أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: في التمييز بين الأصالة واللاأصالة

عندما يشعر الناس ان حياتهم غير أصيلة، فهم سيدركون ان هذه الحياة لا تستحق العيش. هذا الموقف يتجسد في قصة هاروكي موراكامي القصيرة بعنوان "عضو مستقل". يخبرنا القاص ان بعض الناس يعيشون حياة اصطناعية، مبتعدين كليا عن الواقع، "ولكن صدفة، يشرق ضوء خاص نحوهم" ويكتشفون الآن عدم واقعية آلية عمل حياتهم الداخلية" (رجال بدون نساء، 2017).

بطل الرواية يعيش حياة تبدو قوية ومتوازنة وممتلئة بالرضا. غير ان الحب من جانب واحد يعكر توازنه، ومع انبثاق فكرة جديدة هو يكتشف ان الحياة التي بناها لنفسه بعناية هي فارغة وغير أصيلة. بعد ذلك هو يعاني من الجوع حتى الموت، كعقوبة ذاتية لكونه غير أصيل.

في (أخلاق الأصالة، 1992)، شخّص الفيلسوف الكندي تشارلس تايلور إنغماسنا المفرط في اللااصالة كجواب لثلاث مشكلات حديثة غير مريحة.

1- هناك قلق من ان فردانية الديمقراطية الليبرالية الغربية ربما ذهبت بعيدا.

2- رأسمالية الليبرالية الجديدة أنتجت عقيدة على نطاق واسع بان سيكون هناك حلا تكنلوجيا لكل مشكلة.

3- مجتمعنا التكنلوجي الصناعي يقيّد خياراتنا الفردية، بحيث جعل من الصعب الحفاظ على اسلوب حياة الفرد الحقيقية، مثل ( حياة بعيدة عن وسائل الراحة الحديثة). ان رد الفعل على هذه المخاوف أنتج المبدأ المعاصر في ان تكون "صادق لذاتك" كي تحقق حالة الإنجاز الذاتي الأصيل.

أشار والتر بنيامين الى ان احدى خصائص الحداثة هي ان "الغموض يستبدل الأصالة" (شارع باتجاه واحد، 1928). الغموض يأتي لأننا غير متأكدين من كيفية التمييز بين الزائف والحقيقي. هذا يصبح انطباعا عاما بان الصورة تشوه الواقع وان التمثيل حل محل الواقعي. نحن نبحث مكرهين عن الأصالة لأننا نشك بان تجربتنا ليست واقعية تماما، وانما هي في الحقيقة زائفة. هذا الشك، في حدّه الأقصى يقود الى الإنغماس بالأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة، وكذلك الايمان باننا نعيش بنوع من المحاكاة، وبهذا لا شيء واقعي. المأزق هو ان المجتمع الذي يبحث مجبرا عن الأصالة هو مجتمع منفصل عن الواقع.

أصل الأصالة

لكي نجد الأصل الفلسفي للأصالة علينا الذهاب الى الفيلسوف جان جاك روسو (1712-1778). خلافا لمعظم أقرانه، جادل روسو بان التأكيد الأحادي على العقل يعزلنا عن الواقع ويجعلنا غرباء عن ذواتنا الأساسية، ويقود الى الخداع والنفاق. الرجل الطبيعي لدى روسو يتمثل عبر الوحشية النبيلة وامتلاك الخيرية الأصيلة. نحن المخلوقات المتحضرة يمكنا فقط الأمل باستعادة الأصالة عبر الابتعاد عن النخب المتعلمة والإنغماس في الطبيعة، على سبيل المثال، الذهاب في سفرة طويلة بين الغابات والجبال.

العديد من رومانسيي القرن التاسع عشر، مثل غوتو و بيرون و شيليس، اقتفوا أثر روسو، في الذهاب الى سويسرا حيث الغابات والإرتعاش في رهبة الجبال. هذه الحاسية الجديدة قادت الى كل انواع الموضات الإبتكارية بين النخب الثرية: إرضاع الطفل بدلا من استخدام مرضعة اخرى، وارتداء ملابس تقليدية، رسم مشاهد عاطفية لحياة القرية، وتأليف موسيقى مرتكزة على أنغام الفلكلور. هذه الأصالة وجدت أفضل تعبير لها في عمل الشعراء الرومانسيين مثل الشاعر وردسورث. هذا السعي للأصالة يسعى خصيصا الى ربط التطور الفردي مع الخيرية الطبيعية، لكنه يبقى عملا صعبا.

