أقلام حرة
الطيب النقر: البطالة
أضحت الوظيفة التي تمتد نحوها الأعناق، وتطمح إليها العيون، وتقف دونها الآمال، في واقعنا المتردي أنأى من الكواكب، وأبعد من الثريا، الأمر الذي دفع من لفظتهم البلاد، ومجّتهم الأمصار، أن يكون الاغتراب سمير قلوبهم، ونجيَّ أفئدتهم، بعد أن أناخت بفنائهم غواشي اليأس، وحطت بساحتهم حزم القنوط، من دولة تفرش لهم جنابها، وتبوئهم كنفها، فالخريج الذي تاقت أسرته أن يدفع عنهم غوائل الدهر، ونوائب الزمان، بعد تخرجه، وجد نفسه بعد التخرج منحوس الحظ، مغبون الصفقة،ٍ فقد بحث عن وظيفة يعين بها والده الذي اعوجت قناته، وخذلته قوته، في شعاب الوادي، وبطون الفجاج، وأشباح المدن، دون طائل، وحكومة المؤتمر الوطني وما أتى بعدها دأبوا على أن يولوا صيحات المكلومين دبر أذآنهم، لقد انتظرت جموع الخريجين طويلاً أن تنتاشهم هذه الحكومات من العثار، وتنقذهم من المهالك والحتوف، ولكنهم لم يجنِوا من انتظارهم سوى الوعود العجفاء، ولعل الأمر البعيد عن معترك ظنونه أن الوظيفة التي يخوض إليها غمرات الحوادث، ويركب دونها أكتاف الشدائد، كان المتقلبون في السيادة، والمضطلعون برعاية الذمام، يصطفونها لمن لزم غرسهم، واستنّ بنهجهم، كان هذا ديدن الدولة قبلة الراجي، وكهف الآمال في عهد التمكين الذي اختلت بسببه منظومة الإدارة وأدى لأن يكون كل مرفق من مرافق الخدمة العامة معتلاً يفتقر إلى علاج.
إنّ نواطير الشباب الذين تشربتهم حمى الفراغ، وبانت على وجوههم التواقة للخلاص نهكة الملل، غاية آمالهم، وحديث أمانيهم، أن تقدِّم الدولة التي تحسم الحرب، وتفرج الكرب، وتقيم الأود، وتحسم الداء، على إطلاق عقال الوظائف، وحل وثاقها، بعد أن تضع هذه الهيجاء أوزارها، فقد استنفذت تلك الجموع وسعها، واستفرغت جهدها، في البحث عن الرزق الشرود، الذي من أجل نيله صهرتهم الشمس، وفدحهم الزمهرير.
ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن السوءة الشنعاء، والمعرة الدهماء، البطالة التي هي بلا شك معضلة أرّقت مضجع الأمم، نال السودان منها الحظ الأوفر، والشقص الأغر، فالسواد الأعظم من أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، ألقوا عصاهم في ديار احتفت بأحلامهم الجذلة، بعد أن أوصد الوطن أمامهم الأبواب، فخريج الأداب أو الهندسة، تتضع رتبته، وتنحط درجته، وتسقط منزلته، إذا لازم حلس بيته، بل ربما دفعه الفراغ الناجم عن عدم الوظيفة إلى مخاتلة الدنايا، ومقارفة العيوب، وقبيلة "العطالة" التي سهم وجهها، وأسدف سناؤها، تكأدتها نوازل الفراغ، وطرقتها محن البطالة، فغدت تتهتك في شعاب الباطل، وتمسي في بيداء الغواية، فلا أوخم مرعى من الفراغ، ولا أزيد في الشناءة من خلو الشاب الجلد من عمل يفني فيه هدير طاقته، ويقيه شرور البطالة التي هي بلا شك أم الرذيلة، ومصدر العلة، ومنبت الأوهام، وعقل العاطل عن العمل كما يقول المثل الفرنسي مرتع للشيطان، لذا يجب على أرباب الحكم والتشريع أصحاب الحدّ الذي لا يفلُّ، والشأو الذي لا يلحق، أن يحنو على هولاء الشباب الذين حُببت لبعضهم الوحدة، وزُينت لهم العزلة، حتى يتقوا وخزات العيون، وقوارض الألسن، من الأعطية، ويكثر لهم من الهبات، ويجزل لهم من الصلات، فهم لعمري سواعد البناء، وموئل الفداء.
***
د.الطيب النقر