أقلام حرة
علي الطائي: المكرُ المقدَّس

في كلِّ المجتمعاتِ التي تعيشُ وطأةَ الدكتاتوريةِ، ينصبُّ جهدُ الطاغيةِ على خلقِ قطيعٍ من المؤمنينَ بأفكارِهِ عن طريقِ القسرِ والإكراهِ. هذا الإيمانُ لا ينبعُ من قناعةٍ حقيقيةٍ، بل هو نتاجٌ للقهرِ والخوفِ والقلقِ والترقبِ. أما في الجمهورياتِ التي يصنعُ فيها القطيعُ إيماناً بقداسةِ الحاكمِ، فإن هذا المجتمعَ يتميزُ بالطاعةِ العمياءِ غيرِ المشروطةِ، لأنها جاءت عن وعيٍ مزيفٍ وإيمانٍ عميقٍ مصنوعٍ بقدسيةِ الحاكمِ. هذا النوعُ من الإيمانِ من الصعبِ تغييرُهُ، لأنه مبنيٌّ على جهلٍ مقدسٍ يُقدَّسُ بدورِهِ.
وإذا نظرنا إلى التاريخِ الدينيِّ، نجدُ أن رجالَ الدينِ كانوا على وعيٍ تامٍ بآلياتِ ترويضِ الجماهيرِ وتحويلِها إلى قطيعٍ يتبعُ دون مساءلةٍ. فهم يعملونَ على تدعيمِ أركانِ هذا الإيمانِ المزيفِ بمعتقداتٍ وهميةٍ، مثل اختلاقِ المعجزاتِ والكراماتِ الزائفةِ، وحكاياتِ الخوارقِ، وحتى الأعمالِ الخيريةِ التي تُنسبُ إلى المقدسِ. كلُّ هذا يتمُّ لضمانِ استمراريةِ السيطرةِ على العقولِ والقلوبِ.
ومن الأمورِ الأساسيةِ التي ترافقُ أيَّ دينٍ أو طائفةٍ، هي مصادرُ التمويلِ. فبدونِ المالِ، لا يمكنُ لأيِّ مؤسسةٍ دينيةٍ أن تستمرَّ أو تنجحَ. تتعددُ مصادرُ الأموالِ في هذه المؤسساتِ المقدسةِ، فتارةً تُسمى بالنذرِ المقدسِ، وتارةً أخرى بالزكاةِ، وأحياناً بالصدقةِ أو الخمسِ أو الغنائمِ. ولكن السؤالَ الذي يطرحُ نفسَهُ هو: هل يتمُّ توزيعُ هذه الأموالِ وفقاً للقواعدِ الشرعيةِ التي فرضتْها الشريعةُ؟ أم أن هناك استغلالاً لهذه الأموالِ باسمِ المقدسِ؟
من خلالِ الرواياتِ التاريخيةِ، نعلمُ أن الخلفاءَ الأوائلَ، مثل أبي بكرٍ وعمرَ وعليٍّ، كانوا يوزعونَ الأموالَ التي تجمعُ من الزكاةِ والغنائمِ بشكلٍ شفافٍ وعادلٍ بين أفرادِ المجتمعِ. كان كلُّ فردٍ يعرفُ مقدارَ حقِّهِ، ولم يكن هناك مجالٌ للشكِّ في نزاهةِ التوزيعِ. ومع ذلك، كانت هناك أصواتٌ تشككُ في عدالةِ القسمةِ، وهو ما يظهرُ أن الشكَّ في نزاهةِ الحكامِ ليس وليدَ العصرِ الحديثِ.
لكن الوضعَ اليومَ يختلفُ تماماً. ففي عصرِنا الحاليِّ، نعيشُ في مجتمعٍ رأسماليٍّ متحولٍ، حيث تتدفقُ الأموالُ بكمياتٍ هائلةٍ، وتُستثمرُ في مشاريعَ ضخمةٍ. والمؤسساتُ الدينيةُ، التي تجمعُ ملياراتِ الدولاراتِ سنوياً، لم تعدْ تكتفي بتوزيعِ هذه الأموالِ على الفقراءِ والمحتاجينَ، بل أصبحتْ تستثمرُها في مشاريعَ تجاريةٍ وعقاريةٍ وصناعيةٍ. وهنا يبرزُ السؤالُ الأخلاقيُّ: هل من العدلِ أن تُستثمرَ أموالُ الفقراءِ والمساكينَ، التي فُرضتْ لهم بحكمِ الشرعِ، في مشاريعَ تدرُّ أرباحاً طائلةً على المؤسساتِ الدينيةِ، بينما يبقى أصحابُ الحقِّ الأصليونَ في فقرٍ مدقعٍ؟
المشكلةُ تكمنُ في أن هذه الأموالَ، التي من المفترضِ أن تُنفقَ على الفقراءِ والمساكينَ وابنِ السبيلِ وطلابِ العلمِ، أصبحتْ تُستخدمُ لبناءِ إمبراطورياتٍ اقتصاديةٍ تحملُ أسماءً مقدسةً، وتدارُ بأيدي كوادرَ مقدسةٍ، وتُروَّجُ لها في وسائلِ إعلامٍ مقدسةٍ. هذه المشاريعُ، التي تُفتتحُ باحتفالاتٍ مهيبةٍ ويعلنُ عنها في كلِّ مكانٍ، سرعانَ ما تتحولُ إلى آلاتٍ لاستنزافِ جيوبِ الفقراءِ أنفسِهِم.
خذوا على سبيلِ المثالِ المستشفياتِ التي تُفتتحُ بأسماءٍ مقدسةٍ. في البدايةِ، تُقدمُ الخدماتُ الطبيةُ مجاناً لفترةٍ محدودةٍ، كجزءٍ من حملةِ ترويضِ الجماهيرِ وإقناعِهِم بقدسيةِ المؤسسةِ. ولكن بعد ذلك، تتحولُ هذه المستشفياتُ إلى مراكزَ تجاريةٍ تفرضُ رسوماً باهظةً على المرضى، الذين هم في الأصلِ أصحابُ الحقِّ في هذه الأموالِ. هذا التحولُ من الخدمةِ المجانيةِ إلى الاستغلالِ التجاريِّ هو ما أسميه "المكرَ المقدسَ".
ولو عادَ عقيلُ بنُ أبي طالبٍ إلى الحياةِ اليومَ، لوجدَ أن الأموالَ التي طلبها من أخيهِ الخليفةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، والتي حُرمَ منها، أصبحتْ تُدارُ الآن بأيدي آلافِ "المعاوياتِ" الجددِ. هؤلاءِ الذين يستغلونَ الدينَ والمقدسَ لبناءِ إمبراطورياتِهِم الاقتصاديةِ، بينما يبقى الفقراءُ والمحتاجونَ في ذيلِ قائمةِ الأولوياتِ.
في النهايةِ، ما نراهُ اليومَ هو استغلالٌ فاضحٌ للمقدسِ، حيث تُستخدمُ الأموالُ التي فُرضتْ لمساعدةِ الفقراءِ في بناءِ مشاريعَ تخدمُ مصالحَ فئةٍ قليلةٍ. هذا ليس فقط خيانةً للثقةِ، بل هو أيضاً خروجٌ صارخٌ عن المبادئِ الأساسيةِ للعدالةِ الاجتماعيةِ التي تدعو إليها الأديانُ. إنه "المكرُ المقدسُ" بكلِّ ما تحملهُ الكلمةُ من معنى.
***
بقلم: د. علي الطائي