رأسمالية الأصالة

في بداية الستينات، جادل الفيلسوف الألماني ثيودور ادرنو بان رطانة "الأصالة" تساهم بـ "نرجسية جماعية" "موحدة في تبجيل الايجابية" (رطانة الأصالة، 1964). وفي مقال في نيويورك تايمز لكل من سيمون كرشلي و جامسن ويبستر بعنوان "الانجيل طبقا لي، 2013" جادلا بان "انجيل الاصالة"هو ايديولوجية "صناعة ازدهار الذات"التي تغذيها الروحانية الجديدة المربحة. اليوغا الحارة، دورات في الذهنية والتأمل، العلاج الطبيعي، المساج والمنتجعات الصحية، التخلص من السموم، حلقات التدريب، ومتطوعو السياحة، هذه كلها تجسيدات لطبقة وسطى تسعى لحياة أصيلة. انظر لشاب مهني يسافر الى تايلند لكي يتخلص من الإجهاد ويعمل على تركيز الذات، يدفع الالاف اسبوعيا في مكان ديني لممارسة الصمت وتناول الرز الابيض وصحنين من الشوربة الخفيفة يوميا. من وجهة نظره، هذا يبدو أصيلا. لكن النظر اليه من الخارج قد يبدو للمرء سخيفا.

كرشلي و ويبستر critchley&webster يحذران بان رأسمالية الشركات اختطفت البحث الحقيقي عن الأصالة والى حد ان "الفرق بين العمل و اللاعمل يصعب تحديده". في مكاتب بحث غوغل في زيورخ تجد العمل والمتعة ممتزجين بفعاليات مثل اليوغا والتأمل المتوفرين مجانا (بالاضافة الى طعام عضوي من النبات والبسكويت). العاملون يُشجعون للتوقيع على فعاليات التسلية. غير ان هذا يخلق ضبابية في التمييز بين العمل واللاعمل والذي بالنهاية يقود الى ارتفاع كبير في القلق. الفيلسوف باينج هان Byung chul Han أطلق على هذا بـ "عنف الإيجابية". هنا "المشاريع والمبادرات والمحفزات تستنزف موضوع الإنجاز الموجّه، بما يقود الى استنزاف ذهني وبدني كامل (مجتمع الاستنزاف، 2015).

في عام 1849، جادل ابو الوجودية (سورن كيركيجارد) بان الذات "هي في عملية صيرورة، لأن الذات في الحقيقة هي ليست حاضرة، انها فقط ما يأتي الى الوجود". أتباعه من الوجوديين في القرن العشرين، مثل سيمون ديبوفير وجين بول سارتر رأوا ان الذات هي مشروع يتم العمل به. لكن المشروع اختُطف الآن من ثقافة الشركات. يرى هان ان الاقتصاد الليبرالي الجديد يجبرنا على قبول الأداء المرتكز على الثقافة. وكما تنبأ ادورنو، هذا يساهم في النرجسية وبالنهاية الى الاستنزاف المعنوي Burnout.

الفنانة البلجيكية ناتاشا ماليو، في معرضها لعام 2022 (مسرح اثينا) أظهرت كيف ان متابعة التفرد تحت ستار الأصالة يقود الى السخافة. مع نصب الكاميرات بعناية في مواقع مشهورة في الانستجرام، وباستعمال فاصل زمني لمدة 60 دقيقة، هي أنتجت فنا تصويريا كشف عن ان العشرات من الناس يقومون بالضبط بنفس الأشياء: يتخذون مواقف مشابهة لتسجيل تجاربهم الأصيلة لمتابيعهم على الانستجرام. والدراسات كشفت بفضل الإلتقاء بين الانستجرام وعمليات التجميل، ان الوجه الغربي اصبح قريبا لمنظر واحد. وفي السعي نحو الاصالة، ومع مزيد من الوقت سوف نبدو جميعا كثيرا مثل النجمة الاعلامية كم كارديشين.

الأصالة والتعليم

لوحظ ذات مرة ان متحدثا امام مجموعة من الطلبة الخريجين يقول لهم "انتم جميعا مدراء تنفيذيين لمستقبلكم الخاص بكم". لم يعترض احد على الافتراضات الايديولوجية الكامنة في هذا الإعلان. المدير التنفيذي كإله، يجلب المستقبل للحاضر، الحرية المطلقة للافراد في التحكم وتحديد مصيرهم، امكانية تحقيق الأصالة ضمن فضاء الشركات. يجادل هان بان "الاستغلال التلقائي" لـ "مبادرة الذات" يقود الى ان يصبح "انجاز الفرد" مجرم وضحية و "سيد وعبد" في وقت واحد. (عذاب الحب، 2017).(1)

