أقلام حرة

نهاد الحديثي: ثقافة التجاهل

يقولون ان التجاهل فن لا يعرف حلاوته إلا الشخص الذي يعيش على خطاه، لذا عليك أن تعيش كما تريد، وبالطريقة التي تريد، وليس كما يريد من حولك. وعليك أن تتجاهل كلام الناس والتعليقات، التي تأتيك يومياً من أشخاص هدفهم الأساسي هو إيذاء الآخرين بكلامهم، وجعلهم يفقدون الثقة والأمل، فمختلف الأحكام والكلام الذي تسمعه عنك هو مجرد كلام، ولا بد أن تتخطاه وتتجاهله، وكما يقال: إن أتقنت فن التجاهل اجتزت نصف مشاكل الحياة، فمن يعيش بسلام عليه ان يحترف فن التجاهل، فالتجاهل نصف السعادة، وهو ليس صفة سلبية دائماً كما نعتقد، فربما تكون كذلك في بعض المواقف، ولكن في معظم الأوقات يكون التجاهل هو الحل مع الأشخاص السلبيين، الذين يرسلون إلينا ذبذبات محملة بالحسد والكراهية والغيرة والمقارنة والتعالي، علماء النفس يقولون انس واصفح وتناس وتجاهل تكتيكياً من أجل صحتك، ما أصعب الأصدقاء والأحباب، حينما يصبحون غرباء ومتقلبين يتجاهلون لحظات الأنس، والسمر، هناك تجاهل يستحق أن تمنحه فرصة أخرى، وهناك تجاهل لا يستحق معه إلا الرحيل

يمكن أن نقول إن هذه الظاهرة موجودة عبر التاريخ، لكنها تطورت بشكل مذهل في العقدين الأخيرين، ويمكن أن نعزي السبب إلى «المؤسسة الإعلامية» التي تميل إلى الاهتمام بالقضايا غير الجادة لوجود قناعة أن الناس تهتم بالترفيه وبالأخبار الخفيفة أكثر مما أصبح يسمى «القضايا المتخصصة». بل إن المتابع للمنتج الفكري والأدبي الذي كان يطغى على الصحافة سوف يجد تحولا عميقا في نوعية القضايا وعمق الكتابة وحجمها، الصحف لم تعد تتحمل المقالات الطويلة «فالناس لا تقرأ»، وأصبح من الذكاء أن توصل الفكرة بأقل الكلمات فخير الكلام ما قل ودل، حتى لو أن المسألة تتطلب التفكيك والإسهاب. يكمن هذا التوجه في نظرية تطورت مؤخرا، لا أعلم مدى صحتها، وهي أن البشر بطبيعتهم يميلون إلى المسائل المسلية والبسيطة ولا يريدون أن يشغلوا أنفسهم بالقضايا الجادة، انعكست هذه النظرية على التعليم والعمق الذي يجب أن يصل له الطالب فخريج الابتدائية قبل 70 عاما أفضل من خريج الجامعة اليوم، على الأقل في قدرته اللغوية والتعبيرية، وبما أننا في بداية العام الدراسي، ومع تزايد الذكاء الاصطناعي في عمل الواجبات والبحوث المدرسية فمن المتوقع أن تصبح مهمة التعليم أكثر صعوبة ومهام المعلم الجاد شبه مستحيلة

الوجه الآخر لثقافة التجاهل هو مقدرة من يعمل بصمت على تجاوز التهميش أو من يقلل من شأنه ومن عمله، فالبشر لا يواجهون امتداد ثقافة التفاهة وانتشارها فقط، بل إن هناك توجهًا متزايدًا للتقليل من شأن العمل الجاد وتحقيره.. وأتذكر هنا ما تشير له الآية الكريمة وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، فمن طبيعة البشر استصغار الآخرين وتحقير أعمالهم، خصوصًا إذا لم توافق هواهم ، ونعتفد أن تطوير القدرة على تجاهل مثل هذا الاستصغار والتهميش أصبح مهارة ضرورية في الوقت الراهن وفي المستقبل. فالقرآن يقول «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم»، وكأنه يشير إلى أن هذه الحياة اختبار كبير لمن يريد أن يترك أثرا في الناس، فمن يتبع طريق التفاهة هم الغالبية وطريق العلم الجاد محفوف بالأشواك،

الفنان المصري العالمي عمر الشريف في إحدى المقابلات عندما قال إن كل ما حققته لا يساوي شيئا أمام وجودي في محيط اجتماعي وأسري يشعرني بالألفة، فأنا أعود إلى البيت وحيدا حزينا وأشعر بالانقباض، وكم من شخصية رحلت مهمة رحلت وحيدة لم يشعر بها أحد، التجاهل هو حقاً نعمة، فهو يعيد كل إنسان إلى حجمه الحقيقي.

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم