أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: فلسفة عدم الإنجاب.. هل الإنجاب عمل غير أخلاقي؟

يقترح ديفد بيناتار استاذ الفلسفة في جامعة كيب تاون بانه في جميع الحالات، من الخطأ خلق حياة جديدة. هذه المقالة تناقش موقفه المناهض للانجاب بالاضافة للحجج المعارضة له. هل من الجائز أخلاقيا انجاب اطفال؟ وهل هناك حالات يكون فيها جلب حياة جديدة الى العالم ضرر لا يمكن اصلاحه؟ اذا كنا متأكدين، مثلا، بان الطفل سيولد لحياة قصيرة ومعذبة، فسيبدو من المعقول الاستنتاج انه من الخطأ جلب مثل هذه الحياة. في الحقيقة، نحن ربما نقول من واجبنا منع مجيء مثل هذه الحياة التعيسة الى الوجود والتي هي لا يمكن تحمّلها. لكن ماذا عن حياة اكثر شيوعا؟ وجود يحتوي على مزيج من السعادة والمعاناة؟ بالتأكيد من الافضل خلق الكثير من هذه الحياة؟ مناهضة الانجاب Antinatalism هو موقف فلسفي يقول كلا، بالنظر لكمية المعاناة التي يواجهها متوسط الناس في الحياة – ألم، خوف، قلق، مرض، كدح، ضجر، استنزاف، وحدة، اضطهاد، حزن، عدم أمان، عنف، موت – فان جلب حياة جديدة للوجود هي عمل خاطئ اخلاقيا.
بالطبع، الحياة فيها لحظات من السعادة، لكن المناهضين للانجاب يعتقدون بشكل عام ان مثل هذه اللحظات لا تبرر المخاوف المستمرة وعدم الارتياح والعذابات التي نتعرض لها بسبب الوجود . سيكون من الافضل لجميع الناس لو لم يولدوا ابدا. هذه قد تبدو رؤية متشائمة، لكن المناهضين للانجاب يدّعون انهم واقعيون. لو ننظر الى الوجود عقلانيا وبعيدا عن الضرورة البايولوجية للبقاء على الحياة – والتي تدفعنا للاعتقاد ان الحياة اكثر اشراقا من الموت – عندئذ سوف نعرف بان الوجود ذاته هو لعبة خاسرة. احد اسباب الإلهام للمناهضين للانجاب هو اكبر فلاسفة الغرب المتشائمين ارثر شوبنهاور. مع انه لم يقترح مناهضة الانجاب، لكنه يصف الوجود الانساني كبندول يتأرجح بشكل كئيب بين الضجر والألم.
يقول شوبنهاور"نحن نمضي حياتنا نتوق (بألم) الى أشياء نفتقر لها : الطعام، التسلية، المعنى، الارتباط، الدفء، العزلة، الثروة. التوق لهذه الحاجات لا يتم اشباعه الاّ بشكل عابر – ان حصل اشباع – لنواجه توقا جديدا يستنزف انتباهنا، وبهذا نحن نشرع في سعي مؤذ مرة اخرى. " مقاييس المعاناة في حياة الانسان لا تتناسب مع متعته"، يصرح شوبنهاور في مقال له حول معاناة العالم: "اذا كان الاطفال قد جُلبوا للعالم بفعل العقل الخالص وحده، هل سيستمر العرق الانساني في الوجود؟ أليس من الافضل للانسان ان يتعاطف مع الجيل القادم بالقدر الذي يجنبه عبء الوجود؟"
المناهضون للانجاب يجيبون على سؤال شوبنهاور الاول بالنفي القاطع. بالنظر لبؤس الوجود في ظل المكان السيء للعالم وسيره نحو الأسوأ – فان احسن محصلة للانسانية ستكون التوقف عن الانجاب، وفي العقود القادمة نرشد أنفسنا الى انقراض غير مؤلم. حتى الان: من السهل ان نرفض هذا الاستنتاج المتطرف نوعا ما. لكن ميلنا للحيرة والاستياء او الغضب حول موضوع مناهضة الانجاب يجب ان يتوقف وفقا للفيلسوف الافريقي ديفد بيناتار احد اكبر المعارضين للانجاب.
الفكرة ليست مفاجئة: التناسل هو كيف تديم الحياة ذاتها. بيناتار يسألنا ان نتوقف ونفكر مليا . بالطبع الحياة تريد المزيد من الحياة لكن دعونا ننظر للموقف بلا عاطفة. دعونا نفكر في السبب الحقيقي وراء خلق حياة جديدة. بهذا العمل سنكتشف ان التكاثر ليس المهمة النبيلة التي يتصورها الآخرون. المناهضون للانجاب يقدمون عددا من الحجج الداعمة لموقفهم تتجاوز التأكيد على فضاعة الحياة. احدى اهم الحجج هي ما سمي حجة عدم التماثل لبيناتار Benatar’s Asymmetry Argument، نُشرت في كتابه عام 2006 بعنوان (الافضل ان لا يكون هناك ابدا).
حجة بيناتار: لماذا يُفضل اللاوجود على الوجود؟
تقوم حجة بيناتار على فكرة ان هناك عدم تكافؤ اساسي بين الالم والمتعة: بينما الالم سيء وغيابه جيد، فان المتعة جيدة لكن غيابها ليس سيئا. عدم التكافؤ يمكن التعبير عنه كالتالي:
1- وجود الألم شيء سيء
2- وجود المتعة شيء جيد
3- غياب الألم شيء جيد (حتى عندما لا يتمتع كل واحد بذلك الشيء الجيد)
4- غياب المتعة ليس شيئا سيئا (مالم يكن هناك شخص ما موجود سلفا يُحرم منها).
القضية الحاسمة هنا هي انه بينما غياب الألم جيد، فان غياب المتعة ليس سيئا مالم يوجد هناك شخص ما يشعر بغيابه. يعتقد بيناتار ان دعمه لعدم التكافؤ يأتي من حقيقة انه يعطي أفضل توضيح لحدسنا العام حول السعادة والمعاناة.
افرض مثلا، اكتشفنا هناك ملايين من الكائنات على المريخ يعانون بشدة. نحن يجب ان نهتم بذلك: من الفضيع اذا كانت هذه المعاناة موجودة، ومن الجيد ان لم تكن موجودة. نحن لا نُصاب بالذعر من نقص المتعة المقابل على المريخ. يقول بيناتار : "نحن نحزن حقا على الناس الذين يعانون، لكن بالمقابل نحن لا نحتاج نذرف الدموع لغياب الناس السعداء على كوكب غير مأهول او على أجزاء اخرى من كوكبنا".
نفس النوع من اللاتماثل ينطبق على طريقة تفكيرنا حول الواجبات الاخلاقية، يدّعي بيناتار: منع الاذى يبدو اكثر أهمية من انتاج المتعة. علينا واجب ان لا نؤذي زملائنا المواطنين لكننا غير مطلوب منا اخلاقيا ان نجعلهم سعداء. لكن اذا قبلنا بهذا اللاتماثل واقتنعنا ان كراهية الاذى اكثر اهمية من استحقاق المنافع، عندئذ يجب ان نقبل شيئا مذهلا جدا: اللاوجود يبدو مفضلا على الوجود. الوجود يفتح الباب لكل من المتعة التي هي جيدة والألم الذي هو سيء. اللاوجود لايحتوي ألم وهو جيد بينما غياب المتعة لايؤذي احدا. وبالنظر لجميع العوامل، مقارنة بالسيناريو الذي لا وجود للناس فيه، يصبح الوجود ليس في مصلحة الناس ابدا لأنه يؤذيهم. انه يقدم المتعة ايضا لكن هذه المتعة ما كان لها ان تضيع في حالة عدم الوجود لأنه لا وجود لأحد كي يفتقدها. اللاوجود غير مؤذي لكن الوجود مليء بالألم: اللاوجود اذن مفضل على الوجود.
الآن، حالما نكون موجودين فعلا، ربما لدينا اسباب للاستمرار بالوجود: بيناتيار لا يقترح علينا ارتكاب الانتحار. المسألة ليست ان الحياة لا تستحق العيش، وانما لا تستحق البدء. وبسبب القيمة اللاتماثلية لهيكل المتعة والالم، وبسبب ان اللاوجود غير مؤذي فان المجيء للوجود دائما يسبب لنا الاذى. نحن لا نستطيع الرجوع في الزمن ونوقف أنفسنا عن الوجود، لكن شيئا واحدا نستطيع السيطرة عليه هو تقرير عدم إحداث ضرر لا يمكن اصلاحه لوجود جيل جديد. عندما نستمر بانجاب الاطفال سنخلق كائنات تواجه الكثير من المعاناة لأجل متعة ما كان ممكن ان نخسرها في غيابهم. افضل رهان هو ان نتجنب جلب اناس الى الوجود.
ردود على حجة بيناتار في عدم التماثل
رد الفلاسفة على حجة بيناتار بمختلف الطرق. لنتذكر، ان بيناتار يعتقد ان حجته مدعومة بحقيقة انها توضح الحدس الواسع حول السعادة والمعاناة كما في ان كراهية الالم اكثر اهمية من الفوائد المستحقة. بعض الفلاسفة يقترح انه اذا كانت حجة بيناتار تعتمد على الحدس، فهي مع ذلك تقود الى استنتاج غير حدسي، عندئذ يبدو من غير الواضح لماذا يجب الوثوق بحدسنا في حالة معينة ولا نثق به في حالة اخرى. فلاسفة آخرون يرفضون عدم التماثل ذاته: بدلا من "ليس سيئا"، غياب المتعة – عدم حب العلاقات، لا مرح حسي، لا صفاء روحي – هي في الحقيقة ألم سيء. عالم يفتقد لمثل هذه الاشياء سيكون أسوأ من عالم يمتلكها، ونحن فعلا نرثي غياب المتعة. في ورقة عام 2021، الفيلسوف فيومتيك جوشازا fumitake yoshizawa يقترح انه حتى لو اعترفنا لبنيتار بكل مقدماته وحدسه، فان استنتاج المناهضين للانجاب لايزال لايعمل. عدم تماثل بيناتراد يقيّم أجزاءً من الحياة مثل الالم والمتعة بينما يطرح استنتاجا للحياة ككل. لو نكيّف حجة بنيتراد ونقيّم الحياة ككل ستصبح:
1- الحياة التعيسة سيئة
2- الحياة السعيدة جيدة
3- غياب الحياة التعيسة جيد
4- غياب الحياة السعيدة ليس سيئا.
هذا يتبع نفس المنطق العدم التماثلي ويفسر المعتقدات الاخرى غير المتماثلة، لكن هنا سوف لن يحصل استنتاج مناهض للانجاب العالمي . بدلا من ذلك، ستحصل مناهضة محلية للانجاب: في بعض الحالات – عندما نتأكد ان شخصا ما سيعيش حياة تعيسة – فان خلق مثل هذه الحياة يشكّل اذى. لكن خلق حياة سعيدة مسموح به.
مناهضو الانجاب ربما يستجيبون بان خلق "حياة سعيدة" هو مستحيل . بالنظر للكمية الهائلة من الالم والمعاناة، فان قيمة الحياة هي دائما سلب صافي (السلبي اكثر من الايجابي)، لذا فان التكاثر يبقى خطئا. لكن هنا نحن نتحرك بعيدا عن عدم التماثل نحو حجج مناهضة للانجاب اكثر عمومية. دعونا ننظر في اجابات اكثر عمومية:
هل قيمة الحياة تتشكل فقط بالتوازن بين المتعة والالم؟
الاقتراح المناهض للانجاب بان الحياة دائما تحتوي على معاناة اكثر من السعادة يواجه عدد من الاجابات المحتملة. احداها هو ببساطة ان نتحداها: المناهضون للانجاب سريعون في الاشارة الى نواقصنا ورغباتنا والالم المزمن، هم لايميلون للانتباه للمتع اليومية الموجودة في المشاهد البسيطة، التنفس الاكل، المشي، الضحك، الاستماع، النظر." تذكر الشاعرة الامريكية ايميلي ديكنسون ان "مجرد الاحساس بالحياة هو متعة كافية".
