطفية، بل في وضعه في مساحة لا تخصه وتجربة تفوق وعيه. إن ما جرى في حفلة الشامي جرس إنذار ثقافي واجتماعيّ. إستمرار إدخال الأطفال إلى فضاءات الكبار يعني أننا نسير نحو اضطهاد الطفولة باسم التطور.
حماية الطفل مسؤوليتنا جميعاً تبدأ بالأسرة، والمدرسة مرورًا بمنظمات المجتمع المدني، وتنتهي برقابة حكومية صارمة.
فلنحترم الطفولة كما يحترمها العالم المتقدم، ولنتوقف عن استنزافها تحت شعارات زائفة.
قد يكون الوقت قد حان ليصبح السؤال الحقيقي: هل نحمي أطفالنا.. أم ندفعهم مبكرًا إلى عالم لم يُخلق لهم بعد؟
***
بقلم: سامي الفارس







