أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: سقطات الفلسفة البنيوية (1)
التاريخ البدائي
التركيز البنيوي تاريخيا على (الاثنولوجيا) دراسة تاريخ الجماعات البشرية البدائية، التي اعتمدها أبرز اعلام الفلسفة البنيوية بمختلف الاختصاصات ابرزهم (شتراوس) في دراسة تاريخ انثروبولوجيا حضارة ماقبل التاريخ، (التوسير) في نقده الماركسية وكتاب رأس المال، (لاكان) في نقده علم النفس الفرويدي، (دو سوسير و فنتنجشتين) في فلسفة اللغة وعلم اللغات واللسانيات والمنطق، (فوكو) في تاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون وهو صاحب مصطلح (اركيولوجيا المعرفة) او مايسمى تعريبا حفريات المعرفة والقراءة الجديدة، ويعتبر كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) من اشهر كتب القرن العشرين في الفلسفة، و(جان بياجيه) في علم النفس ايضا وهكذا.
أعتبرت البنيوية كما جاء به ليفي شتراوس أن دراسة انثروبولوجيا الاقوام البدائية تمتاز بأنها تعنى بأقوام عاشت وانتهت خارج مدوّنات التاريخ البشري، ولا تمتلك تلك الاقوام تاريخا مدّونا وكل ماتركته قليل غير مندثر ضائع من نقوشات مرسومة على حيطان الكهوف صلتها بالتراث الفلوكلوري الشعبي وليس لها صلة بالتاريخ بالمعنى التاريخي المتغّير والمتطّور في امتلاكه ميزتين التدوين وتدرج التوصل الى اختراع اللغة سبعة الاف سنة قبل الميلاد والكتابة 2500 ق.م، .
الميزة الثانية التي يمتلكها التاريخ الانثروبولوجي الذي تؤكده اركيولوجيا الابحاث الحديثة اي التاريخ المدوّن. انه المسار الخيطي في مراحله الحضارية و تغييراته المتسارعة أسوة بغيره ماسبقه كما في تاريخ شعوب ما قبل التاريخ التي عرفت بمراحل تاريخية طويلة بدءا من العصور الحجرية المشاعية البدائية، وبعدها عصر الصيد والالتقاط تلاها العصور الزراعية والصناعات المعدنية البرونزية اليدوية بأبسط اشكالها واشتمالاتها، وأعتبرت الفلسفة البنيوية تلك المراحل البدائية، مقارنة بالتاريخ الانساني لمراحل مابعد التاريخ المدّون والموّثق تنقيبيا(احفوريا) وآثاريا بعد ظهور الكتابة المسمارية في بلاد مابين النهرين والهيروغليفية في مصر الفرعونية في القرن الرابع ق. م، على ان ما سبق اللغة تعتبر مراحل اللاتاريخ البشري كما اشرنا له سابقا.
كما أعتبرت البنيوية التاريخ البدائي الاثنولوجيا (تاريخ ساكن) بحكم طبيعة العقل البدائي في ثباته ومحدوديته الادراكية والمعرفية، وبالتالي أصبح هذا التاريخ أنموذجيا في التناول المنهجي البنيوي البحثي المتعدد التيارات الفلسفية، الذي تخدمه (حالة الثبات والسكون) التي تعتري التاريخ البدائي وتقعده عن الحركة التطورية السريعة المتلاحقة.
ان هذه المسألة التي اعتمدتها مرتكزا اساسيا الفلسفة البنيوية، أثارت حفيظة الماركسيين من الذين عابوا على البنيوية انها لم تجد في التاريخ الانساني، الا المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ، لدراسة تاريخها على وفق منطلقات أسمتها(قطوعات التاريخ المهملة) ميزتها ثبات وسكون تلك المجتمعات تاريخيا ومراحليا بما يفتح المجال الى دراستها وتحليلها الانثروبولوجي بدقّة وتناول أيسر.
واذا كانت البنيوية نجحت في اقامة بناءات نسقية معرفية تحت مسمى (التكوين الثابت) للانسان، وتشابه قضاياه في مختلف الازمان والعصور، ليس على صعيد الحقب التاريخية البدائية السحيقة وحسب، وانما على صعيد التاريخ الساكن للانسان في مختلف المراحل التاريخية، لأن مشاكل الانسان كانت وبقيت ثابتة ومتشابهة لم تتغيرجوهريا على حد زعم البنيوية. لكن ما يلحظه الدكتور المفكر فؤاد زكريا وآخرين عديدين غيره من باحثين ماركسيين ووجوديين، أن البنيوية تغاضت واخفقت معا ولم تنجح في تعليل التقدم التطوري والتاريخي الى حد اعتقادها بان ما يدعى التقدم البشري بفعل الاشكاليات البشرية المتنوعة والمتتالية هو محض خرافة ووهم، وان التحديات التاريخية سراب خادع ولم تكن في يوم من الايام عاملا لتقدم حضاري من أي نوع كما ذهبت له البنيوية في ادبياتها البحثية والفلسفية.
ولقد ذهب فوكو الى أبعد من ذلك قوله:انه يتجنب الخوض في/ ومع كل ما له صلة بمقولات التحّول والتغيير، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية الا(ثوابتها) فحسب، ووصل الحد به الى التشكيك بالانسان نفسه، واسقاط التاريخ البعدي القديم والحديث والمعاصر من الحساب الفلسفي البحثي البنيوي نهائيا باستثناء الوقوف عند مراحل اللاتاريخ الذي تمثله الاقوام البدائية.باعتبارها مراحل بشرية خارج التحقيب التاريخي الخيطي في التطور البشري .
لقد انساق خلف هذه المنطلقات الفلسفية البنيوية العديد من الذين انشقّوا عن الماركسية، ربما كان ابرزهم (التوسير) في استهدافه المادية التاريخية وكتاب رأس المال في انتاج ماركسية خيالية وتجريدية تعتمد خطابات غامضة واقامة بنى نسقية لا تمّت بأدنى صلة لها مع الواقع العيني، وعجزت عن دحض الاسس المادية والجدلية التي قامت عليها الماركسية.وأكثر من ذلك نجده عند اقطاب البنيوية الذين سقطوا في الذهان التجريدي الفلسفي، وخلقوا أنساقا معرفية خارج اهتمام مركزية الانسان وجعلوها حقائق في مواجهتم الفكر المادي والماركسي تحديدا.ان البنيوية تجاهلت الطبيعة الاجتماعية للانسان وحوّلت طبيعة النزعات الانسانيات نحو مملكة التجريد الميتافيزيقي. وتماهى مع هذا التيار بول ريكور في الهورمنوطيقا وجاك دريدا في التفكيكية.
و من أبرز الامور في هذا المنحى البنيوي، أن غالبية مدارسها أستقت ينابيع تفلسفها من التاريخ الاسطوري والميثولوجي، الذي أعتبرته البنيوية الأنموذج الأمثل لدراسة القطوعات التاريخية الساكنة لما قبل ظهور الكتابة والتدوين التاريخي. التي لايحكمها التغيير او التطور والتبديل.وبذلك تسهل وتتوفر دراستها، وفي اعتمادها الاساطير كما يعتمدها علم النفس الفرويدي على انها حلم جماعي لاشعوري لدى جميع الشعوب قبل وبعد التاريخ، متجاهلة تماما أن ارتباطات مثل اللغة والاسطورة والدين والطقوس والمجتمع او القرابة و القبيلة، والزواج جميعها مرتبطة بالانسان ووجوده الارضي بعرى وثيقة جدا لا ينفع معها المكابرة في تقليل اهميتها في دراسة أي منحى تاريخي او معرفي او فلسفي مبتورناقص لغرض الحصول على استنباطات تعميمية خاصة فقط بالاقوام والقبائل البدائية . ربما كانت تلك المفردات الحياتية بعيدة جدا عن سياقاتها الاجتماعية والانسانية والتاريخية كما حصل في التوظيف البنيوي لها.
ومن الجدير ذكره ان مركزية الانسان في الفلسفة قديمة، ورائدها هو الفيلسوف السفسطائي بروتوغوراس، القرن الرابع قبل الميلاد في مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء).واعقبه فلاسفة الوجودية جميعهم، سورين كيركارد، وهيدجر، ومارسيل جبريل، وصولا الى سارتر وكامو واخرين.جميعها الغته البنيوية من دون ادنى تانيب ضمير ولا اسف عليه. اي الغت البنيوية مركزية الانسان بالوجود.
كما ان الاسطورة التي هي حلم جماعي لا شعوري لدى الشعوب البدائية كما يذهب له علم النفس الفرويدي، الذي يختلف دلالة ومضمونا مع مفهوم البنيوية له، ففي علم النفس الفرويدي يكون المحلل النفسي أعلى مرتبة تمييزية عن المريض، ويعد الطبيب النفسي نفسه، أعلى مرتبة انسانية عن الشخص المعالج، مادام يستطيع كشف أبعادا أعمق من تلك التي يبوح بها الشخص له عن تجاربه العفوية.اما في البنيوية في اتجاهها التحليلي البنيوي السايكولوجي عند (لاكان) فان المحلل النفسي (لا يعتبر نفسه سوّيا وسليما بالقياس الى من يقوم بتحليله، كما لا يتخّذ منه اي موقف مميز عنه) وبهذا التفريق الافتعالي بين الفهم الفرويدي للاسطورة من جهة، وفهم الفلسفة البنيوية لها في التحليل النفسي من جهة مغايرة، لا اجده يشكل مسألة فلسفية جديرة بالاهتمام والاختلاف حولها.
***
علي محمد اليوسف /الموصل