أقلام فكرية

غالب المسعودي: ديوجينس المعاصر

كان ديوجينس*، الفيلسوف اليوناني القديم، معروفًا بحمله مصباحًا في وضح النهار. عندما يسأل عن السبب، كان يجيب: أبحث عن إنسان صادق...! هذا الفعل الرمزي يشير الى أن ديوجينس كان يعتقد أن الفضيلة والصدق نادران في العالم، وكان يبحث عن شخص يجسد القيم الإنسانية الحقيقية، كان يبحث عن الفضيلة والصدق في مجتمعه، وهو بحث لا يزال مستمرًا إلى اليوم. على الرغم من أننا الان لا نحتاج إلى مصباح في وضح النهار، إلا أننا نبحث عن الفضيلة في حياتنا المعاصرة.

الفضيلة في الفلسفة هي صفة أخلاقية إيجابية أو استعداد دائم لفعل الخير. هي ليست مجرد فعل عشوائي، بل هي عادة راسخة في شخصية الفرد، اعتقد أرسطو أن الفضيلة هي الوسط الذهبي بين رذيلتين، إحداهما هي الإفراط والأخرى هي النقص. على سبيل المثال، الشجاعة هي فضيلة بين التسرع (إفراط) والجبن (نقص)، كذلك رأى أفلاطون أن هناك أربع فضائل رئيسية هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة. واعتبر أن العدالة هي الفضيلة الأسمى لأنها تضمن توازن جميع الفضائل الأخرى.

الفضيلة اليوم

في عالمنا المعاصر، حيث تتفشى تجارة الحروب والصراعات، تتجلى الفضيلة في الأفعال التي تعزز السلام، والتعاطف، والعدالة، مثل تقديم المساعدة الإنسانية، والدفاع عن حقوق الإنسان، والعمل على بناء مجتمعات أكثر عدلاً، لكن يظل البحث عن الفضيلة تحديًا مستمرًا، خاصة في ظل المصالح المادية التي تُغذي الصراعات، رغم ذلك ان الفضيلة تظل الضوء الذي يمكن أن يهدينا نحو عالم أفضل وأكثر سلامًا، لقد تطور مفهوم الفضيلة بشكل كبير عبر التاريخ الفلسفي. بشكل عام، يمكن وضع مفهوم عام للفضيلة بأنها صفة شخصية قوية ومستقرة تُعتبر جيدة من الناحية الأخلاقية، وتجعل صاحبها شخصًا أفضل. تعتبر الفلسفة اليونانية المصدر الأساسي لمفهوم الفضيلة، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بفكرة الازدهار وهي حالة من السعادة والعيش الجيد، على الرغم من أن الفلاسفة الحديثين ركزوا على مفاهيم مثل الواجب الأخلاقي (كانط) أو النتائج (المذهب النفعي)، إلا أن الفضيلة عادت لتكتسب أهمية كبيرة فيما يُعرف بـ أخلاقيات الفضيلة في هذا السياق، لم تعد الفضيلة مجرد سمة أخلاقية، بل هي طريقة للتفكير والشعور والتصرف. إن الشخص الفاضل لا يقوم بالفعل الصحيح فقط، بل يفعل ذلك لأنه يمتلك الصفات الشخصية التي تدفعه إليه، مثل التعاطف، والعدالة، والصدق. يمكن القول إن الفضيلة هي صفة شخصية تجعلنا كبشر أفضل، وهي لا تكمن فقط في الفعل الذي نقوم به، بل في الشخصية التي نصبح عليها.

الفضيلة الاستعمارية

يُقصد بـ "الفضيلة الاستعمارية" ادعاء القوى المستعمرة بأنها تحمل قيمًا حضارية وأخلاقية متفوقة، مثل "نشر العدالة" أو "الحضارة" أو "التقدم" بين الشعوب المستعمرة. هذه القيم استخدمت لتبرير الاستعمار والسيطرة على الأراضي والموارد، لذا نحن بحاجة إلى تعريف الفضيلة في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى. في عالم تحركه التكنولوجيا والمعلومات، تزداد أهمية القيم الأخلاقية، وتصبح الفضيلة ضرورية للتغلب على التحديات المعاصرة في عالم مترابط، تواجهنا قضايا أخلاقية معقدة لم تكن موجودة من قبل، مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والخصوصية الرقمية، والتجارة العادلة. يتطلب التعامل مع هذه القضايا فهمًا عميقًا للفضائل الأساسية مثل العدالة والمسؤولية تواجه مجتمعاتنا الانقسام والصراع. يمكن للفضائل أن تساعد في بناء جسور بين الثقافات، وتعزز الحوار، وتقلل من الكراهية. في مجتمع استهلاكي، يشعر الكثير من الناس بفقدان المعنى. يمكن أن يكون البحث عن الفضيلة طريقًا لإيجاد هدف أعمق، بعيدًا عن السعي المادي. في عالم يدعي فيه الجميع الفضيلة، من الظالم إلى المظلوم، يصبح من الصعب تحديد من يمثلها حقًا. لكن الفلسفة يمكن أن تساعدنا في فهم هذه المعضلة. الفضيلة لا تنحاز إلى طرف معين، بل هي تجسد مبادئ وقيمًا أخلاقية لهذا لا يمكن أن تكون الفضيلة مجرد ادعاء لفظي. إنها تُختبر بالأفعال والنتائج. عندما يدعي الظالم أنه فاضل، يمكننا أن نرى أفعاله التي تسبب الألم والضرر للآخرين. هذه الأفعال تتعارض تمامًا مع فضائل مثل العدالة والتعاطف في المقابل، غالبًا ما يُظهر المظلوم فضائل حقيقية من خلال صراعه. فالمقاومة من أجل الحرية والعدالة تتطلب شجاعة وصبرًا وإصرارًا، وهي كلها فضائل أصيلة.