جواب آخر هو ان ننظر وراء الالم والمتعة بالكامل: نتسائل ما اذا كان التركيز كثيرا على الحساب الدقيق للمرح والمعاناة يضيع فيه معنى الحياة ... اخلاقيو الفضيلة مثل ارسطو يقول ان الحياة الجيدة ليست حول التوازن بين المتعة والالم وانما حول التعبير عن التميّز. في الحقيقة، الرواقيون صرحوا ان كل ما يحدث لنا هو "لا بأس به او غير مختلف"، الذي يهم هو كيف نستجيب . بدلا من اللوم اننا ليس لدينا وجود تام وخالي من الالم بلا أمل فان طاقتنا ستكون افضل عندما تُوجّه الى تكريس نكهة فريدة من التميز المتاح لنا في هذه الحياة. المناهضون للانجاب ربما يقولون حسنا، كل ذلك جيد ومدهش لتبرير استمرار حياتك لكنك لا تزال لا يجوز لك خلق حياة جديدة – التسبب في تعريض وجود الانسان المحدود لمعاناة شديدة .
لكن اذا لم نقيّم الحياة باعتبارها فقط كمحاولة لتأمين المزيد من المتعة على الالم، فان هذا النوع من الحجة ضد التكاثر لا يعنينا حقا. عندما نرى الحياة كمسعى للتميز او الارتباط او المعنى، عندئذ فان خلق وتربية الجيل القادم يمكن ان يلعب جزءا اساسيا في ذلك. هذا لا يعني بالضرورة وجوب التكاثر – الناس يمكنهم متابعة مختلف اشكال التميز وينجزون امكاناتهم بطرق مختلفة – لكن من الصعب رؤية إثمها الاخلاقي الذي لا يُغتفر خاصة عندما نبذل جهدنا لتعزيز تجارب اطفالنا ونعدّهم للتميز في حياتهم. في الحقيقة، عندما نتبنّى انجاب شخص شاكر لوجوده، عندئذ أين الاذى في ذلك؟
جواب آخر لمناهضة الانجاب يرى بان استمرار الحياة هو شرط مسبق لاستمرار القيمة ككل. اذا كان نظامك القيمي يخبرك ان ادامة الحياة ذاتها هو غير اخلاقي عندئذ ربما المشكلة ليست في الحياة وانما في نظامك القيمي.
بالطبع، المناهضون ربما يدّعون ان هذه الردود هي بالضبط ما يقوله المخدوعون بالحياة: هم متفائلون وقحون في انكار حقيقة المعاناة. لكن بينما هناك آليات سايكولوجية تعمل تدفعنا نحو التركيز على الجيد، تقترح ان الايحاء بان كل شخص مسرور بحياته هو في احسن الاحوال مخدوع وفي الاسوأ هو منفصل عن الواقع. عندما يقول الناس هم سعداء بحياتهم وانهم مسرورين بمجيئهم للوجود نحن يجب ان نأخذهم بنفس مستوى الجدية الذي يقول به الناس بالنفي.
ان المطلوب هو ليس ما اذا كانت الحياة تستلزم المعاناة، بل كيف نستجيب لمعاناتها . المناهضون للانجاب اساسا ينصحون بان الانسانية تسلّم نفسها للفراغ لكن الاستسلام ليس خيارنا الوحيد. هناك طرق للاستجابة للمعاناة التي لا تستلزم انقراضا بالمعنى الحرفي، بوذا ينصح بدلا من ذلك بانقراض الايغو. لكن نوعا آخر من الردود هو الكفاح لجعل العالم افضل لاطفالنا. نحن يمكننا الاعتراف، مع نيتشه بان هناك قيمة يمكن العثور عليها في التغلب على المعاناة. مهمتنا ان نكتشف معنى في الكفاح، نؤكد وجودنا بفرح، ننتج ونغرس طرق جميلة في قول نعم للحياة بدلا من لا.
***
حاتم حميد محسن