بأقلامهم (حول منجزه)
عبد الستار نورعلي: ماجد الغرباوي و"مديات حلم"
توغّلْ .. توغّلْ
فلذيذُ الطعنات
آلامُها
***
يتكرر هذا البوح بالألم، في قصيدة الباحث الأديب ماجد الغرباوي "مديات حلم". هذا التكرارُ خلاصةُ الجرح فيه، جسداً وروحاً. إنّه بيت القصيد، الذي يدور في دوامته النصّ. هو المخاضُ الذي وُلدَ من رحمه ما يحمل مضمونه من أحاسيس، وتفاصيل، وصور:
آهاتٌ تساقطتْ،
فراحتْ تـُلملم جـُرحَها،
ولمّا اقتحمت فناءكم،
كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا
هي الآهات إذن، الآهاتُ التي تساقطتْ، وهي تلملم جرحَها. جرحٌ أمطرَ في فنائنا هذا الشدو الشجيِّ، الموغلَ في عمق النفس المبدعة، لتمطرَنا بهذا البوح. إنّه القلب المضمّخ بالألم. الألم الذي يرفع الكلمة اضاءةً لما في داخل النفسِ من كلامٍ، يحمله الكاتبُ ليمرّ علينا بقنديلهِ، معتذراً لما قد يسيلُ من أنامله ما يقتحمُ قلوبنا جُرحاً فنتألم. مع أنّهُ ألم لذيذ نحتسيه. وهو الغرباوي المتوغل عميقاً. فيمَ يا تُرى؟:
في مدياتك القصية حلمٌ
شاسعان جناحاك
حلِّقْ ...
فلن تجدَ سوى الريح موطئا
هو الحلم. والتوغل ليس في عمق الأسفل، إنما هو في شاسعات الأعالي .. هناك حيث أقاصي الفضاء الرحب. والتحليقُ بجناحين، فارعين شاسعين. بامكانهما الطيران الى أعلى فأعلى .. هناك الحلم السابح في نور الشمس. هو حلم الخلاص من الجرح وآلامه، للتحليق ثانيةً الى أقصى فأقصى .. حيث المدياتُ الفسيحة. واللهفة تشدّه. وقودهُ دمُه المراقُ، الذي يحرقُ جوانحهُ ألماً ورغبةً في الخلاص، وتوقاً إلى معانقة النجوم، وإلى الطيران في الهواء والفضاء الشاسع:
تشدُّكَ ازرارُ اللهفة
وقودُ حناياك دمي
هذه اللهفة في الخلاص، مشدودةٌ الى التحدي، تحدي الجراح للتخلص منها بقوة وعزيمةٍ وعمق كأنامل الشمسِ وهي تغور عميقاً لتمزّقَ الشرنقة فينطلق الغرورُ مقتحماً المدى للوصول الى الحلم المُنتظَر. لا يعني الغرورُ هنا التكبّرَ، وإنّما الثقة العارمة بالنفس وقدرتها على تحمّل صخرة الألم الثقيلة الخانقة. الانتظارُ ليس بالاستسلام للقدر، وإنّما بالسعي الحثيث، والشجاعة الارادة الصلبة والاصرار على المواجهة، وجعل اليد سلّماً للوصول إلى النيازك لافتدائها. فاليد هنا علامة القوة والعزيمة في التصدي والمقارعة، والأمل في اقتناص الحلم:
عميقاً تهادت أناملُ الشمسِ
تمزّق شرنقةَ الغرورِ
*
سُلّـمٌ يدي
تفتدي
سنا النيازك
وهذا ما يُذكّرنا بما قاله حافظ ابراهيم :
مَنْ رامَ وصلَ الشمسِ حاكَ خيوطَها
سـبباـً إلى آمـالـهِ ..... وتعـلّقـا
روحُ التحدي للآلام وجراحها النازفةِ، ومواجهتها بالشجاعة والقوة النفسية والارادة الحديد، تعيدُنا الى الميثولوجيا الأغريقية وقصة الإله برومثيوس، التي وظّفها الكثير من الشعراء في مضامين قصائدهم لخدمة ما يرمون اليه. ومنهم أبو القاسم الشابي في قصيدته "هكذا غنّى برومثيوس"، قصيدة التحدي والمصارعة، ومقارعة الألم باشدِّ القوةِ والعزم والتحمّل، وبالاصرار على مواصلة الحياة ونشيدها، وبالانشداد الى حبِّ الانسان وحلمه في نشر النور والمعرفة والدفء، مثلما ترمز اليه قصة الإله برومثيوس، ومثلما كانت حياة الشابيّ انساناً وشاعراً:
سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ
كالنسرِ فوق القمّةِ الشمّاءِ
*
أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ هازئاً
بالسُحْبِ ، والأمطارِ ، والأنـواءِ
*
لا أعرفُ الشكوى الذليلةَ والبكا
وضراعـةَ الأطفالِ ، والضعفـاءِ
كانَ برومثيوس سامقاً شامخاً، وهو يقارع آلامه متحمّلاً متحدياً قوياً، حتى خلّصهُ هرقل من عذاباته. وكذا كانَ أبو القاسم الشابيّ (برومثيوس). وهكذا هو الغرباويّ:
سامقا تعاقرُ آلهةَ الحبّ
مترعةٌ جداولُ الصباح
بذلك الضباب الرومانسي
فهل الحلم بالخلاص رومانسية ضبابية، أم هي القوة والشجاعة التي تعين على الصبر حتى مجيء الخلاص؟ وهل ننسى قصة النبي أيوب (ع) مع الصبر والتحمّل؟
إننا أمام برومثيوس صابراً هازئاً بالسحب والأمطارِ والأنواءِ. وعليه فهل يمكنُ لنا أنْ نسمّيَ النصَّ هذا (برومثيوس سامقاً)، وذلك لاحتوائه على اشارات السموق والترفّع عن الشكوى الذليلة. هو في أخدود نار الألم، يعاقر آلهة الحبّ خمور الحبِّ والنور والرومانسية الحالمة.
اعتماد أديبنا الغرباويّ على التكرار لنصٍّ داخل النصّ، هو للاشارة التأكيدية على معنىً. هذه الاشارة كما أسلفنا هي بيت القصيد. فما يدور حولها هو دخول في تفاصيلها، حسّاً، ومضموناً، وصوراً. إنّ الألم هو خالق النصِّ، بما أحدثه في النفس، لتتفجّر بما باحتْ لنا. إنه الألم الناشب أظفاره ، لكنّه مع طعناته لذيذ، لأنه يخطّ العمق والسموق واليد التي تطال النيازك، ويُفجّرُ جداول الصباح المنير مترعة بالرومانسية والقوة الذاتية. وهو الذي أبدع هذا النصَّ الزاخر بالحسّ الرومانسي الرهيف، واللغة الجميلة، والصور الشعرية الرقيقة.
للثقافة العميقة محيطاً شاسعاً، أثرُها في النفس وفي الفكر وفي البصر. في النفسِ فضاءً مشرقاً مفتوحاً على نوافذ عديدة. في الفكر تحليقاً بأجنحة، لا جناحين فحسب. في البصر منفتحاً على آفاقٍ بألوانٍ مختلفة. وعندما تكون الثقافة مستندة إلى جذع شجرة الموهبة والابداع، مدعومة بالقلم والكلمة، عندها نحضى بما يطيب، وبما ينفع، وبما يدهش. وهذا ما التقطناه في مبدعنا الكبير ماجد الغرباوي، المثقف المغرم بالكلمة مكتوبةً متفجّرةً، هو هذا المثقف المتعدد فنون الكلمة، ليبرزَ بحثاً وقصّاً... ثم شعراً.
***
عبد الستار نورعلي
فجر السبت 13/7/2013
.........................
ماجد الغرباوي: مديات حلم
عميقا تهادت أناملُ الشمسِ
تمزّق شرنقة الغرورِ
*
سُلّـمٌ يدي
تفتدي
سنا النيازك
*
توغّلْ .. توغّلْ
فلذيذُ الطعنات
آلامُها
*
سامقا تعاقرُ آلهة الحب
مترعة جداول الصباح
بذلك الضباب الرومانسي
*
توغّلْ .. توغّلْ
فلذيذ الطعنات
آلامُها
*
في مدياتك القصية حلمٌ
شاسعان جناحاك
حلقْ .. فلن تجدَ سوى الريح موطئا
*
تشدكَ ازرارُ اللهفة
وقود حناياك دمي
*
توغّلْ .. توغّلْ
فلذيذ الطعنات
آلامُها
***
آهات تساقطت، فراحت تـُلملم جـُرحَها،
ولمّا اقتحمت فناءكم، كان عليَّ أن اعتذر لكم جميعا
***
ماجد الغرباوي
5 – 7 - 2013