أقلام فكرية
إبراهيم أبو عواد: الجمال والفن في فلسفة كروتشه

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة، وَالقِيَمَ العقلانيةَ، التي تُوضِّح سَبَبَ شُعورِ الإنسانِ بالرَّاحَةِ والمُتعةِ عِندَ رُؤيةِ الأشياءِ الجميلة.
والسُّؤالُ الأساسيُّ في فَلسفةِ الجَمَالِ: هَل الجَمَالُ ذَاتيٌّ يَكْمُنُ في عَيْنِ الناظرِ أَمْ أنَّه مِيزَة مَوضوعية مَوجودة في الأشياءِ الجميلة؟. وَبِعِبَارةٍ أُخْرَى، هَلْ مَصْدَرُ الجَمَالِ هُوَ خَاصِيَّة مَوضوعية في الأشياء أَم استجابة ذاتية في الإنسان، أمْ نتيجة للتفاعل بينهما؟.
إنَّ الجَمَالَ مَوجودٌ في العَقْلِ الذي يَتَأمَّلُه، وكُلُّ عَقْلٍ يُدْرِكُ جَمَالًا مُخْتَلِفًا، والذَّوْقُ يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا في هَذا المَجَالِ، وَيُقَدِّمُ حُكْمًا جَمَالِيًّا خَالِصًا، وَلَيْسَ حُكْمًا مَعْرِفِيًّا ولا مَنْطِقِيًّا. والجَمَالُ مَفهومٌ مُتناقضٌ وَمُتَشَعِّب، حَيْثُ تَختلف وِجْهَاتُ النظرِ حَوْلَه بَيْنَ فَيلسوفٍ وآخَر. وَقَدْ رَبَطَ الكثيرون مَفهومَ الجَمَالِ بالقِيَمِ الإيجابيةِ المُطْلَقَةِ، مِثْل: الخَيْر والحقيقة والعَدْل. ويَرى البعضُ أنَّ مَفهوم الجَمَالِ مُرتبط بالاستمتاعِ والمَشاعرِ، في حِين يُركِّز آخَرُون على الجانبِ العَقلانيِّ والمَنْطِقِيِّ.
تَتَوَزَّعُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ الفَلاسفةِ بَيْنَ رُؤى مُختلفة، مِنها: اعتبارُ الجَمَالِ خَاصِيَّة في الشَّيْءِ نَفْسِه مِثْل التوازنِ والتناسبِ (أفلاطون وأَرِسْطُو)، أوْ كَمَفهوم مُرتبط بالخَيْرِ والكَمَالِ (توما الأكويني)، أوْ هُوَ حُكْمٌ ذاتيٌّ يَعْتمد على تَجْرِبَة الشَّخْصِ وَذَوْقِه الخاص، وَهَذا الذَّوْقُ يُمْكِن تَنْميته وتَثقيفه مِنْ خِلال الخِبرة (فَلاسفة التَّنْوير مِثْل ديفيد هيوم)، أوْ أنَّ الجَمَالَ يَكْمُنُ في عَلاقةٍ ذاتيَّة بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ، والإنسانُ هُوَ مَنْ يُضْفِي عَلى العَالَمِ جَمَالَه، وأنَّ الجَمَالَ مَا هُوَ إلا انعكاسٌ لِصُورةِ الإنسانِ في الأشياءِ (نيتشه)، أوْ أنَّ الجَمَالَ مُرتبطٌ بالإرادةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ، وَهُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّة عَلى عَلاقة وَثيقة بالإنسانِ، نَوْعًا وإدراكًا، وَلَيْسَ صِفَةً مُطْلَقَة (شوبنهاور)، أوْ هُوَ مُصالحة بَيْنَ الأجزاءِ الحِسِّيةِ والعَقْلانيةِ مِنْ طَبيعةِ الإنسانِ (فريدريش شيلر)، أوْ أنَّ الجَمَالَ لَيْسَ صِفَةً في الشَّيْءِ نَفْسِه، بَلْ هُوَ استجابة ذاتيَّة، ولكنْ بِطَابَعٍ عالميٍّ، ولا يَتَعَلَّق الأمْرُ بِمَنفعةِ الشَّيْء (كانط).
إنَّ أفكارَ الإنسان الفلسفية تُشكِّل نَظْرَتَه للجَمَالِ، وتُؤَثِّر عَلَيْه، كَمَا أنَّ مَشاعرَ الإنسانِ تتأثَّر بِتَصَوُّرَاتِه ومَفَاهيمِه عَن الجَمَالِ، فإذا نَظَرَ إلى البيئةِ التي مِنْ حَوْلِه عَلى أنَّها جَميلة وَمُمْتِعة مِنَ النَّاحِيَةِ الجَمَالِيَّة، فإنَّ هَذه النَّظْرَة الإيجابية تَنعكِس عَلى مَشَاعِرِه، فَتُؤَثِّر عَلَيْهِ بِطَريقةٍ إيجابية.
وَيُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ الإيطاليُّ بينيديتو كروتشه (1866 _ 1952) مِنْ أبرزِ الذينَ قَدَّمُوا دِرَاسَاتٍ عميقة في فَلسفةِ الجَمَالِ، وَكَتَبُوا في هَذا المَجَالِ بشكلٍ تفصيلي. وَهُوَ يَعْتنق فَلسفةَ المِثاليَّة المُطْلَقَة، ومَذهَبُه الفَلسفيُّ يَضَعُ أربع دَرَجَات في " هُبوط عَالَمِ الرُّوح "، وهي الدَّرَجَة الجَمَاليَّة (تَجَسُّد الرُّوح الفَرْد)، والدَّرَجَة المَنْطِقِيَّة (مَجَال العام)، والدَّرَجَة الاقتصادية (مَجَال المَصلحة الخَاصَّة)، والدَّرَجَة الأخلاقية (مَجَال المَصلحة العَامَّة).
تَتَمَحْوَرُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ كروتشه حَوْلَ فِكرة أنَّ الجَمَالَ هُوَ الحَدْسُ والتَّعبيرُ عَن الشُّعُورِ في صُورة ذِهنية، حَيْثُ يَمْزُجُ العملُ الفَنِّي بَيْنَ الرُّؤيةِ والتَّعبيرِ دُون انفصالٍ بَيْنَهما، وكانَ يَرى أنَّ الفَنَّ لا يُمثِّل مَعرفةً بالواقعِ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعرفة حَدْسِيَّة وَرُؤية داخليَّة، وأنَّ الوظيفة الجَمَالِيَّة الأساسيَّة هِيَ التَّعبيرُ عَن الذات، بَدَلًا مِنَ التَّمثيلِ الخارجيِّ للعَالَمِ.
يُعْتَبَر كروتشه مِنْ أكثر فلاسفة إيطاليا تَمَيُّزًا في القَرْنِ العِشرين. وكان يؤمن بوجود نَوْعَيْن مِنَ المَعرفة: المعرفة التي تأتي عن طريق الفَهْم، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخَيَال. وَهُوَ يَعْتبر أنَّ الخَيَالَ يُوجِّه الفَنَّ، والفَنُّ لا يُحاوِل تَصنيفَ الأشياءِ، كما يَفْعل العِلْمُ، لكنَّه يَحُسُّ بِها ويُمثِّلها فَقَط، والفَنُّ رُؤيةٌ وَحَدْسٌ كَمَوضوعٍ خارجيٍّ (شَيْء أوْ شَخْص) أوْ كَمَوضوعٍ داخليٍّ (عاطفة أوْ مِزَاج)، يُعبِّر عَنْهُ الفَنَّانُ باللغةِ أو اللَّوْنِ أو النَّغَمِ أو الحَجَرِ، والعَمَلُ الفَنِّي هُوَ صُورةٌ ذِهنية يُؤَلِّفُها الفَنَّانُ، ويُعيد مُتَذَوِّقُو الفَنِّ تأليفَها، وَلَيْسَ الفَنُّ سِوى عَرْضِ الشُّعورِ مُجَسَّمًا في صُورة ذِهنية.
عَرَضَ كروتشه نَظَرِيَّتَه الجَمَالِيَّة في كِتَابَيْن لَه: عِلْم الجَمَال(1902)،والمُجْمَل في عِلْمِ الجَمَال(1913)، وَتَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكرة مَركزية أساسيَّة، وَهِيَ وَحْدَة الإبداعِ الفَنِّي، حَيْثُ يَسْعَى إلى التَّوفيقِ بَيْنَ النَّشَاطِ الباطنيِّ (الحَدْسِيِّ / الرُّوحِيِّ) للإبداعِ الفَنِّي، وَالنَّشَاطِ الخارجيِّ الحِسِّي التَّعْبيريِّ. وَقَدْ حَلَّلَ طَبيعةَ الجَمَالِ، وَتَجَلِّيَاتِه في الوُجود، وَرَبَطَه بالأحاسيسِ والمَشاعرِ الإنسانية، وَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الجَمَالِ لا يُعْنَى بإصدار الأحكام عَلى مَا هُوَ جَميلٌ أوْ قَبيحٌ، بَلْ يَفْحَص تَجَارِبَ الجَمَالِ كظاهرةٍ شاملة.
كانَ لفلسفةِ كروتشه الغنية تأثيرٌ قوي في الفلسفة الإيطالية والأوروبية بِرُمَّتها، وَاحْتَلَّتْ أعمالُه مَكانةً بارزةً في كلاسيكيَّات مِثالية القَرْنِ العِشرين، وأثَّرَ في مُعْظَمِ مَنْ أتى بَعْدَه مِنَ المُفَكِّرين والفلاسفة، وكان له أثرٌ في إعادة تقويم أفكار الفَيلسوفِ الألمانيِّ هِيغل.
***
إبراهيم أبو عواد - كاتب من الأردن