بأقلامهم (حول منجزه)
طه جزاع: شعاع من أوقيانوسيا
لم تمنع المسافات البعيدة، ولا الغربة المقيتة، ولا دورة الزمان وتقلبات الأيام، باحثاً نقدياً، وكاتباً جدلياً، مثل ماجد الغرباوي عن مواصلة مشروعه الفكري النقدي الذي يحفر عميقاً في الموروث التراثي والأخلاقي والفقهي بهدف عقلنة المقدس الديني على الرغم من الاختلافات الظاهرة بين العقل والنقل، والمنطق والنص المقدس، لكنه يجتهد في تعزيز الروابط بينهما تأسياً بفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال بحسب تعبير ابن رشد فيلسوف قرطبة. ومنذ بواكير شبابه، وفي وقت مبكر دشن مشروعه هذا، وهو مشروع محفوف بالعقبات والمزالق والقنابل الموقوتة التي قد تؤدي إلى سوء الفهم والتأويل مما يعرض صاحبه لاتهامات خطيرة قد تؤدي به إلى نتائج لا يتحمل عواقبها إلًّا قلة من الرجال.
ما يقرب من نصف قرن، وفي السنوات اللاحقة، بحث الغرباوي في إشكاليات التجديد، وفرص التعايش بين الأديان والثقافات، وفي أنسنة التراث، وتحديات العنف، مخاطراً بالولوج إلى نقد التفكير الديني، ونقد الحركات الإسلامية في حدود تجليات الوعي، وحين وجد نفسه منذ البداية مكبلاً وربما محاصراً ومطارداً أفرد جناحيه للريح وحلق بعيداً من بلد إلى آخر حتى وصل جزر أوقيانوسيا وحط رحاله في سيدني بين بحر تسمان المتفرع من المحيط الهادىء والجبال الزرقاء ليواصل بث اشعاعه ويقدم اجتهاده في الكثير من التحديات التي تواجه الفكر العربي المعاصر ومرجعياته النَّصية. وفي بلاده الجديدة التي منحته الحرية والأمان والهدوء، والبعد عن عَسَس السلطان وتسلط الغلمان، لم يتقاعس أو يركن إلى الكسل والدعة والخمول، فأنشأ مؤسسة وصحيفة "المثقف" لنشر المقالات والحوارات والتقارير والنصوص الأدبية والفكرية التي تخدم مشروعه النهضوي التنويري، فضلاً عن سلسلة كتبه التي جمعها تحت عنوان "متاهات الحقيقة".قبل أشهر، فوجئ الغرباوي ببعض كتَّاب واسرة تحرير الصحيفة وهم يعدون العَّدة لتكريمه بكتابٍ لمناسبة بلوغه السبعين عاماً، وكنتُ عازماً على المشاركة فيه بمقال وافٍ لولا أنني سهوت عن ذلك. وهذا العمود القصير تهنئة له، ولو جاءت متأخرة .
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي