أقلام فكرية

محمد فراح: الفلسفة بوصفها بناءً حجاجياً

تمهيد إشكالي: تشكل المُحاجَّة أو المُحَاجَجَةُ قدرةً من القدرات الأساسية الكبرى في للدرس الفلسفي، لأنها تأتي في الترتيب -حسب ميشيل طوزي ومن معه- بعد كل من المفهمة والأشكلة، سنحاول التعرف في هذا المقال على هذه القدرة الحجاجية ومدى قيمتها في الدرس الفلسفي خصوصاً والفلسفة عموماً، لأنه لا أحد ينكر أن البناء الحجاجي يشكل خصيصة التفكير الفلسفي عبر تاريخه، أقصد هنا المُحاجَّة، خاصة وأنه يمكن تعريف الفلسفة بكونها ذلك المجال النشيط والخصب بالحجاج، فلا وجود لفيلسوف قدم رؤيته للعالم بدون إستخدام إستدلالات منطقية تحكم متنه الفلسفي ولا يمكن أن يوجد، وهذا ما نلحظه عندما نغمر أنفسنا في قراءة الأفكار الفلسفية، لدرجة أن هذه المحاجة أخذت إستقلالها في تاريخ الفكر، وبدأنا نتحدث عن نظرية الحجاج، ونظرية المنطق وآليات الإستدلال، ثم المنطق الرمزي المعاصر، وأيضاً فلسفة الحجاج المتمثلة في نظريات وأنماط الخطاب ونظريات البلاغة، وفلسفة اللغة، ثم الفلسفة وأنماط التعبير وإمتدادات ذلك إلى النظرية التداولية وأنماط التواصل، والإتجاهات الأسلوبية في اللسانيات المعاصرة، كما أصبحنا نتحدث أيضاً عن الإتجاهات السيميائية في تحليل الخطاب، وهناك من يدعي من رواد العلوم المعرفية وعلوم الأعصاب البعد السيكولوجي للحجاج، ودليلهم على ذلك أن الوظائف الدماغية والعصبية للحجاج لم تخضع بعد للتحليل العلمي الدقيق، ويصرون على تأكيد البعد الحجاجي للوظائف الدماغية موضوعاً لعلوم الأعصاب والعلوم المعرفية عموماً، ما يعني حسبهم أنه يجب تقويض الخطابات الأدبية والفلسفية عن موضوع الحجاج، كل ذلك في حقيقته ناتج عن النظرية الحجاجية وإنفتاحها على كل الميادين البحثية الأخرى، لذلك سنحاول الإنطلاق من مجموعة من الأسئلة الموجهة للتحليل والمناقشة بغرض التعرف على قدرة المحاجة في الدرس الفلسفي، وهي كالآتي:

ماذا نقصد بالمحاجة؟ والدلالات المتداخلة معها؟

ما هي منزلة قدرة المحاجة في الدرس الفلسفي؟

ما الذي جعل من المحاجة قدرة أساسية في الفلسفة من خلال تاريخ

الفلسفة؟

ننطلق في مقدمة عرضنا، للإجابة على السؤال الأول المتعلق بالمعنى المراد من المُحاجة، يخبرنا أندري لالاند في المعجم النقدي والتقني للفلسفة بأن «الحجة argument  هي عبارة عن إستدلال يرمي إلى برهان قضية معينة أو دحضها» [1]، إذن هذا التعريف الأولي يخبرنا بأن الحجة هي عبارة عن ذلك الإستدلال الذي غرضه البرهان على قضية معينة أو حتى دحضها وتفنيدها، ما يجعل من الإستدلال خصيصة من الحجة، وبالفعل فالنظرية الحجاجية تستند كثيراً إلى نظريات الإستدلال وآليات البرهان، خاصة وأن الحجاج argumentation  هو عبارة عن «جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهنة على رأي أو إبطاله، أو هو طريق تقديم الحجج أو الإستفادة منها» [2]، إذن يعبر الحجاج عن مجموعة منظمة بدقة ومتنوعة من الحجج والبراهين والإستدلالات التي الغرض منها المحاجة على أي تصور أو محاولة دحضه وتكذيبه وتفنيده وذلك من خلال عرض الحجاج أو إستعمالها أثناء عملية عرض الأفكار، وبالتالي تصبح عملية المحاجة جزءاً لا يتجزأ من عمل الفيلسوف، أما البرهان فيختلف إختلافا قاطعا عن الحجة، يقول عنه لالاند أنه «إستنتاج يهدف إلى إثبات لزومه أو نتيجته إستنادا إلى مقدمات معترف بها أو مسلم بها على أنها صحيحة» [3]، إذن ما يميز البرهان هو أنه إستنتاج في الحقيقة، ينطلق من تلك المقدمات التي تكون مثبتة أو من مسلمات على أنها صائبة، لذلك سيعتبره جميل صليبا على أنه «حجة قاطعة» [4]، إذن من هنا يجب علينا التمييز جيداً بين البرهان والإستدلال والحجة والمحاجة، وذلك من خلال فهم الحجاج ورصد العمليات الحجاجية عن طريق إستكشاف الإستدلالات منتبهين إلى الروابط المنطقية، كما يجب التفريق بين ما هو دعوى وما هو دليل، خاصة من خلال التمفصلات المنطقية Les articulations logiques inhérentes à tout discours philosophique الموجودة دائماً في أي خطاب حجاجي، وبالتالي الكامنة داخل كل خطابي يدعي أنه فلسفي، وترتيب الإستدلالات المتجلية في الأفكار سواء كانت كلية أو جزئية "L'enchaînement des arguments dans un discours philosophique"، كما لا يجب علينا الفصل بين ما هو منطقي إستدلالي صوري وبين روح الأفكار التي تتجلى وظيفتها في الخطاب على شكل مفاهيم أو عبارات مربوطة ربطا منطقيا منظما دائما ومستدلا عنه، هذا ما يميز نظرية الحجاج.

لننتقل مباشرة إلى منزلة الحجاج في الدرس الفلسفي، بعد تعرفنا على المحاجة والدلالات المترتبة عنها من برهان وإستدلال، حيث تتجلى مرتبة الحجج في الدرس الفلسفي من خلال حث التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي على إعتباره «كفايات منهجية تمثل في إكتساب آليات التفكير الفلسفي الأساسية: المفهمة، الأشكلة، والحجاج، وأدوات التفكير الأخرى كالملاحظة، المقارنة، الإستدلال، التحليل، التركيب، النقد،... إلخ ؛  تحقيق التماسك المنطقي في التعبير والكتابة عن طريق التحكم في أدوات الربط المنطقي (إذن، فإن، سيلزم، لكن... إلخ).» [5]، كما أكد أيضاً على إعتبار أن الحجاج «يفترض دائماً نوعاً من الإستدلال والعرض المنطقي، بغرض الدفاع عن أطروحة معينة وكسب الإجماع عليها، كما يرتبط الحجاج بكل العمليات التي يوظفها خطاب ما لأجل التأثير على المتلقي وإقناعه وإثارة إنتباهه، وكسب موافقته على الأطروحات والمواقف التي يتضمنها ذلك الخطاب، ورغم إختلاف الحجاج، المعتمد في الفلسفة عن البرهان العلمي، فإن الخطاب الفلسفي يتميز بتنوع وكثرة العمليات الحجاجية، التي تساهم في جعله خطابا معقولا ومنظما، يستعمل تقنيات إقناعية منطقية أو شبه منطقية أو بلاغية » [6]، تجذر الإشارة هنا إلى أن الحجاج ليس خصيصة التفكير الفلسفي لوحده وفقط، بل يمكن إعتبار جميع أنواع التفكير الأخرى سواء العلمي [في شقه البرهاني] والديني والسياسي والقانوني،... إلى آخره، لها ما يميزها من الجانب الحجاجي إلا أن الفلسفة تتميز بغزارتها وتنوع وكثرة العمليات والطرق الحجاجية، التي تساهم في جعلها خطابا عقليا منظما متماسكا ومتراصا وقلعة حصينة بالحجاج تستعمل العديد من التقنيات الإستدلالية التي هدفها هو الإقناع والدفاع عن أطروحة صاحبها أو التفنيد في بعض الأحيان.

ننتقل الآن مباشرة للإجابة عن السؤال الأخير، ذلك المتعلق بالمحاجة ونظرية الحجاج عبر تاريخ الفلسفة، لتبيان أن المحاجة خصيصة التفكير الفلسفي بإمتياز، ذلك أن جميع الفلاسفة على مر العصور إستعملوا أثناء التعبير عن أفكارهم حججا وإستدلالات متراصة، بدءا من لحظة الميلاد مع الحركة السوفسطائية التي يحسب لها التأسيس لطريقة معقلنة للكلام مع كوراكاس Corax  إلى نظرية الحجاج مع أفلاطون التي تشكل لحظة الهدم والتقويض والنقد والدحض، خاصة النقد اللاذغ الذي وجهه للخطابة ولحجاج السوفسطائيين، إلى لحظة التأسيس الفعلي لنظرية الحجاج مع الأب الروحي أرسطوطاليس من خلال كتابه الشهير "الريطوريقا"، هذه اللحظة التأسيسية الأخيرة التي ستمتد كثيراً في تاريخ الفلسفة من القرن الرابع قبل الميلاد، -رغم ظهور نظريات حجاج جديدة مع شيشرون وكانتيليان إلا أنها نهلت الكثير من محاجة أرسطو مع حضور جوانب إبداعية- إلى حدود القرن العشرين الميلادي والذي سيعرف عصر نهضة الحجاج البلاغي مع بيرلمان وتيتيكا وإعادة إحياء الخطابة مع إستعمالات الحجة لتولمين، إذن كان غرضنا هنا، ليس التفصيل في كل نظريات الحجاج عبر التاريخ الفلسفي لها، بل إنما الإشارة إلى أن تاريخ الفلسفة لهو تاريخ نظرية الحجاج بإمتياز، كما أن نظرية الحجاج جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المديد.

على سبيل الختم، كان الغرض الأول من هذا المقال هو أولا التعرف على المحاجة بإعتبارها قدرة بنائية من القدرات الأساسية في مادة الفلسفة، وذلك من خلال تقديم تعريف محدد لها، بل وللدلالات المترتبة عنها، أقصد هنا البرهان والإستدلال والحجة، كما حاولنا الإشارة إلى أهمية ومرتبة ومنزلة هذه القدرة في درس الفلسفة، إضافة إلى إحالتنا وفقط على أشهر النظريات الحجاجية عبر تاريخ الفلسفة، التي أكدنا فيها على أن هذا التاريخ لهو تاريخ حجاج بإمتياز، بل ما يميز المتن الفلسفي هو كونه متنا حجاجيا، فكل فيلسوف إستعمل عُدَّةً متراصَّة من الحجاج أثناء عرضه لأفكاره، مما جعل المحاجة تنفتح على عدة مجالات أخرى وتمتد إلى المنطق وآليات الإستدلال، والفلسفة وأنماط التعبير، ونظريات الخطاب، والخطابة والبلاغة والجدل، وفلسفة الحجاج، ولها رهانات مع فلسفة اللغة، واللسانيات المعاصرة، بل حتى التداوليات، والأسلوبية، لتصل إلى السيميائيات.

لذلك نحث بضرورة الإنفتاح على الدراسات الحجاجية والبلاغية الجديدة، من أجل التعمق في معرفة النظريات الحجاجية ومذاهب الفكر اللغوي والحجاجي، وذلك للتمكن من آليات تحليل الخطاب كيفما كان نوعه، إن التمكن من المحاجة الفلسفية سيمكن من تجاوز الخطابات التافهة بل كشف وتشخيص المتناقضات والمغالطات المضمرة فيه، من خداعات لفظية نكتشفها كامنة في كل خطاب.

"Les pièges du langage inhérents à toute communication nous obligent à être vigilants dans notre choix des mots"

وكان غرضنا من هذا المقال المقتضب -في الحقيقة- هو التنويه بهذا التاريخ المخفي من الحجاج، وذلك بالإنطلاق من مشهورات الحجاج القديم إلى الحديث والمعاصر، من حيث أن هذا التاريخ نجده مليئا بالقطائع، خاصة مع البلاغة الجديدة مع كل من بيرلمان وتيتيكا، وعليه يكون هذا المقال بمثابة أرضية خصبة للإنتقال إلى الأساس الصلب لهذه النظريات، ويمكن عده مدخلاً للتعرف على الفلسفة كبناء حجاجي بغرض التوسع أكثر في دراسة نظرية الحجاج والخطابة والبلاغة.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

....................

المراجع والمصادر المعتمد عليها:

[1] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 93-94.

[2] – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المجلد الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، ص 446.

[3] – أندري لالاند، المرجع نفسه، ص 260.

[4] – جميل صليبا، المرجع نفسه، ص 206.

[5] – وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، كتابة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 7

[6] – نفس المرجع، ص 10.

 

في المثقف اليوم