هل كان ديوجينس محقا

يُمكن القول إن ديوجينس لم يكن مخطئًا في رؤيته للتناقضات الإنسانية. فالفيلسوف يرى ما هو أبعد من الظاهر، ويبحث عن الحقائق الخفية وراء السلوكيات اليومية، كان ديوجينس يرى التناقضات التالية:

ادعاء الفضيلة مقابل السلوك، اذ كان يرى أن الناس يدّعون الفضيلة والحكمة، لكن سلوكياتهم الحقيقية كانت غالبًا ما تكون أنانية وتنافسية. كذلك التناقض بين المظهر والجوهر، كان يرى أن المجتمع يولي اهتمامًا كبيرًا للمظهر الخارجي والثروة والمكانة الاجتماعية، بينما يتجاهل الجوهر الحقيقي للإنسان. إن حمل ديوجينوس للمصباح في وضح النهار كان تعبيرًا رمزيًا عن بحثه عن إنسان فاضل حقًا، لا يكتفي بادعاء الفضيلة، بل يجسدها في أفعاله وسلوكياته.

الفيلسوف والتناقضات الإنسانية

الفيلسوف، على عكس الشخص العادي، لا يرى التناقضات كأخطاء فردية، بل يراها كجزء من الطبيعة الإنسانية. يسعى الفيلسوف إلى فهم الأسباب الجذرية لهذه التناقضات، الرغبة في القبول الاجتماعي، التي تدفع الناس للتصرف بشكل يختلف عن قناعاتهم الحقيقية، والصراع بين العقل والغرائز، الإنسان غالبًا ما يكون في صراع بين ما يعرف أنه صحيح وما يرغب به غرائزيا، لهذا لم يكن ديوجينس يبحث عن شخص مثالي، بل كان يبحث عن شخص صادق مع نفسه وواعٍ بهذه التناقضات. يمكن أن يكون هذا الوعي هو أول خطوة نحو تحقيق الفضيلة، تُعتبر نظرة ديوجينس، الباحث عن الإنسان الصادق في عالم مليء بالتناقضات، قابلة للتكرار في الشرق الأوسط المعاصر، خاصةً مع انتشار ما يُعرف بـ "عولمة التفاهة". هذه الظاهرة تشير إلى سيادة السطحية، والبحث عن الشهرة السريعة، وتهميش القيم العميقة والأفكار الجادة. التاريخ يظهر أن الفترات التي تسبق التغييرات الكبرى غالبًا ما تكون فترات من التناقضات الاجتماعية والبحث عن الذات.

ديوجينس المعاصر

يمكن أن تتكرر ظاهرة "ديوجينوس المعاصر" في الشرق الأوسط التحولات الاجتماعية، تواجه العديد من مجتمعات في الشرق الأوسط ،هي تحولات سريعة ، مما يؤدي إلى صراع بين القيم التقليدية والمعاصرة إن الوصول غير المسبوق إلى المحتوى الرقمي أدى إلى انتشار ثقافة استهلاكية وسطحية، مما يغذي ظاهرة "عولمة التفاهة، كذلك يلعب الواقع السياسي والاقتصادي دورا مهما في تعجيل هذه التغيرات، .اذ غالبًا ما يجد الناس الذين يعيشون في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة أنفسهم يهربون إلى عالم من الترفيه السطحي، مما يزيد من التناقض بين الواقع وقيم الفضيلة في هذه البيئة، قد يظهر "ديوجينوس المعاصر" ليس بالضرورة مع مصباح، بل في شكل فلاسفة، أو مفكرين، أو حتى فنانين يسعون إلى استعادة القيم الحقيقية، والتعبير عن المعاناة، وإثارة الأسئلة الجادة حول الهوية والوجود ،إن تكرار نظرة ديوجينوس ليس مجرد إعادة للتاريخ، بل هو مؤشر على أن البحث عن الحكمة والفضيلة هو حاجة إنسانية دائمة، خاصة في الأوقات التي يسيطر فيها السطحي على الجوهري.

***

غالب المسعودي

..........................

* ديوجانس الكلبي (نحو 421 - 323 ق م) فيلسوف يوناني. يُعتبر من أبرز ممثلي المدرسة الكلبيّة الأوائل. (“ديوجينس الكلبي.. الفيلسوف الذي عاش في برميل”) ولد في سينوب بتركيا، ودرس في أثينا على أنتيستنيس. قال صاحب الملل والنحل: «كان حكيما فاضلا متقشفا لا يقتني شيئا ولا يأوي إلى منزل. عاصر الاسكندر المقدوني.

في المثقف اليوم