أقلام حرة
مزهر جبر الساعدي: التنصت على الجياع بأجهزة فائقة الذكاء
من المؤسف ان أوطان العرب الى الآن؛ خارج كينونة الوجود، ونواميسه، وبوصلته، وخرائط الطريق في صناعة التمكًين، الذي ينتج سيرورة ركائز التواجد في الوجود لتاريخ كلي الوجود، سريع التحرك، بمحركات كونية، تتدافع أليات طرق التاريخ هذا في جميع ارجاء المعمورة، ليس معها ألية التاريخ العربي، فهي متوقفة تماما؛ لأعطال اساسية وتكوينية في اصل مكونات محرك التاريخ لجغرافية العرب كقارة. جغرافية كانت على قوارع مسارات الوجود التاريخي؛ لعقدين او اكثر من العقدين، ربما اكثر من هذين العقدين اللذين مضيا، بفعل مفاعيل الفاعل المحلي المتحكم تحكما يكاد يكون تاما (النظام الرسمي العربي) والاقليمي والدولي. يموت فيها كل جميل. يتعملق فيها كل قبيح. يتجذر في منابت تربتها كل فاسد ومفسد ومستبد وشرير. عبرت أليات التاريخ الكوني عليها. ظلت ألية التاريخ العربي متوقفة تماما، بانتظار حتى اللحظة؛ اعادة صناعتها، بعقول خبرائها، ومهندسوها وفنيوها، ومكوناتها من مواد تربتها؛ لتحمل البلاد والعباد، وتعبر بهما الى الي الجانب الأخر الذي فيه؛ تواكب في المسير، حركة التاريخ في جميع اصقاع العالم. لتبدأ مسارها في قلب الطريق التاريخي وليس على قارعته. بين خط الشروع المفترض هذا، والذي لا يعلم بزمن الذي يستغرقه الوصول الى خط الانطلاق المفترض هذا، الا الله جل جلاله، وصحوة الجياع والمظلومين؛ بمعرفة مسببات هذا الجوع وهذا الظلم، وهذه الحروب البينية العبثية في الوطن الواحد، وبين الشعب الواحد، ليس لهم فقط، بل لأرضهم ولتاريخهم ولقيمهم، ولضياع فرصتهم في ان يكونوا واوطانهم كباقي شعوب الارض واوطانها؛ تحت شمس العدل والحرية والتنمية والتطور. المؤسف المؤلم الذي يوجع القلب والعقل والنفس في آن واحد؛ في جغرافية العرب هذه، التي لا انوار ولا اضواء فيها تضيء الدروب التي في مفاتحها؛ يبدأ التنوير؛ لا تبصر فيها باصرات الناس، ولا بصائر العقول، الا العتمة القاتلة. هذه العتمة التي كان وجودها وسيادتها التي تكاد تكون سيادة تامة، لم يكن من فراغ، بل لها مولدها ومنتجها حتى طغت واطفأت جميع مصابيح التنوير.. والانارة. مما قاد او كان من نتيجة هذا؛ ان اختلطت الطرق العديدة في الساحة التي منها تبدأ جميع المسارات، الصالح، وطالح، وصافي ونقي النية، في طريقين مختلفين كليا، طريق الى الهدف الشريف، و طريق مخادع وكذاب. ليكون طريق الجوع والظلم والحروب، هو الطريق؛ لوضع العباد والبلاد خارج مسار التاريخ خلال عقود خلت والي الآن، لأغلب دول جغرافية العرب هذه، وليس جمعيها الذي ربما لا يتعدى اصبع او ربما اصبعين من اليد الواحدة على ابعد عدد محتمل. على هذا الطريق؛ جنود الطغاة الصغار يفترون في كل ليلة مظلمة في الشوارع والساحات والحدائق التي لم يبق منها سوى الاسم. مع انها والحق لابد من ان يقال؛ مع انها في النهار قبل مغيب الشمس، ممتلئة حد الازدحام بالحركة والناس. انهم يتدافعون، يتزاحمون في كل دقيقة وساعة من النهار، قبل ان يحط الليل بمفاجأته عليها وعليهم، والتي هي خارج توقع الناس وتحسباتهم؛ مفاجأة من تلك التي يزرعها عسس الليل وازلام الطغاة بعيون المراقبة والتحقق. هؤلاء الناس يبحثون عن فسحة من الآمل، ولو صغيرة تكفي لموطأ القدم، يتوافر فيه رزقا يحفظ حياة الأنسان من الإنطفاء. هذه الحياة التي هي ومن جميع دروبها، من جدران البيوت، من الأزقة الضيقة؛ تسمع خلائق الله فيها، على ارض الله هذه، صوت العدل من سماء الله، الذي تصادى في جميع هذه الأنحاء. الجوع والرصاص يركضان عاريان فيها، من غير اي غطاء يستران فيه عورتهما. عيون الارامل والثكلى واللواتي قتلهن الجوع والعوز والحرب وفوهات البنادق والمدافع؛ تحدق في مناظر هذا العراء، بخوف وخجل ودهشة وانذهال، إنما بعيون تنزل الدموع مدرارا منها على الخدود المصفرة التي لونها بلون الشمع الذي ينذر بقرب الموت. في زوايا تلك البيوت؛ اطفال يصرخون جوعا، او خوفا في بيوت فارغة من رعاتها الذين هربوا الى البحر، وعبره الي اي مكان اخر، لا جوع فيه، لتوفير قوت العيش والحياة لأهلهم الذين تركوهم في بيوت الديار، أو في حالات اخرى؛ هربوا الى امكنة، لا خوف فيها من عصا السلطان، انه في النهاية؛ هروب غير ذي نفع في ايجاد ظروف وشروط، يكون فيها الأنسان انسانا حرا، بل ان الصحيح واقعيا طبقا للنتائج التي تتمخض عن هذا الواقع المختلف والجديد؛ هو المضاد تماما؛ لغايات الهروب، أنها احلام يقظة، ليست في الخيال، بل في الواقع المؤسس بإرادة الأنسان على وهم الاوهام. تبحلق هذه العيون في الجدران وفي الابواب، علها تفتح ويدخل الراعي. لكن لا شيء يحدث ولا احد يجيء. لا يسمعون سوى صمت الخوف ورهبة المكان. عسس الطغاة حين يمرون في الليل على مقربة من البيوت تلك الفارغة من عرابيها، الا الاطفال والرضع والنساء والشيوخ؛ يتنصتون على بعد اشبار من النوافذ، بأجهزة تم صناعتها في مصانع كبار طغاة الارض؛ دعما منهم لطغاة ارضنا الصغار، وتقوية لأعمدة عروشهم كي لا تنهار وتسقط الى الارض، بقوة زخم ثورة وغضب الجياع، هذه الأجهزة، لها قدرة فائقة على التقاط همس الصوت وحتى النأمة وحتى صور الوجوه وان اختفت وراء برقع او حجاب او ستار. لا يجيء الى مسامعهم وابصارهم الا السكون المحمل برعب الامكنة، وصراخ الجوع من الافواه، وترى ابصارهم وجوه مصفرة، رسم الموت المؤجل وجوده في عيونهم. يقول احدهم للأخر:- لا شيء هناك يقلق أمن الناس واستقرار المكان. لذا؛ تظل تلك الامكنة؛ حلبة لاقتتال الأخوة الاعداء. الطغاة كل طاغية في مملكته، يحكم الناس بالحديد والنار ككل طواغيت الارض والتاريخ؛ اقاموا منصات شرف في تلك الملاعب. يشاهدون اشواط صراع واقتتال الأخوة، من على شرفاتهم. ليس بمهمة كمية الدماء التي تسيل من الاجساد حد الموت في بيوت وشوارع ومباني كل المباني يعمها الخراب والانهيار والدمار. المهم هنا ان الأمن مستتب في المملكة او في الجمهورية او تحت اية تسمية تم بها تسمية نظام حكم في هذه الدول العربية. اذرع الأمن؛ أمنوا الأمن في جميعها. لكن ظل الجوع والخوف ورعب ورهبة الرصاص في تلك الامكنة؛ احرارا في كل الزوايا وفي جميع الدروب والبيوت؛ لا رقيب او متابع يحد عليهم تحركاتهم، ويقلص عليهم مساحات حركاتهم، بل تركوا تماما في التوسع والتمدد في جميع اركان الوجود في هذه الجغرافية العربية الا القليل جدا منها ربما. ليس هذا بمهم ما دام امن السلطان الحاكم بأمر من الله مستتب، وما دام كرسي الحكم مستقر على قواعد لا تهتز. المهم اباطرة كرة الارض العظماء والكبار؛ راضون وممتنون للحاكم بأمر ابليس والشطان على الارض هذه.
***
مزهر جبر الساعدي