أقلام حرة

ناجي ظاهر: الطوطم الادبي

لي صاحب جمعتني به مجالس متعددة، حتى مللت مُجالسته، فتوقّفتُ عنها وتوقّفتْ عنّي، وكانت قطيعة لا بُدّ منها تداخلت فيها العديد من الأسباب، وكان احد هذه الأسباب تقديسه الإلهي لاسمين، أحدهما في عالم الادب والآخر في عالم الموسيقى، وكان هذا الصاحب ما إن تتردّد كلمة أدب أو ثقافة بيننا حتى يُعرّج على ذكر مُقدّسه الادبي ذاك، وكأنما هو الواحد والوحيد في العالم، بل كأنما النساء توقّفن عن الحمل والانجاب بعد وضع أمه له. مثل هذا كان يحصل عندما كنّا نأتي على ذكر الفن والموسيقى، وكان يزيد في تقديسه ذاك، فيتناول مِزهرَه المركون منذ أيام عاد، ويأخذ في العزف عليه عزفًا بدائيًا مليئًا بالنشاز وبالخروج عن الإيقاع الموسيقى السليم الذي عادة ما تألفه الاذن المُدربة بالفطرة والسماع.

ما إن كانت تقع الواقعة مع هذا الصاحب، وأنا اتعمّد ذكر كلمة صاحب بدل صديق، سواء كان في مجال الادب والثقافة أو الموسيقى، وأستمع إلى موسيقى ذاك الصاحب المشروخة، حتى كنت أنبري له ناقدًا موضحًا الفرق بين المَحبة وبين التقديس، ففي حين أنه من حق كلّ انسان أن يُحب وأن يكره، كون الواحد منّا حرًّا بمشاعره واحاسيسه، ليس مِن حقّه أن يفرض ذوقه الشخصي، في هذه الحالة غير المدرب أيضًا، على سواه من الناس والمُجالسين، وقد تحملت ذلك الصاحب فترة مِنَ الزمن، إلا أنني فضّلتُ الابتعاد عنه جرّاء محدوديته الفكرية وأسباب أخرى لا مجال وليس من الضروري ذكرها هنا.

اننا عادة ما نلتقي بمثل هذا الصاحب المُشار إليه، في هذا المجلس أو ذاك المحفل الادبي، وعادةً ما يكون مَن نلتقي به هذا، إنسانًا محدودًا وغير متخصّص لا في الادب ولا في الموسيقى وانما هو إنسان عاديّ، وربّما أقلّ قليلًا مِن الانسان العادي، أقول مثل هذا الكلام لأنني أفرّق بين رأي المُثقّف النموذجي والمُثقف العادي وفق تعبير الكاتب الإيطالي البارز اومبرتو ايكو، صاحب اسم الوردة وتمييزه بين هذين. فشتان بين رأي ذاك وذا، وهذا موضوع آخر بالطبع.

بالعودة إلى موضوع حديثنا، المَيل والمحبة من ناحية والتقديس من أخرى، متوقّفين عند التقديس الممجوج، الذي يدُل على محدودية ثقافية ومعرفية، أضيف، انه يوجد في بلادنا وفي عالمنا العربي المُحيط بنا، الملايين مِن أمثال ذاك الغضيب، صاحبي المُنوّه إليه، ولم يتوقّف ما نقوله عن هذا، على عامة الناس وانما تعداه إلى علية القوم الثقافية، إلى النقّاد والكتّاب وقبلهم إلى المؤسسة الثقافة للأسف.

محمود درويش، من بلادنا، نجيب محفوظ، مِن مصر، نزار قباني من سوريا ولبنان، هذه الأسماء باتت منذ سنوات بعيدة أسماء مقدسة، تُذكّر بالأبقار الهندية، وذات صورة تعلو على النقد وتصل حدّ القداسة والطوطمية الأدبية، فنجوم هؤلاء طغت على كلّ النجوم، فبدت كما قال النابغة الذبياني مُبالغًا ومتملّقًا ممدوحه، المُنذر بن النعمان، واصفًا إياه بأنه كأنه شمس والملوك كواكب، شمس إذا طلعت لم يبدُ منهن واحد. المقصود بقية الملوك المُشبّهين بالكواكب.

