أقلام فكرية
طه جزاع: مدارات فلسفية.. الورقاء التي حيَّرت الشيخ الرئيس
شَغلت النفس وقضاياها المتعلقة بطبيعتها وجوهرها وبراهين وجودها ومصيرها بعد مفارقتها البدن، الفلاسفة منذ أقدم العصور، واحتلت حيزاً مهماً من مؤلفاتهم ورسائلهم ومصنفاتهم المتنوعة في الفلسفة والادب، وكانت لهم فيها اَراء ونظريات مختلفة، فمنهم كما يصنفهم إبراهيم مدكور الماديون الذين اعتبروا النفس مجرد جسم لا ميزة له ولا اختصاص، والروحيون الذين الهّوها وابعدوها عن عالم المادة، ورأوا فيها قوة الهية روحية تهبط الى البدن من العالم العلوي، ومنهم من وقف موقفاً وسطاً، فجعلها مزاجاً بين الجسم والروح، أو بخاراً حاراً كما قال الرواقيون، أو صورة للجسم كما ارتأى ذلك أرسطو واتباعه.
ووقف فلاسفة المسلمين على هذه الآراء وتباينت مواقفهم منها، ففرقة منهم تتكلم عن هبوط النفس، واخرى عن روحانيتها، وثالثة تفضل العقل عليها، ورابعة تعتنق التناسخ مبينة كيفيته وغايته. علماً ان القراَن الكريم وردت فيه كلمة "روح " بمعنى الهي وكلمة "نفس" بمعنى انساني خالص. فقد استعملت كلمة روح بمعناها الإلهي كما في الآيات بسم الله الرحمن الرحيم:
"وأيّدناهُ برُوحِ القُدُسِ" البقرة : 87، 253 . " وكلمتُهُ القاها الى مريمَ ورُوحٌ منهُ " النساء: 171. "يُنَزِّلُ الملائكةَ بالرُّوحِ مِن أَمرِهِ " النحل : 2 . "وَيَسئلُونَكَ عنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبّي "الاسراء : 85 . " يُلقي الرُّوحَ من أَمرِهِ على من يشاءُ من عبادِهِ ليُنذِرَ يومَ التَلَاقِ " غافر: 15. " تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إِليهِ " المعارج : 4. "يومَ يقُومُ الرُّوحُ والملائكَةُ صَفًا" النبأ : 38. ففي كل هذه الآيات فأن الروح لا تدل على الروح أو النفس الإنسانية، بل على كيان إلهي يتنزل من الله. وفي مقابل ذلك نجد كلمة " نفس" تدل على معنى انساني خالص، وغالباً بمعنى ذات الانسان، ومبدأ الحياة فيه كما في الآيات بسم الله الرحمن الرحيم: " ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ " البقرة :281. " لا تُكَلَّفُ نَفسٌ إلَّا وُسْعَهَا " البقرة : 233. " وَكَتَبنَا عَلَيهِم فيها أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ " المائدة : 45. "ولا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إلَّا عَلَيهَا " الانعام : 164. " يومَ تَأتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَن نَّفْسِها" النحل : 111 . ولهذا فأن كل نفس مائتة كما في الآيات: " وما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ " لقمان: 34 . و "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقةُ المَوتِ ثُم إلينَا تُرجَعُونَ "العنكبوت: 57. والواقع ان الفلاسفة والمتكلمين المسلمين قد اختلفوا في قضية النفس، مثلما اختلف فيها فلاسفة اليونان، فمنهم من قال بروحانية النفس، ومنهم من يقدم الأدلة والبراهين على ماديتها وهناك من يقف موقفاً وسطاً بين هاتين النزعتين المتناقضتين. ومثل بقية الموضوعات الفلسفية فأن ابن سينا في قضية النفس يغلب على أرائه طابع التوفيق بين الحكمة والشريعة، وبين تعاليم وفلسفة ارسطو الممتزجة بتعاليم افلاطون والافلاطونية المحدثة، وتعاليم الدين الاسلامي مع توسع في فهم النصوص القرآنية والابتعاد عن التزمت وعن التزام الحرفية شأنه في ذلك شأن أستاذه الفارابي واغلب الفلاسفة المسلمين، وإن مال ابن سينا في فلسفته، وقضية النفس، أحياناً الى ارسطو الذي يرى ان الوحدة بين النفس والجسم شبيهة بالعلاقة بين " الشمع والطابع المطبوع فيه " وفي هذه الحالة، لا توجد نفس منفصلة عن جسم، مادامت هي صورته، وبالتالي فأنها تفنى بفنائه، فأننا نجده يميل في مواقف اخرى الى رأي افلاطون في أن النفس جوهر لامادي، قادر على الوجود بنفسه مستقلاً عن البدن، وفي هذه الحالة توجد النفس قبل الجسم الذي تحل فيه، وبعد انفكاك صلتها به، وهي خالدة لا تفنى بفنائه، وسنجد هذا الموقف من الوهية النفس، واختلاف طبيعتها عن طبيعة الجسد، وخلودها، واضحاً في ابيات قصيدته العينية التي يقول فيها:
هَبَطَتْ إِليكَ منَ المَحَلِّ الأَرفَعِ
وَرْقاءُ ذاتُ تَعَزُّزٍ وتَمنُّعِ
*
محجوبةٌ عَن مُقلةِ كُلِّ ناظـــرٍ
وهي التي سَفَرَتْ ولم تتبرقعِ
*
وَصَلَتْ على كُرهٍ إليكَ، ورُبَّما
كَرِهَتْ فِراقَكَ وهي ذاتُ تَفَجُّعِ
*
أَنِفتْ وما أنِسَتْ، فلما واصلت
ألفِت مُجاورةَ الخراب البَلقَعِ
*
وأظُنُّها نَسِيَتْ عُهُوداً بِالحِمَى
ومَنازِلاً بفراقِها لم تَقْنَعِ
*
حَتَّى إذا اتَّصَلَتْ بِهاءِ هُبُوطِهَا
عَنْ مِيمِ مركزها بِذاتِ الأَجْرَعِ
*
عَلِقَتْ بِها ثّاءُ الثَّقِيل فَأصْبَحَتْ
بَيْنَ المَعالِمِ والطُّلُولِ الخُضَّعِ
*
تَبْكِي، وقد نَسِيتْ عُهوداً بالحِمى
بمدامعٍ تَهمي وَلَما تُقْطعِ
*
وتَظَلُّ ساجعةً على الدِّمْنِ الَّتِي
دَرَسَتْ بِتِكرارِ الرِّياحِ الأَرْبعِ
*
إذ عاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا
قَفَصٌ عَن الأَوْجِ الفَسيحِ المُرْبِعِ
*
حتى إذا قَرُبَ المسير الى الحِمى
ودَنا الرحيلُ الى الفضاءِ الأوسعِ
*
سَجَعَتْ، وقَد كُشِفَ الغِطاءُ، فأبْصَرَتْ
ما لَيس يُدرَكُ بالعُيونِ الهُجَّعِ
*
وغَدَتْ مُفارقَةً لِكُلَّ مُخْلِفٍ
عَنهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ
*
وبَدَت تغرَّدُ فوق ذَروة شاهقٍ
والعلمُ يرفَعُ كلَّ من لم يُرفَعِ
*
فَلأيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ من شامِخٍ
سامٍ الى قَعْرِ الحَضِيضَ الأوضَعِ؟
*
إنْ كانَ أهبَطَها الإِلهُ لحِكْمَةٍ
طُوِيَتْ عن الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأرْوَعِ
*
فهبوطُها إِنْ كان ضَربةَ لا
لتكونَ سامعةً بما لم تسمعِ
*
وتعود عالمةً بكل خف
في العالَمَيْنِ، فخِرْقُها لم يُرقعِ
*
وهيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا
حَتَّى لَقَدْ غَربتْ بِعَيْنِ المَطْلَعِ
*
فَكأَنَّهَا بَرْقٌ تألَّقَ بالحِمَى
ثُمَّ انْطوى فكأنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ
في هذه القصيدة يُشَّبه ابن سينا المعروف في تاريخ الفلسفة الإسلامية بالشيخ الرئيس، أو المعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، النفس بالورقاء" الحمامة البيضاء" التي هَبَطت أو " أُهبطت" دون ارادتها من المحل الأرفعِ ِ اي العالم الإلهي، أو عالم المعقولات، عالم المُثُل " الصورة العقلية المُجرَدة" – وفق التسمية الافلاطونية – وهي في حالة تعزز وتمنع بسبب شوقها للبقاء في عالمها العلوي، وكرهها للهبوط الى العالم الارضي المادي المحسوس، الذي هو بمثابة الشَرك أو القفص، وفي النفس جزء إلهي، وسر محجوب عن المعرفة والعارفين على الرغم من وضوح وجودها، ودلالاته، واشاراته " وهي التي سفرت ولم تتبرقع "، واذا كانت النفس قد حلَّت في الجسد على كره منها، ألا ان اعتيادها عليه والفتها معه يجعلها تكره فراقه، وتحزن وتتفجع لهذا الفراق، مثل اعتياد الحمامة على القفص، ومثل اعتياد السجين على زنزانته وسجنه، ولطول المدة التي تقضيها النفس في الجسد، فأنها تألف شيئاً فشيئاً مجاورة المادة الفانية مع انها في البدء كانت تأنف من ذلك، ولم تستأنس اليه إلا بعد ان نسيت منازلها وعهودها في عالمها العُلوي، وما تلبث ان تُثقل وتعلق بأدران المادة واطلالها وخرابها لكنها تبكي، وتسجع – سجع الحمام – طول الفصول والأيام، وهي تشتاق لمنزلها الأول، الذي يصده عنه "الشَرَكُ الكثيف" والقفص الذي وجدت نفسها بداخله، حتى إذا " كُشفَ الغطاءُ " أبصرت ما ليس يُدرك أو يُبصر بالعيون, فارتفعت الى" ذروةِ شاهقٍ" مغردةً سعيدة بعودتها وخلاصها من الجسد الذي بقي على الارض غير مُشَيع " غير مودع " وهي تغادرهُ الى العالم الإلهي، عالم العقول والانفس الصافية من علائق المادة الفانية. وبعد هذه الرحلة المضنية للنفس، وهبوطها الى الأرض، ودخولها الجسد، ثم اعتيادها عليه واشتياقها لاحقاً لعالمها الأول، وتوقها للخلاص من الجسد – القفص - يتساءل ابن سينا عن السبب والحكمة التي تقف وراء ذلك كله : فلأي شيء أُهبطت من شامخٍ سامٍ الى قعر الحضيض الأوضع ؟ . فأن كان هبوطها من أجل ان تكون سامعة بما لا تسمع، أو تعلم بما لا تعلم، وتطلع على كل خفية أو سر في العالمين العلوي والارضي، فأن ذلك كله لم يرقع خرقها، وها هي قد غابت وغربت وغادرت بعد انقضاء تجربتها المريرة مع الجسد وعالم الخراب والفناء و: كأنها برقٌ تألق بالحمى ثم أنطوى، فكأنه لم يلمع !!، وكأن وجودها في الجسد كان وجوداً عابراً وطارئاً، وسريعاً في بريقه وإنطفائه، سرعان ما انطوى وكأنه لم يلمع. وهنا يقف الشيخ الرئيس موقفاً صريحاً من الذين انكروا وجود النفس، أو الذين عدَّوها عَرَضاً من أعراض الجسد، لذلك نجده يعيد ويكرر البراهين لأثبات حقيقة كون النفس جوهراً روحانياً لا يفنى بفناء الجسد في الكثير من مؤلفاته، وكان لابد له من هذا الموقف تجاه روحانية النفس مخالفاً بذلك فلسفته الأرسطية المادية لكونه أحد الأثنين الكبار إلى جانب الفارابي الذين يُحسبون على المشّائيين اتباع أرسطو في الفلسفة الإسلامية، لكنه خرج من هيمنة أرسطو في موضوع النفس لكي لا يخرج عن مفهومها في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية .
***
د. طه جزاع – كاتب أكاديمي
المقال منشور في موقع مراصد أيضا