السعي الكاذب للأصالة يبدأ في مدارسنا، حيث الهدف هو ان تعد الشاب لعبودية الشركات. وكما يصف ذلك الفيلسوف سلافج زيزيك Slavoj Zizek "الشاب يباشر عملية تعليمية لكي يندمج ضمن النظام الاجتماعي المهيمن، وهو ما يفسر لماذا تعليم الشباب يلعب دورا محوريا في إعادة انتاج الايديولوجية الحاكمة" (أشبه بلص في وضح النهار، 2018). الدراسات في الانسانيات، مثل الفلسفة والفنون هي دائما ما يجري تجاهلها، حيث يتم تشجيع مواضيع العلوم والتكنلوجيا والهندسة والرياضيات STEM لأن المدراء التربويين يعتقدون ان هذا هو ما يطلبه أرباب العمل. المدرسون يدّعون تنفيذ "تعليم أصيل" عبر بناء سيناريوهات يحل فيها الطلاب ما يسمى قضايا "العالم الواقعي" (بافتراض اننا نعرف كيفية التمييز بين العالم الواقعي وغير الواقعي).

هذا يستلزم حل المشكلة باسلوب يجري اعتماده في مدارس الأعمال. الطلاب يوضعون في مجموعات تعاونية، منخرطون في محاكاة لـ "العالم الواقعي" ويقدمون حلولا. لكن البعض يشعر ان تشجيع المراهقين للتصرف مثل قادة الشركات لعرض حلول لقضايا مثل، ارتفاع اسعار الطاقة او كوارث المناخ، هو أقرب الى الخيال السخيف، ويشبه الفيلم الامريكي بيت غوتشي. هذه هي "الصيغة التكنوقراطية المنتجة" للتعليم، التي هدفها الوحيد جعل الناس جاهزين لسوق العمل. اثنان من بين العديد من التأثيرات لهذا هما اولا، ان الطلاب سيرون العالم كخزان او كمصدر للنهب لكي يطوروا عملهم المهني و ثانيا، ان الحياة الأصيلة هي مشروع لا نهاية له يعتمد على النجاح في عالم الاعمال. هذا السعي الإجباري اللامحدود يساهم بما يسميه زكزك "عهد الانتهازية الساخرة االمصحوبة بقلق دائم".

سارتر جادل بان "الوجود يسبق الماهية"، بما يعني ان حياتنا مشاريع لا تنتهي نستطيع صياغتها من خلال أفعال الرغبة. لكن السعي الحديث لحياة أصيلة يبدو اصبح مشروع أعمال لمدى الحياة يوضع في السيرة الذاتية.

نحن ربما نقول ان الأصالة المعاصرة هي اسطورة مبنية على وعد بان التكنلوجيا تستطيع حل جميع المشاكل. ثقافتنا التكنلوجية تقودنا لإعتبار الطبيعة مجرد مستودع تخزين، او موارد تنتظر الاستغلال. الغابة تصبح مصدرا للخشب، قطعة الارض تصبح مصدرا ممكنا للغاز او البترول او لتربية الماشية او لبناء منازل. الطلاب نظروا للتدهور البيئي او الفقر الواسع كمصدر- فرصة لأداء بعض الاعمال الطوعية لتعبئة السيرة الذاتية. هذا الاستغلال للطبيعة يدعونا لإعتبار الانسانية كمصدر ايضا، وان هيمنة الليبرالية الجديدة يعني ان الشركات لم تعد بحاجة لإخفاء حقيقة ان الانسان عُلّم كمصدر(ولهذا نجد في كل مكان قسم الموارد الانسانية). من المفارقة، ان هذا النظام الذي يسحق الفردية اختار السعي نحو الاصالة، يخلق وهما بان المرء يمكنه العثور على الاصالة عبر الخضوع لها – عبر التحول البهيج لمورد انساني، أداء حياة تعكس السيرة الذاتية. هذه الايديولوجية غير مرئية لكنها في كل مكان تؤثر وتحدد رغباتنا. وكما يرى تايلور، هناك دائما اناس يرغبون بالتضحية بأقرب علاقاتهم لكي يطوروا امكاناتهم المهنية، لكن "حاليا يشعر العديد من الناس انهم ينبغي عليهم القيام بهذا، يشعرون ان حياتهم ستكون تافهة او غير منجزة ان لم يقوموا بهذا". (أخلاق الاصالة).

الوجود نحو الموت Being-Towards-Death

احدى افكار مارتن هايدجر هي ان كونك انسان يعني كونك في العالم. الثقافة توفر وسائل للراحة في العالم وادراك بان شيء ما اكثر قيمة من الاخر. هنا يبرز مأزق، لأن بناء حياة فرد أصيلة يبرز ضمن افق الأهمية التي وضعها المجتمع. وجود هايدجر في العالم يتميز بـ "سقوط" معين دون اختيار. مصيرنا هو اننا اُلقي بنا نحو زمن محدد وضمن جغرافيا مجتمعية وفي جنس وأثنية وطبقة وما شاكل. لا شيء من هذه من اختيارنا. في محاضرته عام 1947 "رسالة حول الانسانية" جادل هايدجر باننا كثيرا ما نقع في حالة يسميها "السقوط" او "الوقوع في شرك": نحن نسقط في ثرثرة الحياة اليومية بقلقها المستمر وهمومها، لكن هذا يقودنا الى الإبتعاد عن جوهر ما يعنيه حقا ان تكون انسانا أصيلا. بدلا من ذلك، في حالة السقوط هذه، الذات هي "ذاتهم"، تعيش ضمن وباتجاه أفكار الآخرين. الشخص الساقط ربما هو متحدث ممتاز، او يحتفظ بمجموعة كبيرة من الاتصالات، او ربما هو شبكي جيد. في هذه الايام، الشخص الساقط هو الذي يؤسس حضورا مصمما بعناية في الاون لاين. هو ما اُعتبر من جانب الكثرة "كنجاح". لكن سقوط الفرد استسلم لما اسماه هايدجر بـ "التشرد الذي يرتعش فيه بلا هدف ليس فقط الانسان وانما جوهره " (رسالة حول الانسانية).

يتفق هايدجر مع ماركس بان المجتمع الصناعي ينتج الإغتراب، لكن اغترابه له جذوره في التشرد الذي "سيصبح مصير العالم". يرى هايدجر ان هناك قلق واحد نحاول ان نتجنبه بأي كلفة – نحن وحدنا بين الحيوانات نمتلك المعرفة باننا سنموت. الموت ربما بعيد لكنه لايزال افقا حاضرا الى الابد يستثمر العيش بأهمية حتى عندما ننكره.موتي هو الإمكانية التي مقابلها أعيش – حتمية سوف تنهي كل الاحتمالات. وبهذا المقدار، معرفة فنائي يعني ان موتي هو سلفا هناك. الموت حاضر حتى وهو غائب. انا لايمكن ابدا ممارسة موت شخص آخر. الموت غير علائقي – موتك خاص بك وموتي هو لي وحدي. كذلك، موتي هو يقين. لذا بالنسبة لهايدجر، توقّع موت المرء يعني ان تكون أصيلا: لتكون مطّلع تماما بان الموت هو حتمي، يمكن ان يحدث في أي وقت، ولذلك هو دائما أمامي – هذا الوعي المكثف يكشف ذاتي الأصيلة. وفي غير ذلك انا أعيش في انكار، لذا انا غيرأصيل. وبكلام عام، نحن نفر من القلق الناتج عن فكرة موتنا، وهذا يقودنا الى فقدان الأصالة.

الصحة والصناعة المضادة للشيخوخة، الانغماس بالصحة البدنية والنضارة، كله ينكر الموت ويهرب من الاصالة حتى عندما يكيّف لغة الاصالة. اليوم، نحن نشعر بالموت عبر إغراق انفسنا في عالم الثرثرة بدلا من راحة الدين. مع ذلك، بالنسبة لهايدجر، فقط عبر جعل موت المرء حاضرا في حياته من خلال احتضان الوجود – نحو الموت – يمكن للمرء ان يعيش حياة اصيلة. اذاً، عبر الاستماع لقلق النهائي الناتج عن المعرفة باني سوف اكون في لحظة ما غير موجود، انا اعيش حياة اصيلة. افلاطون يتفق في ذلك. في حوار فودو، سقراط يشير الى ان هدف الفلسفة هو "ممارسة الموت". اما الفيلسوف مونتاغن Montaigne فقد صاغ عبارة "لكي تتفلسف يعني ان تتعلم كيف تموت".

فن الأصالة

العديد من الفلاسفة مثل هايدجر، يرون ان أعمال الفن وسيلة للاقتراب من تجربة الأصالة. الكثير من ثقافة البوب الحديثة تمجّد الشباب وتنكر الموت. كلمات ديفد باو David Bowie "النسيان سيمتلك والموت وحده سيحبك" تُعد استثناءً. في اوبرا ريتشارد واغنر (1876) يحذرنا من انه حتى اولئك الذين يبدون كأنهم لا يُقهرون هم جميعهم عرضة للفناء. بدءاً من (الموت والشر، 1513) مرورا بالفن الهولندي في قرن السابع عشر، وحتى فن نشطاء الايدز في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان الفن دائما يواجهنا بحقيقة الموت غير المريحة. هناك جناح في متحف زيورخ يدعونا لاحتضان وجودنا نحو الموت.

التأمل في الفن العظيم يجعلنا نرتعش بسعادة غامرة حتى عندما يواجهنا بحضور موتنا القادم. يجعلنا نشعر بحياة اصيلة، او ربما هناك من يعارض ويقول انه سيجعلنا نبدو سخفاء. تاثير هايدجر في الفلسفة القارية كان هائلا. مع ذلك، هناك شيء غير مقبول في فكرته عن الوجود نحو الموت كأصالة، وذلك لسببين:

1- هناك نقد ادرنو بان هذه العقيدة تقود الى "العودة لعبادة الموت"(رطانة الأصالة).

2- بينما صحيح ان المرء لايمكنه ابدا اختبار موت شخص آخر، لكن هل يمكن للمرء اختبار موته هو؟ عندما يقترب الموت لايزال الشخص حيا، لم يمت بعد. حالما يموت لم يعد موجودا، وسوف لن يكون قادرا على أي تجربة. لذا، هل بامكان انا التي توجد بالأصالة تتأمل انا الغير موجودة؟ في التأمل البوذي، الهدف هو تحقيق الانفصال عن وهم الوجود المستمر. لكن الممارس لا يتأمل في اللاوجود. مع ذلك يبدو ان هايدجر مقتنعا باننا نستطيع الوعي بعدم وجودنا المستقبلي وهو ما لا يبدو صحيحا.

استنتاج

في "رسالة حول الانسانية" يرى هايدجر ان الأحاديث الكسولة تقود الى "تحطيم اللغة" (البعض بلاشك سوف يتهم هايدجر المحب للتعابير الغامضة، في انه ساهم بهذا التحطيم). ذكر الفيلسوف الروماني E.M.cioran ان الكلمات تصبح "تافهة عبر الاستعمال"، وعندما تتكرر كثيرا، "ستضعف وتموت". من خلال الاستعمال المفرط، يتحرر الدال (الكلمة المكتوبة او الملفوظة) من المعنى او الفكرة المتعلقة به، وسيحصل اللامعنى. هذه هي المشكلة في الكثير من الضوضاء المحيطة بنا. نحن سقطنا في الاحاديث التافهة، وسقطنا عميقا لدرجة اننا لا نعي مأزقنا.

مفردة "أصالة" تبرز في كل مكان. انها تعني عدة أشياء. فيها تُباع البيرة وعمليات التجميل. هي تبرر التعليم الابتكاري. تقترح ان نكون مشككين بكيفية ان نعيش. انها تتحدانا لنغيّر ما نحن فيه. لكن "عبادة الأصالة" كما سماها ادرنو، تجعل من غير المرئي كيفية تشكيل وإعادة تشكيل الفرد بواسطة الظروف التاريخية والمؤسسات. اذا كنت تشعر بالقلق او إرهاق العمل، ذلك عيبك لأنك لاتقود حياة أصيلة. الحل هو ان تعمل جاداً في النمو الشخصي والمهني وفي نفس الوقت تعالج نفسك بممارسة اليوغا او العلاج المعرفي، بدلا من نبذ المؤسسات التي تستغلك. وهكذا، فان مفردة "أصالة" التي غُلّفت في اللغة الليبرالية الجديدة كإيجابية وتحرر، اصبحت ذاتها بلا معنى ومدمرة وسخيفة.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) في كتاب عذاب الحب (The Agony of Eros) ينظر المؤلف هان في مخاطر الحب والرغبة في مجتمع اليوم. هو يرى ان الحب يتطلب الشجاعة لقبول انكار الذات لأجل اكتشاف الآخر. تتمحور الافكار الرئيسية في الكتاب حول التالي:

تآكل الآخر: حيث ان المجتمع الحديث أضعف الآخر وهو ما يقود الى خسارة الحب.

إنقاذ الجمال: يرى هان ان الجمال اصبح قيمة استهلاكية يجري استغلاله وتشويهه في العالم الحديث. إنقاذ الجمال يمكن ان يتم بالعودة الى سمو الجمال وسلبيته، والالتزام بالجمالية التوليدية والصادقة.

الإخلاص: يحتضن الكاتب فلسفة ألان باديو الذي يؤمن بان مهمة الفلسفة هي ان تكون مخلصة لما يشدنا الى بعضنا. هان يرى اننا يجب ان نحاول مسايرة كل أجزاء الحياة وليس فقط عندما تكون ممتعة.

 

في المثقف اليوم