يقف وراء ظاهرة التقديس هذه، في رأيي أكثر مِن سبب، منها ظهور هؤلاء الطاغي بعد دعم مؤسسات سياسية واجتماعية لهم لأمور في نفسها، ومنها توفر الشروط الملائمة سواء كان من توقيت مؤات ومناسب، أو دور نشر قديرة ومتمكّنة، ولا أنفي بالطبع اجتهادهم الشخصي، الذي عادةً ما اتصف في بداياته كلّ ترويج بالمبادرات الشخصية الذاتية، وكي لا أكون مُجحفًا ولوّ حتى بيني وبين نفسي، بإمكاني القول عن هؤلاء إنهم بذلوا كلّ ما يُمكن لإنسان ان يبذله مِن أجل التجويد في الابداع وبالتالي الوصول إلى ما أرادوا أن يصلوا إليه مِن مكانٍ ومكانةٍ.

أما أولئك المقدسون، لاحظوا أنني ابتدأت اتنازل عن كلمة الميّالين والمحبين، فإن مشكلتهم أكبر أوسع وأعم، فهذه المُشكلة تتضمّن في داخلها العديدَ مِن المشاكل، أشير فيما يلي إلى بعضٍ منها، فنحنُ عندما ننتقل إلى التقديس الشخصي لهذا المبدع أو ذاك، وهذا الكلام يشملُ المبدعين المُقدّسين المذكورين آنفًا، إنما نقوم بالعديد من التجنّيات، المُوبقات والمكاره الثقافية، فنحن بتقديسِنا هذا لهم، نُمارس أقسى وأتفه ما يُمكن أن يقوم به إنسان.

فنحن بهذا نقول دون ان نقول: إن العالم توقّف عند هذا الشخص أو ذاك وإن هذا الشخص بلغ ذُروةً عاليةً سامقةً مِنَ الصعب، وربّما مِن المُستحيل، كما يتجلّي من ظاهرة التقديس، أن تُولد البلاد أو الام التي أنجبت هؤلاء مواليد ومبدعين مُستقبليين مثلهم. أما ما يُثير في الامر هو التناسي المقصود حينًا وغيره آخر، أن الحياة ولّادة، وأنه لا يوجد مُبدع إلا وأتى بعده مُبدع آخر مُستحق، إذا لم يتفوّق في إنتاجه بإمكاننا ان نقول انه يوازي آخرين يقفون في القمم السامقة.

لقد شغلت هذه الظاهرة عددًا مِن النُقاد والمُفكرين العرب، فرأينا منهم (رجاء النقاش)، مَن يكتب مقالة يضع لها عنوانًا لافتًا هو " هل يصبح نجيب محفوظ عقبة في تطور الرواية العربية؟، كما رأينا مَن يتوقّف عند نزار قباني أو محمود درويش رائيًا في كلّ منهما صوتًا طاغيًا ولا يُمكن تجاوزه ابداعيًا، وقد المحت إلى هؤلاء بتحفّظ كبير، لأنهم لم يروا للأسف أيضًا غير قباني ودرويش!!.

هذه الظاهرة المُريعة التي يمكن وصفها بأنها ظاهرة إيجابية في ظاهرها، كونها تسلّط الأضواء على مَن يستحق، ما هي الا ظاهرة تدميرية، لا تستفز المبدعين الآخرين فحسب، وإنما هي تزرع الحسرةَ في قلوبهم وأرواحهم المُرهفة، وهي في أبسط ما تؤدي إليه، تؤدي إلى منح القلة وحرمان الكثرة. إنها ظاهرةٌ بدائيةٌ، اعتقد أن الشعوب المُتقدمة قد تجاوزتها منذ آماد بعيدة، إنها باختصار ظاهرة تُشبه وتُذكّر بظاهرة الطوطم، والطوطم لمن لا يعرف هو أي كيان يُمثّل دورَ الرمز للعيلة والقبيلة، وأحيانا يُقّدس باعتباره المؤسس أو الحامي الذي لا حامي سواه!.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم