أقلام فكرية

قلولي بن ساعد: الحذاء والثقافة

أو كيف يمكن تحرير "الذات العالمة" من سلطة العقل السياسي؟

بينما كنت أطوف شوارع الجلفة، المدينة التي أقيم بها الواقعة جنوب الجزائر العاصمة بنحو ثلاث مائة كلم ومتاجرها المختصة في بيع الأحذية بحثا عن حذاء يليق بمقاسي تحسبا لفصل الشتاء حيث برد الجلفة القاسي.

تذكرت العنوان الصادم لإحدى نصوص القاص والأكاديمي الجزائري السعيد بوطاجين القصصية (حذائي وجواربي وأنتم)، مثلما تذكرت عنوان رواية مهمة للروائي الجزائري الأعرج واسيني وهي (وقع الأحذية الخشنة).

وأتصور بأنه لم يكن قرار عنونة المجموعة القصصية للسعيد بوطاجين بذلك العنوان الصادم للذائقة الثقافية العربية (حذائي وجواربي وأنتم) قرارا عفويا، أو هو غيرمدروس بعناية من طرف سارد وعقل سيميائي هو على علاقة كبيرة بخطاب العتبات النصية مثلما هو مكرس في المتن النقدي لأحد أعلام النقد الحديث وهو جيرار جينيت.

وهو أقل ما يمكن أن يصدر من قاص وناقد من نقد سياسي صاغه في فن إبداعي هو القصة القصيرة، مرر من خلاله بعض رسائله الضمنية المعبأة بالكثير من الغضب والشكوى لمن يهمهم الأمر.

والأمر نفسه ينطبق على الروائي الجزائري الأعرج واسيني، فلا أعتقد بأن وضعه لهذا العنوان (وقع الأحذية الخشنة) كان من قبيل الصدفة أو العفوية الإبداعية.

 طالما أن الأعرج واسيني وهو ناقد وأستاذ جامعي قبل أن يكون روائيا، لا يمكن أن يكون على غير علم أو إطلاع على خطاب العتبات النصية، مثلما هو مكرس في المتن النقدي لأحد أعلام النقد الحديث وهو جيرار جينيت.

مثلما تذكرت أيضا اللوحة الفنية الشهيرة التي تحمل عنوان (أحذية فان غوغ)

اللوحة التي خصها الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد جاك ديريدا بمقاربة فلسفية تفكيكية ضمن كتابه (الحقيقة في الرسم).

ثم تساؤل الروائية والباحثة التونسية المتخصصة في فلسفة الجمال أم الزين بن شيخة المسكيني.

التساؤل الذي تصدر دراسة قيمة خصت بها أم الزين بن شيخة المسكيني فصلا من كتاب ديريدا (الحقيقة في الرسم)، الفصل المتعلق بأحذية فان غوغ.

الدراسة الموسومة (ديريدا تفكيك اللوحة..هل ثمت أشباح في أحذية فان غوغ.. ؟).

يقول مضمون هذا السؤال الصادر عن أم الزين بن شيخة المسكيني.

 " لمن تصلح الأحذية ؟.

لحماية أقدامنا من صلف أحجار الطريق أم لدعس أحلام الحفاة العراة حيث لا بنيان لهم ولاهم يتطاولون.. ؟

أم لرجم الطغاة والحكام حيثما طغوا وتجبروا ؟ " (01).

لكن لماذا استدعاء تيمة الحذاء في سياق التفكير المعاصر لإنسان ما بعد الحداثة الذي أدركه الوعي بحسب تحليل أم الزين بن شيخة المسكيني بأن الحذاء هو هامش الجسد أو تحته ولذلك افترضت أم الزين بن شيخة المسكيني أن " أحذيتنا هي واجهة كل المهمشين عن الواجهة وكل الذين لا يشاركون في اقتسام خيرات العالم " (02).

وعلى هذا الأساس ترى أم الزبن بن شيخة المسكيني بأن هذا الاستدعاء لتيمة الحذاء وللوحة فان غوغ، هو" الذي أصبح يؤجج التفكير الفلسفي وأن يكون موضع خصومة شديدة اللهجة مع أقطاب الفكر الإنساني " (03).

كما حدث لفيلسوف الهوامش جاك ديريدا مع لوحة أحذية فان غوغ، الذي لم يكن اختياره لها محض صدفة، وهو الذي عني في قراءته الفلسفية للوحة أحذية فان غوغ " بخلخلة إطار مركزية اللوغوس الحديث منذ أول نص مؤسس لبراديغم الإستيطيقا الذي نصب نفسه منذ كانط إلى أدورنو وصيا على ميدان الجمال والفن والإبداع " (04).

الأمر الذي حتم على أم الزين بن شيخة المسكيني الدخول إلى مناخات علبة التحليل التفكيكي الدريدي للوحة فان غوغ عبر فلسفة التفكيك، كما تشكلت في المخيال الفلسفي لديريدا

بما يعني " إزاحة اللوحة من من غطرسة براديغم الإستيطيقا القائم على غطرسة ميتافيزيقا الذات " (05).

حيث يهدف دريدا والكلام لأم الزين بن شيخة المسكيني " للدخول في مهمة جديدة للفلسفة مدعوة إلى تفكيك العالم الحديث عبر خلخلة النصوص التي تدعمه وتضمن له كل صلاحيات غطرسة الإطار والأجهزة من إطار لوحة الرسم إلى جهاز الدولة ومن غطرسة العقول إلى استبداد الطغاة " (06).

الغطرسة التي قادت صحفيا عربيا هو منتظر الزيدي للخروج عن غطرسة الاطار في بعده السياسي الإمبريالي خروجا علنيا، عندما تجرأ على رجم الرئيس الأمريكي جورج بوش بفردة حذائه أمام رئيس الحكومة العراقي نور المالكي، وهو فعل حي من أفعال الحياة التي لا تنسى رغم إدراكنا بأن فعل الرجم وحده لا يكفي.

ولابد من القيام بفعل آخر هو فعل (عقل الشهوة) بمفهوم فتحي المسكيني أو لجمها للحد منها، ونعني بذلك شهوة ممارسة السلطة كنوع من المقاومة الثقافية لفعل الوطء

 والاستبداد السياسي الذي يمارسه العقل السياسي العربي على الرعية، التي يمارس عليها فعل الهيمنة أو الوطء السياسي بوصفها من (المهيمن عليهم من طرف الهيمنة نفسها) بحسب العبارة الشهيرة لفيلسوف العدالة الاجتماعية كارل ماركس.

والعقل السياسي المعنى بهذا النوع من النقد وهو نقد ثقافي هو العقل السياسي الذي خصص له المفكر المعروف محمد عابد الجابري الكتاب الثالث من ثلاثيته الشهيرة المتكونة من الكتب التالية :

تكوين العقل العربي

بنية العقل العربي

 العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته.

عندما يقدمه بوصفه العقل الذي " يمارس سلطة الحكم ومحددات الفعل السياسي بوصفه سلطة تشكل في مجموعها العقل السياسي " (07).

على أننا سوف لن نتقيد بما يخص العقل السياسي من دور، ولن نجعل هذا النقد حكرا عليه وفي الأفق أن كل ممارسة من ممارسات "العنف الرمزي" أو الاحتواء الثقافي مصدرها العقل السياسي، حتى ولو كان الفاعل هو العقل الثقافي عندما يتخلى عن ممارسة حقه في النقد العقلاني أو حتى "النقد الذاتي " الذي بشرت به التجرية الماركسية، وهي تعيد النظر في كل ممارساتها الحزبية والإيديولوجية ناقدة ذاتها.

لأن العقل السياسي ذاته ليس حكرا على من يمارس السياسة فقط.

بل هو على ما ينبه لذلك محمد عابد الجابري، عندما أراد الرد على أولئك الذين ناقشوا بعض أعماله النقدية السابقة وأخذوا عليه مثلما يعترف بذلك علنا، أنه أهمل في تحليل (الخطاب العربي) و(نقد العقل العربي) ربط الفكر بالواقع الاجتماعي والتاريخي أن العقل السياسي " يقع بين من يمارس السلطة السياسية أو يشرع لكيفية ممارستها وبين من تمارس عليهم هذه السلطة " (08).

وسنشدد على أهمية " سياسة الأدب " أو السياسات الأدبية بالمعنى الذي يقترحه جاك رانسيير في كتابه (سياسة الأدب) وينبغي عدم الخلط بين سياسة الأدب.

وهي ممارسة فكرية من صميم عمل الكتاب والمفكرين وبين الممارسة السياسية المنجزة من طرف السياسي ضمن عمل العقل السياسي، أو حتى تلك التي تمارس من طرف الكائن الثقافي عندما يتحول إلى أداة من أدوات العقل السياسي.

من دون أن يغيب عن أذهاننا " أن السياسة مجال خاص من الخبرة يفترض وجود أغراض عامة وينظر فيه إلى البعض على أنهم قادرون على تحديد هذه الأغراض " (09)

ولعل هذا ما جعل الناقد والفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير يحرص على القول بأن السياسة بوصفها تأسيسا لهذا المجال الخاص " ليست معطى محددا يرتكز على ثابت أنتروبولوجي فالمعطى الذي تستند إليه السياسة متنازع عليه دوما " (10).

يتجلى ذلك في المنظور النقدي للفيلسوف جاك رانسيير، عندما يحاول الاستئناس بعبارة شهيرة لأرسطو متخذا منها متكأ يقول مضمون هذه العبارة " أن البشر مخلوقات سياسية لأنهم يتمتعون بميزة الكلام الذي يسمح بالحديث عن العدل وعن الظلم بينما لا تملك الحيوانات سوى الصوت الذي بعبر عن اللذة وعن الألم " (11).

وقد يمارس الأديب السياسة بوصفها أدبا بالمعنى الذي يخصص له جاك رانسيير فصلا من كتابه (سياسة الأدب) الفصل الذي يحمل العنوان ذاته (سياسة الأدب)، من حيث أنه يفترض " وجود صلة جوهرية بين السياسة بوصفها شكلا خاصا من أشكال الفعل الاجتماعي والأدب بوصفه ممارسة محددة للكتابة " (12).

ولم يخطئ تماما المفكر التونسي فتحي المسكيني عندما اعتبر بأن أعلى " مراتب القوة والتسلط على البشر هو نكاح العقل " (13).

ولهذا النوع من التسلط على البشر تجليات تجد لها ردود فعل فلسفية، كالذي أبداه المفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب، الذي لم يتردد في اعتبار الإنسان مهما كان وضعه " ذاتا راغبة ولكل رغبة آلياتها السلطوية الملموسة او المجردة " (14).

وهذه الآليات يحصرها فتحي المسكيني في الخطاب سواء كان هذا الخطاب دعويا أو سياسيا كمقدمة أولى لممارسة حقه في المقاومة الثقافية يتجلى ذلك من خلال اعتبار المسكيني أن " كل خطاب دعوي أو عدمي أو استلابي هو نكاح للعقل " (15).

وهو في منظور المسكيني " خبث إبستمولوجي موجود في كل الخطابات الماضوية منها أو المستقبلية (16).

وليس حكرا على الخطاب العربي، هكذا يؤدي فعل عقل شهوة السلطة دوره المقاوم للاستبداد العقلي بالتساوق مع النتيجة التي ينتهي إليها فتحي المسكيني لدور العقل المستقل، حتى ولوكان عقل الأنثى المفكرة في قدرته على " عقل الشهوة التي لا تفكر أي على حقن دماء الناس من أي إرادة تريد تحويلهم إلى موضوع شهوة أي إلى جسد للنكاح " (17).

ودع عنك أن يكون هذا النكاح سياسيا أو نكاحا ثقافيا كالذي حذر منه ومن نتائجه الوخيمة ناقدا ثقافيا هو محمد عبد الله الغذامي في أطروحته عن النقد الثقافي، ونعني بذلك الزواج النسقي " بتعبير الغذامي، وفي كل زواج كما هو معروف عقد وهذا العقد هو " العقد الثقافي القائم على المصلحة المتبادلة بين الطرفين مع تسليم المؤسسة الثقافية الرسمية بذلك (18).

مما يعني الاقتراب من المعنى الذي يتواتر في شعار الأنوار كما ورد في نص شهير للفيلسوف إيمانويل كانط عن ماهي الأنوار ؟

إذ ما أردنا حقا أن ننتصر لذواتنا، وأن نمارس حقنا المشروع في النقد وفي استعمال عقولنا.

لفد لفت انتباهي قول كانط " تجرأ على استعمال عقلك أنت ذلك هو شعار الأنوار " (19).

ومن الأهمية بمكان العمل بضرورة استخدام عقولنا لا عقول الآخرين مع عدم التنكر لإنجازات الآخر أو التطلع لها ومن دون الذوبان في لغة الآخر للتخلص مما يسميه كانط " أدوات استعمال العقل الميكانيكية وأدوات سوء استعمال المواهب الطبيعية " (20).

وعنما تنجز ذلك ستكون أنت بخصائصك العقلية والذهنية، ولا يهم أبدا إن كنت تغرد خارج السرب.

فالذين غردوا خارج السرب وخارج إجماع القطيع هم الذين انتصروا لذواتهم ولقيم العقل المستقل.

وهنا أيضا يستوجب على الذات المفكرة أو (الذات العالمة) بمفهوم الجابري الحذر من الوقوع حتى داخل سجن سلطة العقل نفسه على النحو الذي يتصدى لسلطة العقل سوسيولوجيا من حجم بيار بورديو، الذي كان يرى أن الدفاع عن العقل يعني محاربة أولئك الذين لا يترددون في التصدي لمن يسيئون استخدام سلطة العقل.

بل ويخفون على مايرى بورديو تحت مظهر العقل تجاوزات السلطة، أو يتخذون من أسلحة العقل مبررا لإرساء أو تبرير إمبراطورية تعسفية.

مع الحرص على عدم الانحياز إلى منطق ربط الحقيقة بالسلطة باعتماد فلسفة النسيان متكأ لذلك الربط الميكانيكي.

بما في ذلك سلطة المثقف الشمولي الابن البار للنظام السياسي الشمولي المولع باحتكار الحقيقة و التاريخ وجعلهما في متناول جهازه الثقافي المهيمن عليه هيمنة كلية

ولأن الحقيقة أنثى فالكل يحاول احتكارها وادعاء ملكيته له بل وإخفائها عن الأنظار.

وحتى عبارة الكشف عن الحقيقة المتداولة كثيرا في الخطابات الإعلامية والسياسية والقضائية،.

فهي ليست سوى الوجه الآخر للكشف عن الأنثى، وليس غريبا أبدا أن يدعي المفكر السوري هاشم صالح أن الحقيقة كالجوهرة مخبوءة في الأعماق، بعد أن تراكمت عليها الشوائب والرواسب سائلا عمن يكون عاشقها الأول ومن سيضحي بعمرها من أجلها.. ؟

خاصة عندما يتعلق الأمر بالحقيقة الدينية.

طالما أن مرجعياتنا الدينية والتراثية في الفقه والتفسير والبلاغة وعلوم اللغة تهيمن عليها سلطة النص بوصفنا أمة النص كما يقال.

وقد أضفنا إليها سلطا أخرى، هي تاويل الطائفة والقبيلة والمذهب والحزب والمؤسسة في أشكالها الأكثرتقليدية، لدرجة أن هناك تيارات حزبية وفكرية حتى التقدمية منها على وجه الخصوص لازالت تحتفظ بقراءتها الخاصة للتراث العربي الإسلامي، كما هو الشأن مثلا في القراءة الماركسية لهذه المرجعية مثلما تتجلى في أعمال حسين مروة والطيب تيزيني ومحمود أمين العالم وغيرهم.

حدث هذا قبل أن يشرع المفكر العربي محمد عابد الجابري عبر كتابه (نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي) في نقد ثلاثة أشكال من القراءة المعاصرة للتراث وهذه القراءات هي على التوالي :

القراءة السلفية للتراث

 القراءة الاستشراقية للتراث

القراءة الإيديولوجية للتراث

ويطلق الجابري على هذه القراءة الأخيرة القراءة الإيديولوجية للتراث تعبير السلفية أيضا فهي في نظره سلفية ماركسية لا تختلف في نتائجها عن السلفية الدينية.

 ولتجاوز عقم هذه القراءات الثلاث التي يرى أنها عجزت عن تفكيك التراث وإعادة بنائه بناء عقلانيا يقترح في النهاية قراءة بديلة هي القراءة الإبستمولوجية للتراث.

وليس يخفى على أحد أن الجابري يستثمر هنا بعض إنتاجية النقد الإبستمولوجي، الذي يعود بأصوله ومحدداته المفاهيمية إلى النصوص الفلسفية للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو

وهذه الإشكالية لم يتناولها بعد بالجدية المنتجة النقد الثقافي المعني بها أكثر من غيره من مناهج القراءة والتحليل بالنسبية الممكنة بالطبع.

حتى ولوكان عبر مذهب المثولية كما مارسه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو عندما قدم قراءة فلسفية مارس فيها نوعا من النقد الثقاقي المقارن بين شاعر عربي هو لبيد بن ربيعة وشاعر من الفضاء الثقافي الإمبراطوري هو مالارميه، المثولية التي تمثلها على ما يذكر ذلك ناقد فرنسي هو جاك رانسيير قصيدة (رمية النرد).

رغم أن جاك رانسيير لا يكلف نفسه عناء ذكر القصيدة أو القصائد التي يمثلها مذهب المثولية عند الشاعر العربي لبيد بن ربيعة أو العودة إليها في الوقت الذي لا يتردد فيه في التمثيل لمذهب التعالي عند مالارميه بقصيدة " رمية النرد ".

 ولست أدري إن كان هذا النسيان يتحمله ألان باديو كاتب القراءة التي خص بها مالارميه أم أنه يخص جاك رانسيير الذي ذكر هذه الواقعة المقارناتية في سياق نقدي هو سياق (سياسة الآدب) لمؤلفه الناقد الفرنسي جاك رانسيير

وهو عنوان الكتاب الذي ضم فصلا خاصا أعطاه جاك رانسيير عنوانا لافتا هو (الشاعر عند الفيلسوف مالارميه وباديو).

ومن هذا المنطلق قد يكون هذا النسيان، إن كان متعمدا ملحقا ببعض مثالب المركزية. الأوربية الغربية أمر وارد وغير مستبعد لكنه ليس مؤكدا.

وهو حق من حقوق القاريء العربي عندما يتوكأ على منهج الشك الديكارتي، الذي كان أول من مارسه هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه الشهير (في الأدب الجاهلي) الذي اثار جدلا نقديا واسعا أثناء صدوره سنة 1926 بالقاهرة.

ويواجه بعض متعاليات النقد الغربي المعياري في سياق قراءته لنصوص الآخر العربية ضمن أفق هو أفق النقد الثقافي المقارن بين نموذجين هما نص الهامش ونص المركز.

أقول هذا وفي ذهني مابقي عالقا بذاكرتي القرائية من معطيات نقدية صاغها مترجم كتاب (سياسة الآدب) للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير الدكتور رضوان طاطا عن جاك رانسيير الرافض للتمييز بين العالم والجاهل وبين من يشرحون النصوص والحشود الذين تستمع لهم وهو يدعم بشدة مشاركة جميع الناس في ممارسة الفكر و لا يكف عن تكرار عبارة " أن غير القادرين هم القادرون " (21).

وهذا بحد ذاته سببا كافيا لتبرئة جاك رانسيير من عقدة التمركز الغربي أو اللوغوس الهيمني. أو من (إقصاء اللاحق) بمفهوم إدوارد سعيد.

ولا غرابة في ذلك فنحن لا نصدر حكما نقديا، و لا أعتقد أن هناك علاقة بين النقد الأدبي وبين الأحكام المجانية الجاهزة، الناقد لا يصدر أحكاما لأنها ليست من اختصاصه.

الأحكام مجالها المحاكم ولا علاقة للنقد الأدبي بها، النقد يثير أسئلة فقط في أبعاد النص المختلفة الجمالية والبنائية والموضوعاتية والشكلية والنسقية.

 فيما هو يحاول إضاءة الجوانب الداجية في النص الإبداعي ويتجنب الإجابات القطعية والوثوقية العمياء والأحكام المجانية الأخلاقية إلى حد الخروج عن الإملاءات المرجعية.

فاللجوء إلى الأحكام القيمية المسبقة في المفاضلة بين النصوص الإبداعية، أو الآراء النقدية مفاضلة معيارية، تستقي أهميتها من المتعاليات التربوية ومن ثقافة الرقيب السياسية والبوليسية والأخلاقية والأكاديمية ذات الوقع الردعي، لم تشكل أبدا في يوم ما قيمة إبداعية أو منطلقا نظريا أو مفهوميا.

طالما أنها لا تتجاوز ثنائيتي الاستحسان أو الاستهجان والذم أو المدح التي لا ترضي سوى غرور قارئ نمطي، لا يريد أن يذهب بعيدا في الكشف عن الأسئلة العميقة التي يختزنها النص في باطنه وفي بنياته المتعددة، وليس العامل القيمي سوى بعد واحد أو مكون واحد من مكونات النص الكثيرة.

ولا علاقة لذلك بما يسمى الاصطفاء الثقافي بين كاتب من الشرق أو من العالم الثالث وآخر من الفضاء الغربي الإمبراطوري.

فلسنا من المؤمنين بالاصطفاء أو التمييز بين البشر على أساس اللون أو البشرة أو الجنس أو الانتماء الجيلي والفئوي والأثني والقبلي أو المهني والشعري والديني والهووي أو الغيري، الذي هو في نظرنا انزلاقا خطيرا في التفكير شبيها بذلك الانزلاق الذي عرفته الكولونيالية الغربية في تعاليها على الشعوب الضعيفة والأثنيات المختلفة عنها مثلما أدانها مفكر بارز بحجم فرانز فانون وكشف عن جذورها وعن ميتافيزيقا الهيمنة التي تحاول الإختباء وراء وهم العقلانية الغربية ومركزية الجنس الأوربي الأبيض في استعلائيته المريضة بوهم التفوق والاصطفاء النرجسي في كتابه الشهير (بشرة سوداء... أقنعة بيضاء).

 لكننا نؤمن بضرورة التمييز بين الصوت والصدى وبين التابع والمتبوع وبين الأصل والفرع، وفي ذلك إلغاء لوظائف العقل أو هو نوع من الاستهانة بالقدرات العقلية للبشر وإهدار للكرامة الإنسانية وما أدراك..

فهل في وسع الذات المفكرة ان تتحرر من سلطة العقل السياسي قبل أن يقع الفأس على الرأس إن لم يكن قد وقع فعلا.

 وعندئذ لا نملك سوى أن نردد مع تيودورأدورنو بأنه " على المشتغلين بالفلسفة التنازل عن مطلب نيل الحقيقة في صورتها الكلية فقد تبين أن ذلك مجرد وهم وأنه لا يمكن لأي تفكير تبريري أن يجد نفسه في حقيقة يقوم فيها كل من النظام والصورة على خنق كل مقتضيات العقل الحر (22).

وما ادراك...

***

قلولي بن ساعد / ناقد وكاتب من الجزائر

.......................

إحالات

01) دبريدا تفكيك اللوحة..هل ثمت أشباح في أحذية فان غوغ.. ؟ أم الزين بن شيخة المسكيني ضمن كتاب جماعي بعنوان مؤانسات في الجماليات نظريات تجارب رهانات ص 199 إعداد أم الزين بن شيخة المسكيني منشورات الإختلاف وضفاف الطبعة الأولى 2015 والمقال نفسه نشرته كاتبته ضمن فصول كتابها تحرير المحسوس لمسات في الجمتاليات المعاصرة

02) نفس المصدر ص 199

03 نفس المصدر ص 200

04) نفس المصدر ص 204

05) نفس المصدر ص 201

06) نفس المصدر ص 201

07) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – محمد عابد الجابري ص 07 مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة بيروت الطبعة الرابعة 2000

08) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته ص 09

09) سياسة الأدب جاك رانسيير ترجمة رضوان طاطا ص 15 / منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الاولى 2010

10) سياسة الأدب جاك رانسيير ترجمة رضوان طاطا ص 16

11) نفس المصدر ص 16

12) نفس المصدر ص 15

13) أنظر مقال نكاح العقل للمفكر التونسي فتحي المسكيني ضمن كتابه الهجرة إلى الإنسانية ص 51 منشورات الإختلاف وضفاف الجزائر / بيروت الطبعة الأولى 2016

 14) أصنام النظرية وأطياف الحرية نقد بورديو وتشومسكي علي حرب ص 66 المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2001

15) أنظر مقال نكاح العقل للمفكر التونسي فتحي المسكيني ضمن كتابه الهجرة إلى الإنسانية مرجع مذكور ص 51

16) نفس المرجع ص 51

17) نفس المرجع ص 52

18) النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية – عبد الله محمد الغذامي – ص 194 – المركز الثقافي العربي الدر البيضاء – الطبعة الثالثة 2005

19) إمانويل كانت ثلاثة نصوص تأملات في التربية / ماهي الأنوار / ما التوجه في التفكير/ تعريب محمود بن جماعة ص 85 دار محمد علي للنشر صفاقس / تونس الطبعة الأولى

20) إمانويل كانت ثلاثة نصوص تأملات في التربية / ماهي الأنوار / ما التوجه في التفكير/ تعريب محمود بن جماعة ص 86/ 87 مرجع مذكور

21) أنظر المقدمة التي كتبها مترجم كتاب سياسة الأدب للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير الدكتور رضوان طاطا ص 08 منشورات المنظمة العربية للترجمة 2010

22) راهنية الفلسفة - تيودور أدورنو ترجمة خيرة عماري ضمن كتاب جماعي بعنوان تيودور أدورنو من النقد إلى الإستيطيقا ص 161 إشراف وتقديم كمال بومنير منشورات الإختلاف ودار الأمان - الجزائر الرباط الطبعة الأولى 2011

في المثقف اليوم