أقلام حرة

صادق السامرائي: المأمون والفِراسة!!

الفِراسة: المهارة في تعرف بواطن الأمور من ظواهرها، والرأي المبني على التفرّس

المأمون الخليفة العباسي السابع، إبن هارون الرشيد من جارية فارسية إسمها مراجل، توفت بحمى النفاس، وعاش يتيم الأم منذ مولده، وتعهد برعايته وتربيته آل برمك، وبهذا نجى من زبيدة وبني هاشم الذين ربما لو تمكنوا لقتلوه وهو طفل.

المأمون - رغم مثالبه - من أعلام الإنسانية الذين غيّروا مسيرتها، وأناروا وجودها، ووضعوها على مسارات الرقاء وإعمال العقل وإطلاق طاقاته الإبداعية، وكان يتميز بخاصية عجيبة أغفلها المؤرخون.

 إذ كان صاحب فراسة لا تضاهى، فهو الذي إختار العديد من رموز المعارف والعلوم الذين عملوا في بيت الحكمة ببغداد، فكأنه كان يقابلهم ويقيمهم ويقرر صلاحيتهم للإبداع الذي يطمح إليه.

ومن عجائب فراسته إختياره لشاكر الذي كان من قطاع الطرق، ولا يُعرف كيف توسم فيه قدرات علمية وإبداعية، وكيف قرأ ذلك في أولاده الثلاثة وهم أطفال بعد أن توفى أبوهم، فتعهدهم بالرعاية وكان ظنه بهم في محله، إذ أبدعوا بأصالة وقدموا خدمات علمية للدولة والإنسانية.

وهناك أمثلة أخرى كثيرة عن قدرة المأمون في إلتقاط العقول المقتدرة على الإبداع والعطاء الأصيل.

ويُقال هو الذي قرّب الشاعر أبو تمام ولا يزال دون العشرين من العمر.

هذا الخليفة الموهوب المؤمن بدور العقل وضرورة تفاعله مع التحديات الدنيوية، هو القائد الحقيقي للثورة العلمية الفلسقية والفكرية التي توهجت في عصره (198 - 218) هجرية  في بغداد، وإمتدت بعد ذلك وإنتشرت بأرجاء الدولة العباسية، وفي دول تولدت منها أو جاءت بعدها وأخذت عنها.

فثورته العلمية تجددت في الأندلس ومصر وبلاد المغرب العربي والهند وأوربا فيما بعد.

فالمأمون هو القائد الذي جاهد لتأمين التغيير والنظر بعيون العقل.

فكان له ما أراد، ونشطت في زمنه المعتزلة، لكن رموزها إشتطت وجنت على وجودها، لأنها حولتها إلى حركة سياسية، وصارت تهيمن على الخلفاء، وتوجههم بموجب رؤاها للقضاء على من يخالفها، وأطلقت مصيبة محنة خلق القرآن، التي أذاقت العديد من علماء الأمة سوء العذاب!!

وللفراسة دور كبير في القيادة، فالقائد صاحب الفراسة الثاقبة يكون مقتدرا ومتميزا في قيادته وبناء دولته.

ومن قرارات فراسته – رغم ما يُقال- إختياره لأخيه المعتصم وليا للعهد بدلا من إبنه.

وفي الزمن المعاصر هناك عدد من القادة الموهوبين الذين إختاروا بفراستهم مَن يخلفهم أو يكون في موقع قيادي مهم، وفي عالمنا العربي نفتقد للقادة أصحاب الفراسة النابهة، فقادتنا لم يكونوا أصحاب فراسة ثاقبة، ولهذا إنتهت منطلقاتهم بوفاتهم، فلو كانت لديهم فراسة ونباهة لما وصلت أحوال الأمة إلى ما هي عليه.

فالفراسة ركن مهم من أركان القيادة وبغيابها لا يكون الشخص المناسب في المكان المناسب.

والقيادة والفراسة موهبتان متلازمتان لصناعة القائد الناجح!!

و"إحذروا فراسة المؤمن فأنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله"

"ألا أن عين المرء عنوان قلبه...تخبر عن أسراره شاء أم أبى"

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم