أقلام فكرية
اسعد عبد الرزاق: أزمة الإنسان في العلاقات التعاقدية في الفكر الغربي.. رؤية نقدية
تتجلى المفاهيم في النماذج، وتتضح في التجارب، ويتم اختبارها في المآلات، وكل منظومات التفكير سواء كانت دينية أم وضعية يمكن أن تخضع للاختبار، والصراع الدائم بين الدين واللادين يعكس حجم المنافسة بين التصورات، فالإنسان في التصور الديني غير الانسان في التصور الوضعي، والحرية أيضا تختلف، وتمثلات القيم والعدل تختلف، ومن هنا تنشا الفلسفات والتصورات على اختلاف صورها وأثرها.
في العلاقات الانسانية تمثل الأسرة البنية الأساس للمجتمع، وحرصت الأديان على بناء الأسرة عبر ترسيخ القيم العليا التي أكدت عليها السماء في عدة مضامين تشريعية حسب شرائع السماء، لكن انعطاف الحضارة البشرية من تأثير الدين إلى تأثير المادة أدى إلى ضعف تلك البنية المتمثلة بالأسرة، ونحن اليوم – ونتيجة لما أفرزته الحداثة الغربية من قوالب تفكير- أمام اهتزاز وارتباك في مفهوم الأسرة ذاته، فما عادت مفردة (الأسرة) تعني بالضرورة (زوج وزوجة وأبناء) بل يمكن أن تشمل معنى آخر قد يتمثل بـ(رجل وإمرأة وأطفال من دون وجود عقد الزوجية)، أو تشمل حتى (اجتماع المثليين في منزل واحد) وهو ما يربك المشهد القيمي لدى البشر في العصر الراهن، ويشوه الفطرة والوجدان الإنساني بنحو واضح وصارخ..
لقد انتجت الحداثة قوالب وأنماطا من العيش الذي يتضمن علاقات تعاقدية نتيجة فلسفات مختلفة تنضوي تحت الاطار المادي الذي يفضي إلى تسليع الانسان، أدت إلى رسوخ حالة التعاقد في أدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية وبالأخص العلاقة الأسرية، وهو المعنى الذي أدى بدوره إلى تجفيف منابع الانسانية والتراحم، بمعنى أن العلاقة الزوجية مثلا تم إخضاعها إلى منظومة التعاقد ضمن إطار الفكر المادي مما أفضى إلى استقلال الفرد بذاته وتمركزه حول ذاته بالنحو الذي أفقد الإنسان معناه وجوهره الإنساني، وأبعد العلاقة الأسرية عن معنى التراحم والمودة وغيرها من الصور التي تجسد القيم الإنسانية التي كانت ولا زالت موضع اهتمام الدين.
وقد حدد عبدالوهاب المسيري مفهومي: التعاقد والتراحم، كمعيار للتمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، والتراحمية تقابل التعاقدية عبر عد المجتمع نسيجا متنوعا مبني على أساس أن الإنسان كائن اجتماعي تحكمه قيم التعايش والتراحم، بمعنى أن التراحم يلحظ وجود أبعاد قيمية خلف كل علاقة، في حين يقوم التعاقد على البعد المادي والنفعي.
يمكن تشخيص مشكلة النموذج الغربي الحداثي في صياغته لنمط العلاقة الأسرية، وكيف تحول الأمر في مرحلة ما بعد الحداثة إلى اضمحلال معنى الأسرة وذوبانه في قوالب مفاهمية جديدة، وغياب أهمية دور الأديان في الحفاظ على القيم الانسانية التي تحدد نمط الروابط والأواصر التي تحكم المجتمع، وتحول دون تمييع تلك العلاقات التي فطر الله تعالى الناس عليها بنحو من التراحم والتعايش المستند إلى قيم عليا.
إن التركيز على فكرة الحقوق لدى الغرب بلور جانب المنفعة، إذ ترتبط الرؤية حول الحق الطبيعي للإنسان بالمنفعة مما يدعو إلى غياب شبه تام للجانب الانساني الذي يختزل القيم العليا والمجردة من الذاتيات، نتيجة الفهم الخاطئ للحرية الذي يبرّز دور الإرادة الفردية، فالانسان في حدود هذا التصور من حقه أن يفعل ما يريد ولو بقيد عدم الإضرار بالآخرين، لكن ذلك القيد لن يجدي نفعا ما دامت التصورات لا تخضع إلى أطر مرجعية ثابتة، والمنفعة بدورها تنتج مفاهيم سائلة، لا يمكن تحديدها بنحو دقيق ومنضبط.
يمثل الدين –أي دين- إطارا مرجعيا ثابتا، مهما تعددت تفاسيره، لأن الخطاب الديني بمعناه العام يقدم قيما عليا تمثل نقاطا مرجعية وإرشادية تمنح العقل الفردي والاجتماعي حصانة نسبية من الانحدار نحو الرغبة والارادة المرحلية والسعي نحو النوازع الفردية.
إن المشكلة التي عكسها واقع القيم في الغرب، إحلال العقل محل الدين بالمرة، وحتى يتم ضبط أحكام العقل كانت الأغلبية والأكثرية طريقا قهريا للنظم الغربية، ومن جانب آخر برزت مشكلة الأقليات، والتي أفرزت بدورها الحاجة إلى التفكير بالحريات، فنشط الفكر الليبرالي، ليحقق التوازن بين سلطة الأغلبية وحقوق الأقلية، حتى وصل الحد إلى أن تتصدر الأقلية بعض المواقف تحت ذريعة الحرية مثلما آل إليه الأمر مع النزوع المثلي والنسوي، والتركيز على حق الاعتراف بهم من قبل الأغلبية حتى لو قهرا..
وهي إحدى تمثلات التعاقد المبني على أسس مادية تدعم التمركز حول الذات، لا القيم أو الحقائق المطلقة، مما أدى إلى متغيرات غريبة لا يكاد يستوعبها المجتمع الغربي بفعل السياسات التي تهدف إلى تغليب الأنماط الفكرية المتولدة عن اللاضبط في فهم مفردات (الحرية، التعاقد،..)
ولقد سعت التجربة الغربية إلى إحلال الدولة محل الأسرة، وأصبح الكيان الفكري للفرد صنيعة الدولة ومؤسساتها واعلامها، من حيث نشعر أم لا نشعر، حتى بات من الامكان رصد التحول الخطير في منحى حقوق الانسان من الإنسان ثم المرأة، ثم الطفل، والشواذ.. ويجري اليوم ترسيخ تلك الحقوق بانزياحاتها الخطيرة وفرضها على العالم شاء من شاء وأبى من أبى..
وفي هذا الصدد لا نغفل ما أسهم فيه الفكر الغربي من جوانب مشرقة تجاه الإنسان والقيم الانسانية، ولا يمكن إغفال بعض الآثار الإيجابية لفلسفة التعاقد على مستوى الدولة والمجتمع، لكن الرؤية في هذا المقال ركزت على أبرز مشكلات الفكر الغربي وما آلت إليه بعض رؤاهم من هبوط في مستوى القيم الملحوظ ضمن سياسات بعض الدول فضلا عن ظواهر مختلفة في المجتمعات الغربية.
***
د. اسعد عبد الرزاق الأسدي