أقلام فكرية

زهير الخويلدي: الخيال الشعري والذاكرة السردية

بين غاستون باشلار وبول ريكور

مقاربة لغوية فلسفية

مقدمة: الخيال الشعري والذاكرة السردية هما مفهومان أساسيان يتخللان أعمال غاستون باشلار وبول ريكور، وهما شخصيتان بارزتان في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. يقترح باشلار، في استكشافه للصور الشعرية والعناصر المادية، ظاهراتية للخيال تُركّز على الإبداع والقطيعة مع الواقع. أما ريكور، فقد طوّر تأويلات للذاكرة السردية، حيث يصبح السرد أداةً لبناء التجربة الإنسانية وإضفاء معنى على الزمن. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل أوجه التقارب والاختلاف بين هذين المفكرين، واستكشاف كيفية تفاعل الخيال الشعري لباشلار مع الذاكرة السردية لريكور من منظور فلسفي. سنبحث كيف يُتيح لنا هذان المفهومان التفكير في الذاتية، والعلاقة بالزمن، وبناء المعنى، مع التساؤل عن آثارهما على فهم أعمق للتجربة الإنسانية. كيف يعرف غاستون باشلار الخيال الشعري؟ وماهي دلالة الذاكرة السردية عند بول ريكور؟ وهل يمكن اجراء مقارنة فلسفية بينهما؟ وبأي معنى يتحدث باشلار عن الذاكرة ويوظف ريكور الخيال؟

أولاً الخيال الشعري عند غاستون باشلار

فينومينولوجيا الخيال

في أعمال مثل "الماء والأحلام" (1942)، و"الهواء والأحلام" (1943)، و"شعرية المكان" (1957)، طوّر غاستون باشلار نهجًا أصيلًا للخيال، ميّزه عن الإدراك أو الفكر العقلاني. يرى باشلار أن الخيال الشعري ليس مجرد زينة أو هروب، بل هو قدرة ديناميكية تُشرك الإنسان في علاقة عميقة مع العالم. ويرى أن الخيال الشعري متجذر في الصور المادية (الماء، النار، الهواء، الأرض) وفي النماذج الأولية التي تُشكّل اللاوعي الجمعي. يقترح باشلار "ظاهرية الصورة الشعرية"، استنادًا إلى فكرة أن الصورة ليست انعكاسًا سلبيًا للواقع، بل هي إبداع فاعل يتجاوز المعطى. وفي "شعرية المكان"، يكتب: "الصورة الشعرية لا تخضع للديناميكية. إنها ظاهرة أصيلة". تشير هذه الفكرة إلى أن الخيال الشعري قوة مستقلة، قادرة على إنتاج المعنى دون الخضوع للمنطق السببي أو التاريخي.

الخيال والقطيعة مع الزمن

يرى باشلار أن الخيال الشعري يُشغّل شكلاً من أشكال تعليق الزمن. فبتحرره من قيود الواقع الموضوعي، يُتيح للفرد الاستقرار في "لحظة شعرية"، لحظة حضور خالص حيث يُعيد الذات الاتصال بحميمية وجودها. تتناقض هذه الزمانية اللحظية مع المفهوم الخطي للزمن، وتُبرز قدرة الخيال على تجاوز الذاكرة التاريخية أو الواقعية للوصول إلى ذاكرة أعمق، ذاكرة الصور البدائية.

ثانيا- الذاكرة السردية عند بول ريكور

السرد كبنية للمعنى

في أعمال مثل "الزمن والسرد" (1983-1985) و"الذاكرة والتاريخ والنسيان" (2000)، يضع بول ريكور السرد في صميم تأملاته حول الذاكرة والهوية. يرى ريكور أن الذاكرة السردية هي العملية التي يُضفي بها الفرد والمجتمع معنىً على تجربتهما من خلال الحبكة ("المحاكاة"). من خلال هيكلة الزمن، يربط السرد الماضي والحاضر والمستقبل في ترابط ذي معنى. يكتب ريكور: "يصبح الزمن إنسانيًا بقدر ما يُعبّر عنه سرديًا". ذاكرة السرد ليست مجرد استرجاع للحقائق، بل هي إعادة بناء فعّالة تُشرك الخيال. يُميّز ريكور بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، مُؤكدًا على أن السرد يلعب دورًا محوريًا في بناء الهوية الشخصية والاجتماعية. يُبرز هذا النهج التأويلي قدرة السرد على التوسط في التجربة الإنسانية، ونسج الروابط بين الأحداث المتباينة.

