أقلام حرة

علي الطائي: الكهنوت القروسطي يسقط بضربة رأس!

في لحظة من لحظات الوعي الجمعي، حين يحتدم التنافس الشريف بين الأقدام السريعة والعقول المدربة، ينبري رجال الدين ليعلنوا اعتراضهم، مطالبين بتأجيل مباراة مصيرية بين العراق والكويت. يرفعون صوتهم، كما اعتادوا، ليُذكّروا الجماهير أن الحياة لا ينبغي أن تُعاش وفق نسقها الطبيعي، بل وفق ما تمليه العمامة، وأن الرياضة، مثلها مثل السياسة والمجتمع والثقافة، يجب أن تخضع لوصايتهم.
غير أن المشهد هذه المرة لم يكن كما كان من قبل. ففي المدرجات كان هناك وعيٌ جديد، وفي الميدان إرادةٌ تتحدى، وفي الهواء صرخةُ تحررٍ لم تعد تخشى فتاوى العصور الغابرة. حين ارتفعت الكرة في السماء، وانقض عليها رأس لاعبٍ عراقيٍّ جسور، لم تكن تلك مجرد ضربةٍ في الشباك، بل كانت ضربةً في صميم الكهنوت القروسطي، الذي لم يدرك أن الزمن قد تغير، وأن الشعوب لم تعد تقبل أن تُقاد بعصا الماضي الثقيلة.
لطالما اعتبر الكهنوت نفسه المالك الشرعي للحقيقة، والمتحدث الرسمي باسم الله، والوصيّ على العقول والضمائر. في القرون الوسطى، حين كانت أوروبا تئنّ تحت نير الباباوات، لم يكن للإنسان أن يحلم إلا بمقدار ما تسمح له الكنيسة، ولم يكن له أن يسأل إلا بحدود ما تجيزه كتب اللاهوت. كان الفكر محاصراً، والعلم مكبلاً، والرياضة – إن وُجدت – محرّمةً أو مدنّسة، لأنها تُلهي عن الطاعة العمياء للسلطة الدينية. لكن النهضة جاءت، والعقل تحرر، والإنسان اكتشف أنه لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين الحياة. انطفأت شموع المحاكم التفتيشية، وسقطت سلطة الفاتيكان على العروش، وبدأت أوروبا مسيرتها نحو الحداثة.
وفي العراق، حيث التاريخ يكرر نفسه في أزياء جديدة، يقف الكهنوت اليوم في ذات الموضع الذي وقف فيه كهنوت الكنيسة قبل قرون، متوهماً أنه قادر على إيقاف عجلة الزمن، وأنه ما زال يمتلك القوة ليقرر متى تُلعب المباريات، وكيف يفرح الناس، ومتى يتنفسون. لكنه لم يدرك بعد أن سطوته تتآكل، وأن جيل اليوم ليس هو جيل الأمس، وأن الجماهير التي ملأت ملعب البصرة لم تكن تهتف للاعبين فقط، بل كانت تهتف للحياة في وجه الموت، وللحرية في وجه القيد.
لعل أشد ما يُربك الكهنوت هو اللحظة التي يدرك فيها أنه فقد سلطته، أن الجماهير التي كانت تصغي له بانقياد باتت اليوم تضحك من فتاواه، وأن الملوك الذين كانوا يخشون سطوته باتوا اليوم يعقدون حساباتهم وصفقاتهم السياسية بعيداً عنه.
ما حدث في العراق، وما يحدث في غيره من البلدان، ليس سوى تمهيدٍ لسقوط أكبر. فحين يتجرأ الكهنوت على التدخل في أبسط تفاصيل الحياة، وحين يُصرّ على أن يكون حَكماً في مباراة لا شأن له بها، فإنه يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع وعي الجماهير، وحين تسقط هيبته في نظر "القطيع"، يصبح بقاؤه مسألة وقت ليس إلا.
لأول مرة، لم يكن على اللاعب أن ينتصر على خصمه فقط، بل كان عليه أن ينتصر على خطباء المنابر أيضاً، على ثقافة التحريم والتضييق، على سطوة الخرافة. لقد كانت المباراة، في جوهرها، أبعد من مجرد تسعين دقيقة من اللعب؛ لقد كانت معركة رمزية بين الماضي والمستقبل، بين الكهنوت والحرية، بين الوصاية والتحرر.
لا تنهض الأمم إلا حين يُعاد للدين مكانه الطبيعي في القلوب، لا في القوانين، في الضمائر، لا في الملاعب. إن الفصل بين الدين والدولة، وبين الإيمان والإدارة، هو أولى خطوات النهوض. لا يمكن لمجتمعٍ أن يتقدم، وهو لا يزال يتلقى أوامره من منابر التحريم، ولا يمكن لشعبٍ أن يبني مستقبله، وهو لا يزال يُقاد بعقلية الفتاوى التي تخشى حتى الأفراح البسيطة.
لقد أظهرت الجماهير العراقية في هذه المباراة أنها لم تعد بحاجة إلى وصاية، وأنها تستطيع أن تفرح وتحتفل دون أن تسأل رجل الدين إن كان ذلك مباحاً أم لا. لقد كانت تلك المباراة درساً لكل من يظن أنه لا يزال يمتلك مفاتيح العقول، أو أنه قادرٌ على إيقاف الزمن بعمامةٍ وخطبةٍ وموقفٍ متشنج.
لقد سقط الكهنوت القروسطي بضربة رأس.. وهذه ليست سوى البداية!
***
د. علي الطائي

 

في المثقف اليوم