جدلية الخيال والذاكرة:

يرى ريكور أن الخيال يلعب دورًا رئيسيًا في ذاكرة السرد. ينطوي فعل السرد على "خيال مُنتج"، لا يُعيد إنتاج الماضي فحسب، بل يُعيد تشكيله أيضًا بإعطائه شكلًا جديدًا. هذا البعد الإبداعي للخيال السردي يشبه ما يسميه ريكور "توليف التباين": إذ يوحد السرد عناصر متفرقة (أحداث، نوايا، ظروف) لإنتاج معنى متماسك. وهكذا، فإن الذاكرة السردية ليست ساكنة، بل ديناميكية، وتعتمد على عمل خيالي يتجاوز الواقع المجرد.

ثالثا- التقارب والتباين

التقارب: الخيال كقوة إبداعية

يتشارك باشلار وريكور في رؤية للخيال كملكة إبداعية أساسية لفهم التجربة الإنسانية. فبالنسبة لباشلار، يسمح لنا الخيال الشعري بتجاوز الواقع للوصول إلى حقيقة وجودية، راسخة في الصور المادية والنماذج الأصلية. أما بالنسبة لريكور، فإن الخيال السردي يُهيكل الزمان والهوية، محولاً شظايا التجربة إلى قصة متماسكة. وفي كلتا الحالتين، يُعد الخيال وسيطاً بين الذات والعالم، ووسيلة لإضفاء شكل على ما لا شكل له. كما يُشدد كلا المفكرين على البعد غير النفعي لمفاهيمهما. فخيال باشلار الشعري ليس له غرض عملي؛ إنه تجربة حرية وتأمل. وبالمثل، فإن ذاكرة ريكور السردية، على الرغم من أنها تُستخدم لبناء الهوية، تتجاوز وظيفتها النفعية البسيطة بالانفتاح على بُعد أخلاقي ووجودي، حيث تُدرك الذات نفسها في تاريخها.

التباينات: اللحظة الشعرية مقابل الزمن السردي

على الرغم من هذه التقاربات، تتباين مقاربات باشلار وريكور في عدة نقاط. يُفضّل باشلار اللحظة الشعرية، وهي زمنية متقطعة تقطع مع خطية الزمن التاريخي. أما الخيال الشعري، فهو بالنسبة له هروب من الزمن، وانغماس في أبدية الصور. أما ريكور، فهو جزء من زمنية متصلة، حيث يُعبّر السرد عن الماضي والحاضر والمستقبل. تتجذر الذاكرة السردية في التاريخ واستمرارية الهوية، بينما يسعى الخيال الشعري عند باشلار إلى التحرر من هذا القيد.

يكمن فرق آخر في علاقتهما بالواقع. يرى باشلار أن الخيال الشعري قطيعة مع الواقع الموضوعي، ووسيلة للوصول إلى واقع أعمق، واقع الصور البدائية. أما ريكور، فيرى أن الخيال السردي ينطلق من الواقع، ويعيد تشكيله من خلال السرد. في حين يحتفل باشلار باستقلالية الصورة الشعرية، يصر ريكور على الترابط المتبادل بين الذاكرة والسرد والواقع التاريخي.

رابعًا: الاستتباعات الفلسفية

الذاتية والمعنى

تكشف دراسة مفهومي الخيال الشعري والذاكرة السردية عن توترٍ ثريّ بين الحرية والبنية في بناء الذاتية. فبالنسبة لباشلار، يُعدّ الخيال الشعري تجربةً لحريةٍ جذرية، حيث يحرر الذات نفسها من الحتميات ليعيد الاتصال بجوهرها. أما بالنسبة لريكور، فتفرض الذاكرة السردية بنيةً، أي حبكةً تسمح للذات بإدراك ذاتها كوحدةٍ في الزمن.

هذان المنهجان، على الرغم من اختلافهما، يلتقيان في رغبتهما في التفكير في الذاتية كعمليةٍ إبداعية، يلعب فيها الخيال دورًا محوريًا.

الأخلاق والمسؤولية

يُقدّم ريكور بُعدًا أخلاقيًا غائبًا لدى باشلار. ففي كتابه "الذاكرة والتاريخ والنسيان"، يستكشف قضايا الذاكرة الجماعية، ولا سيما مسؤولية التذكر وخطر التلاعب بالنسيان. فالخيال السردي، من خلال هيكلة الذاكرة، يُشرك الذات في علاقةٍ أخلاقيةٍ مع الآخرين ومع التاريخ. من ناحية أخرى، يتبنى باشلار منظورًا أكثر فردية وتأملية، حيث يُعدّ الخيال الشعري تجربة حميمة، منفصلة عن القضايا الجماعية.

نحو تأليفية؟

يمكن أن تتمثل الإضافة بين المفكرين في تصور الخيال الشعري كلحظة قطيعة ضرورية للذاكرة السردية. ويمكن اعتبار اللحظة الشعرية عند باشلار شرطًا أساسيًا لتخطيط ريكور: فقبل بناء تجربته في سرد، يحتاج الذات إلى إعادة الاتصال بحميمية وجودها من خلال الخيال. في المقابل، يمكن للذاكرة السردية عند ريكور أن تُقدّم إطارًا لترسيخ صور باشلار الشعرية في زمان وتاريخ مشتركين.

خاتمة

يُقدّم الخيال الشعري لغاستون باشلار والذاكرة السردية لبول ريكور منهجين متكاملين للتفكير في كيفية إعطاء الذات الإنسانية معنىً لتجربتها. يحتفي باشلار، من خلال فينومينولوجيته للصورة، بالحرية الإبداعية للخيال، الذي يتجاوز الواقع ويُعلّق الزمن. أما ريكور، من خلال تأويلاته السردية، فيُظهر كيف يُشكّل الخيال السردي الزمن والهوية، رابطًا الذات بتاريخها وتاريخ الآخرين. يُثري هذان المنظوران معًا فهمنا للذاتية من خلال تسليط الضوء على الدور المركزي للخيال في بناء المعنى. يدعونا التأمل المُتبادل في هذه المفاهيم إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الشعر والتاريخ، وبين الآنية والاستمرارية، وبين الحرية والمسؤولية. فهل يمكن تجديل العلاقة بين الذاكرة والخيال في سياق الشعرية والسردية؟

***

د. زهير الخويلدي - كتاب فلسفي

...........................

المصادر والمراجع:

Bachelard, Gaston. La Poétique de l’espace. Paris : PUF, 1957.

Bachelard, Gaston. L’Eau et les Rêves : Essai sur l’imagination de la matière. Paris : José Corti,

Bachelard, Gaston. L’Eau et les Rêves : Essai sur l’imagination de la matière. Paris : José Corti, 1942.

Bachelard, Gaston. L’Air et les Songes : Essai sur l’imagination du mouvement. Paris : José Corti, 1943.

Ricœur, Paul. Temps et Récit. 3 tomes. Paris : Seuil, 1983-1985.

Ricœur, Paul. La Mémoire, l’Histoire, l’Oubli. Paris : Seuil, 2000.

Dosse, François. Paul Ricœur : Les sens d’une vie. Paris : La Découverte, 1997.

Kaplan, David M. Ricœur’s Critical Theory. Albany : SUNY Press, 2003.

في المثقف اليوم