أقلام فكرية
حسن العلوي: الفلسفة المجروحة.. نموذجا "الائتمانية "الطهوية
سبق للمفكر التونسي الكبير أن اختار العبارة الرشيقة؛ المشتقة من "الجرح"، عنوانا لكتابه: "الكوجيطو المجروح"، مكثفا فيها معاناة "الفلسفة" في ثقافتنا، وهي المعاناة التي تتجلى في أن الكوجيطو، الذي هو فلسفة الذات قام في البيئة التي نشأ فيها، كالفلاح يمهد الأرض، ويزرع وينبت ويحصد، لكن لما وصل إلينا، وحاولت لغتنا أن تتكلمه، سرعان ما أدميت قدماه، فسقط طريحا جريحا؛ حيث أخذ جرحه ينزف إلى اليوم. (الكوجيطو المجروح: 13)
حصل هذا، بعد المحاولات التي عرفها منتصف القرن الماضي، باتجاه خوض تجربة الاستعمال العمومي للعقل، للمرة الثانية في ثقافتنا، بعد تجربة عصر التدوين في الماضي، واستئناف القول الفلسفي للمرة الثانية أيضا في تاريخ هذه الثقافة. بعدما بلغ بعض منتسبي الفلسفة ومتعلميها، ثم مدرسيها تاليا، مرحلة تدشين فعل "الاستئناف" ، سرعان ما انعطفوا نحو المهمة السهلة، كما يرى المسكيني، وهي مهمة "قراءة التراث"، وهو الفعل- الحدث الذي أجل، من جديد، تعاطي المهمة الصعبة، التي بدونها لا يحيا الإنسان الحياة التي هي أهل له، وهي ممارسة مهنة الفكر والتفكير. يقول المسكيني عن مشكل اللافلسفة عندنا: "إن أقرب تشخيص لذلك هو أن مرضا عضالا قد ألم بنا، ألا وهو مرض قراءة التراث وتأويله: لقد أصبحت الفلسفة عندنا، بسبب ذلك، حيوانا تراثيا هجينا". (فلسفة النوابت: 29)
انحاز منتسبو "الفكر"، ومتعاطو الفلسفة منهم خاصة، إلى ممارسة مهنة "المثقف" في أفضل الحالات، وعطلوا مهمة التفكير وإنتاج الفكر، الذي هو أس الفلسفة والتفلسف، ولهذا استقطبت قراءة التراث اهتمامات هؤلاء، وهيمنت "مشاريع" قراءته وملأت ساحتنا الثقافية، وبقيت مساحة الفكر والفلسفة فارغة ضمن جغرافيا هذه الثقافة.
وسبق للمسكيني أن قارب وضع الفلسفة والتفلسف، بعنوان آخر، اقتبس عبارته التي لا تقل رشاقة من العبارة السالفة، من كتاب: "تدبير المتوحد" لابن باجة، وهي عبارة: "النابتة" فسمى كتابه المشار إليه: "فلسفة النوابت"، لخص صاحب "تدبير المتوحد" وضع الفلسفة والفيلسوف في ماضي ثقافتنا، في وضع "النبتة" الغريبة وسط نبات كثير وكثيف، تدل كثرته وكثافته على أنه نبات "طبيعي" ومطلوب ومرغوب فيه، عكس الفلسفة - "النبتة" والفيلسوف - "النابتة"، وأكد صاحب "فلسفة النوابت" استمرار هذا الوضع غير الطبيعي للفلسفة والفيلسوف في حاضر هذه الثقافة.
لكنها تعيش ذات الوضع، وربما هذا هو الفرق، على يد المنتسبين إليها؛ هذه هي الخلفية التي تؤطر عنوان هذه المقالة، والذي هو "حدس" انقدح في ذهني، وأنا أقرأ مؤلفات طه عبد الرحمن، إذ ينتقد الفلسفة ويقر أنها منقولة إلى الثقافة، ثم يدعي امتلاك هذه الثقافة "فلسفة" خاصة، وبعده يدعي أنه يؤسس "علما" يفوق ويتفوق على الفلسفة يسميه "فقها" يتخذ الفلسفة موضوعا للدراسة، هدفه كشف "أسباب" التفلسف "الخفية" على الفلاسفة أنفسهم؛ ثم يعود في مؤلفاته الأخيرة ليعلن أنه يؤسس "فلسفة" مقابلة و"بديلة" عن الفلسفة السائدة سماها "ائتمانية".
يبدو أن معاناة الفلسفة على مستوى "التسمية" مع طه، تعكس "الجرح" الذي عانت ولا زالت تعاني منه، والسؤال الذي يفرض نفسه على عمل الرجل هذا هو: لماذا تتسول "الائتمانية" اسم "فلسفة"، وهي تدعي أنها أعلى من الفلسفة؟ لماذا لا تكتفي بالاسم أو الاسمين الذين اختارتهما لنفسها وهما "الفقه" ثم "الائتمانية"؟ ألا يدل تسول التسمية على فقر تحتاج إلى ملئه باستعارة الاسم الأصل؟
يزداد "جرح" الفلسفة اليوم مع طه، غورا، إذ الائتمانية الطهوية، تحمل مشروعا واحدا ووحيدا، هو إخراجنا نحن المنتمين إلى الثقافة العربية الإسلامية من فلسفة عصرها، إلى "التدين" على الصيغة "الصوفية الطرقية"؛ فهو يقول بالعبارة الصريحة: "الميثاق الائتماني بدلا من العقد الاجتماعي"؛ (دين الحياء 1: 13) فهو مشروع هدفه إخراجنا من "عصرنا الروحي"، والعودة بنا عصر روحي ليس لنا ولا ينبغي له أن يكون لنا: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون". (البقرة: 134). يعمل طه على إخراجنا من ثقافة الاستدلال (العقل)، والاستقلال (الحرية)، والتجاوز (البحث الدائم عن الأفضل الممكن)، إلى ثقافة التسليم والاستسلام، والوصاية والخضوع والتبعية والجمود. (دين الحياء 1: 248)
هرب طه، كغيره من المثقفين، من ممارسة إنتاج الفكر بما يقتضيه من مواجهة مباشرة مع الواقع والكون والطبيعة والحياة، أو لنقل "مواجهة مستمرة للافلسفة واللافكر الذين يلاحقان كل مسار عقلي"، إذ هي شرط الإنتاج والإبداع، ونرى أن هذا الهروب هو المظهر الأول للجرح الذي أصاب الفلسفة، غير أنها تعرضت لجرح أكثر غورا من خلال دعوى تعمل على إخضاعها لـ"علم" يفوقها ويعلو عليها قيمة، سماه صاحبه في البداية "فقها"، ثم "ائتمانية".
يدعي طه أنه يشتغل على بناء "علم" يتخذ الفلسفة موضوعا له، وحتى نتبين حقيقة هذا "العلم" أو "الفقه"، نعمل على أن نتعرف على آلياته وأدواته في الكشف عن "أسرار" التفلسف و"أسبابه"، وهي التي يعرضها طه تحت عنوان تراثي هو "التقريب" كما ورد عند ابن حزم في كتابه: "التقريب لحد المنطق"، وعنوان "التأصيل"، إذ "التقريب" و"التأصيل" يشتركان في كونهما يتعاملان مع منجز الغير بطريقة تعبر عنها آلياتهما في التعامل؛ فماذا يعني "التأصيل" الذي يسميه طه "تداوليا"؟ وهل نتائجه ترتقي إلى انجاز يستحق وصف الإبداع الذي يدعيه؟
ينظر طه، في رأينا، للقدرة، ليس على الإبداع، وإنما للقدرة على "التصرف" في المنجز الفلسفي للغير، أي للقدرة على "إخضاع" ما أبدعه الغير من فلسفة وفكر، مستهلكا ذات الآليات التي وظفها أسلافه الفقهاء: ابن حزم والغزالي وابن تيمية كما عرض عملهم في هذا الإطار في كتاب: "تجديد المنهج في تقويم التراث".
فبعدما أشبع خطابه كلاما بالتنظير للإبداع الفلسفي، وتقنيات إنتاج القول الفلسفي، انزاح نحو المهمة السهلة كما سبقت الإشارة إليه، فإذا بـ "تقنيات" الابداع، أضحت "تقنيات" لـ "التصرف" في منجز الآخر؛ فهل يصدق "التصرف" في منجز الآخر، بالتغيير والتحويل والتحوير [...] على معنى الإبداع؟
مهد طه عبد الرحمن لسياسة "الإخضاع" هذه، بالتمييز بين سؤالين: سؤال في الفلسفة؟ (ما الفلسفة؟)، وسؤال عن الفلسفة؟، وبعدما أكد أن السؤال الأول يحمل معنيي: الطلب والتداعي، خلص إلى أنه سؤال يجمع بين السؤال والجواب، ثم بين العلم والجهل، أي إقرار بالعجز عن بيان ماهية الفلسفة، وحينئذ: "لا يجوز له وصفها لا بالسؤال ولا بغيره".
وبنى على هذه الخلاصة، ضرورة الانتقال عن هذا السؤال، إلى السؤال عن الفلسفة؛ وهو سؤال، ليس عن ماهيتها، بل هو سؤال خارج عنها أو مفارق لها. (فقه الفلسفة 1: 12-13) فهو يعلو عليها درجة، مثلهما: "كمثل اللغة ولغة اللغة"، إنه سؤال "علمي" وليس فلسفيا؛ يدرس: "الفلسفة بوصفها جملة من الظواهر التي لها خصائصها وقوانينها الذاتية" (نفسه: 14) تتحول الفلسفة معه إلى "موضوع" لـ"علم": "ينزل رتبة فوقها ويتسع لما لا تتسع له". (نفسه:19)
ويدرك "فقيه الفلسفة" من الفلسفة، ما لا يدركه الفيلسوف المنتج لها لأنه: "يشرف على دائرتها من أعلى، في حين يلج الفيلسوف بابها من أسفل"، ولهذا يتهمه طه بـ "العمى الفلسفي": "فالعمى الفلسفي عندنا هو عبارة عن الجهل بالأسباب الموضوعية للممارسة الفلسفية، خطابا وسلوكا"، إذ: "يكتفي بالوقوف على المضامين الفلسفية، تصورات وأحكاما"، (نفسه: 20) في حين يشتغل "فقيه الفلسفة" على الأسرار والأسباب الخفية الفلسفية، ولهذا: "اجتمع له من أشرف ما يجعله يعلو على رتبة الفلسفة [...] فيكون فقه الفلسفة أشرف العلوم العقلية قاطبة"؛ (نفسه: 31) وما دام أنه لا علم ولا فكر يعلو عند طه على غيره إلا التصوف الطرقي و"عقله المؤيد"، كما حسم في كتبه الكثيرة، فإن "العلم" المقصود هنا هو "التصوف الطرقي".
لا نقف عند ملاحظة استعصاء تحديد اسم "فقه"، الذي اختاره عنوانا لهذا "العلم" الذي يتفوق على الفلسفة، عندما عمل على إبراز ما يميزه عن مفاهيم: "علم"، و"فهم"، و"معرفة"، فهو يتفوق عليها جميعا، لكنه في النهاية قرر أنه: "لا يفيد إلا معنى المعرفة العلمية الفلسفية"، (نفسه: 37) وأن من خصائصه: "أنه علمي لا فلسفي". (نفسه: 38)
انزاح بعد ذلك كله إلى الكلام عن الترجمة، (53) وفيه يتجلى "فقهه" الفلسفي، حيث عمل على إخضاع المنجز الفلسفي، وأول ما بدأ به حديثه عن الترجمة، هو إقرار الأصل الديني للترجمة، انطلاقا من قصة "برج بابل" الأسطورية، وترجمة الإنجيل؛ فهذا الأثر الديني هيمن: "على عقول المترجمين ونقولهم، سواء وعوا بذلك أو لم يعوا". (65)
وقرر بشكل صريح أنه يجوز "التصرف" في دلالات النص المترجم، دون التصرف في قواعد اللغة المنقول إليها، (77) لأنها "تأويل": "لابد أن تضعف فيه أسباب الموضوعية، إن لم تصر إلى الزوال". (82) يعترف الأستاذ طه بأن الثقافة العربية الإسلامية لم تعرف الفلسفة إلا بفضل الترجمة، (83) وبعده يوحي بوجد فلسفة في: "الحِكَم الموروثة عن العرب"، وفي المعارف الدينية كما سيأتي، (84) ويؤكد الاعتراف بالقول بأن المتفلسف العربي: "لا يؤلف إلا ناقلا"، ولهذا تتداخل عنده الترجمة مع التأليف في صورتين: صورة تداخل متصل؛ يغير فيها المترجم العبارة المنقولة حتى: "تبدو وكأنها عبارة صادرة" من التداول الإسلامي: "وليست واردة عليه"، وصورة تداخل منفصل.
تعكس الصورة الأولى سياسة الإخضاع التي يسميها "فقه الفلسفة"، أو "التأصيل"؛ فالتداخل المتصل: "يدمج المنقول الفلسفي في الممارسة الفكرية الإسلامية العربية"، فهو، إذن، "يدمج" وليس يبدع. (99) ويتحدد هذا التداخل بـ : "إمكان التصرف في النص الفلسفي إلى الحد الذي يخرجه عن أوصافه الأصلية، وينشئ منه نصا قادرا [...] كنص مستقل بنفسه"، (100) والهدف هو إخضاع المنقول والسطو عليه، وعرضه في صورة "فلسفة خاصة"؛ عربية إسلامية؛ وهي أفق "الإبداع" الذي وعد به طه، والدليل قوله عن التداخل المتصل الذي يتخذ صورتين: "إحداهما متصلة تخضع المنقول لمقتضيات المجال التداولي المنقول إليه،، والثانية منفصلة تلزم هذا المجال بالمقتضيات التداولية للمنقول". (102)
ينتقد طه العقل الذي يسميه "مجردا"، ويتهمه بالقصور والعجز، ممهدا الطريق للقول بـ "عقل" أرقى من العقل الناقد الذي يتعين الخروج منه إلى طور إدراكي آخر: "يعلوه فيما لا يصل إليه العقل أو لا يقدر عليه"، (180) ويعتبر هذا الخروج "تأسيسا" لـ"العقل" البديل. (181)
ما ينبغي الانتباه إليه أن هذا "العقل" الذي ينبغي أن يخضع له العقل الناقد - المشترك، هو عقل بشري عند التحقيق، إذ لا يتجسد في واقع الحياة إلا في "شخص"، يتمتع في نظر طه، استهلاكا للمقولات الصوفية، بمواصفات استثنائية، تعددت تسمياته عنده منها: "المخلق"، و"المربي"، و"المزكي"، و"فقيه الفلسفة"، ويدعي أن عدم تقييد العقل: "مدعاة إلى تسيبه"، أي: "الخوض في كل شيء بأي طريق شاء". (183)
والسؤال الذي يواجه دعوى التقييد - الإخضاع، هو كيف يتسيب العقل، مع الإقرار في الوقت ذاته، أن هذا العقل قادر على: "تأسيس ما كان ينبغي أن يكون مؤسسا" له هو؟ ويقصد هنا "العمل الأخلاقي"، و"العقيدة الدينية"، اللذان استطاع العقل تأسيسهما، وإدماجهما في بنية منظومته الفكرية: الدين في حدود مجرد العقل (كانط، والنظريات الأخلاقية: 184)
يرفض طه هذا الدور التأسيسي للعقل، لأنه بدونه لا يستقيم له القول بضرورة الحاجة إلى "الخارج"، لتأسيس "الأخلاق" و "الدين"، ويبدو أن طه تجاوز النقاش، حيث يجب، حول هذا الاقتدار العقلي، إذ اكتفى بالاتهام والادعاء، وهو اقتدار نابع من طبيعته التي هي له، والتي جاءت العلوم المعرفية لتؤكدها، (دين الإنسان: 390) بل إن الشق الأساسي لـ "نظريته الائتمانية" تدعم هذه الطبيعة المقتضية لـ "الإيمان" و"الأخلاق" لدى الإنسان، والمتمثل في ميثاقي "الإشهاد" و"الاستئمان" منها.
وفي إطار هذا الاشتغال غير المنضبط بمقتضيات المنهج العلمي في التحليل والنقاش، والذي لا يجد بديلا عنه إلا الادعاء، يأتي قوله إن المعاني والحقائق التي وضعها الفلاسفة: "إنما تلقفوها تلقفا من مصادر نقلية، نحو الأخبار الأسطورية والعبادات الوثنية، أو، في مقابل ذلك، الشرائع المنزلة"، (184) ونلاحظ هنا أنه يقبل كل مصدر، أيا كان، باستثناء العقل فهو: "لا يقبل التأسيس العقلي حتى نتفادى العقلنة". (184) ألا يعتبر هذا القرار اعترافا منه بأن "الطور الإدراكي" الذي يعمل على "تأسيسه"، بديلا عن العقل، غير عقلاني؟ فلماذا تسميته بـ "العقل المؤيد" مع تسول الاسم؟
تطور هذا الموقف من العقل والفلسفة، وامتد إلى المنطق، إذ شكك طه من صفة "اليقين" التي ينبغي أن تتصف بها مقدمات البرهان كما اشترط المناطقة بقوله: "إن اليقين المنسوب إليها لا يمكن أن يكون إلا يقينا تحكميا، وليس يقينا معللا"، وقد تكون نتائجه في أفضل الأحوال تتمتع بيقين محدود: "حتى إنه لا فارق بينه وبين الاعتقاد المظنون"، ولا يختلف: "عن تعلق الرأي المشهور بأهله وسياقه"، بل: "لا يقل عن اعتبارية ما يكتفى فيه بالتخمين". (192)
لا يجد طه مانعا من التضحية بهذا المنجز الحضاري، بوصفه "لغة صناعية"، فرضتها شروط الارتقاء والتحضر؛ فالمنطق: "لا يحصل إلا يقينا اصطناعيا مضيقا، ولكي يحصل هذا التدليل على يقين طبيعي موسع، فلابد له من صرف هذا التصنع من المقدمات والقواعد". (192) ماذا يعني إذن صرف جانب الصناعة عن المنطق والعودة إلى "المنطق الطبيعي"؟ أليس عودة إلى مرحلة الطبيعة من حياة الإنسان؟ وفي الجواب ينبغي استحضار الأسباب التي فرضت دعم لغة التعبير والتبليع الطبيعية، باختراع "لغة صناعية" تجسدت في المنطق.
يضع طه، عملا بمنهجه القائم على المقابلة بالضد، المنطق الطبيعي في مقابل المنطق الصناعي، ويقيمه على أصلين: "يناقضان مقتضيات العقل البرهاني التقليدي وهما المضمون والاستعمال"، حيث "المضمون" هو مقابل "الصورة" التي تتوقف عليها صحة أو فساد البرهان، واعتبر الأقيسة التي ميزها أرسطو، وهي: الظن والمشهور والتمثيلي بأنها: "صحيحة كل الصحة، إذ يكفي استخراج العناصر الصورية لهذه الأقيسة لكي تبرز صحتها للعيان". (193)
بمعنى أن "اليقين الطبيعي" (الأمي بتوصيف الشاطبي)، ينتج من الظن والشهرة والتمثيل، فالمعول عليه في القياس هو المضمون فـ: "متى كان هذا الصدق من أحق الحقائق"، ولو فسدت صورته الاستدلالية: "كأنما قوة هذا الصدق تشفع لهذا الدليل، فتمحو عنه اعتلال صورته"، (195) بل أكثر من هذا: "إذا صدقت النتيجة قبل الدليل ولو كذبت المقدمات، وإن كذبت رد الدليل ولو صدقت المقدمات"، ويقبل: "الدليل الفاسد صورة متى طابقت نتيجته الحقيقة". (196)
قد يستغرب الباحث العارف بأن "العلم الحديث" هو،كله، نتاج "المنطق الصناعي"، موقف طه المحسوب على الفلسفة وعلم المنطق، إذ يفيد أن "الصناعة المنطقية" عديمة الجدوى، لكن استغرابه قد يزول إذا علم بأمرين؛ أولهما أن طه يمهد بهذا الموقف، للقول بإمكان ثبوت "الصدق" بوسائل غير عقلية ولا منطقية، هي المقصودة بقوله بوجود "طور إدراكي" أرقى من الإدراك العقلي المشترك بين الناس، وهي شرط "مشروعية" "الائتمانية" الطهوية كلها.
ثانيهما رأيه الذي يفصح عنه قوله: "إن النمط المعرفي الحديث غير مناسب، إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية"، (سؤال الأخلاق: 111) وقوله: "لست أرى رأي من يقول بأن مآال التجديد الإسلامي رهين بإنشاء المؤسسات الصناعية والمراكز التقنية ووضع البرامج التحديثية وتجنيد الطاقات المادية" "(نفسه: 195) وقوله عن التطبيق التقني للعلم، وعن البحث العلمي: "ليس كل تطبيق نافعا ولا كل بحث مشروعا". (روح الحداثة: 98)
بل إن مجرد "القبول" كاف في ثبوت "الصحة" يقول: "وقد يكون القبول المباشر الذي يتلقى به المخاطب الدليل كافيا لتصحيحه، ولا حاجة إلى الرجوع في ذلك إلى قانون المنطق الصناعي، لأن القبول المباشر هو بالذات الصحة على مقتضى قانون الاستدلال الطبيعي"، (فقه الفلسفة 1: 197) فهو يفصل الاستدلال على مقاس "الفكر الأمي"، الذي سبقه إليه الشاطبي، إذ فصل "التدين" على مقاسه.
ويتأكد البعد الأمي الذي هو أفق خطابه في عنصر "الاستعمال" الذي يقابل به "المادة" من المنطق، إذ هدفه هو تكريس سلطة "الرجال". يقول: "مما لا ريب فيه أن الفلسفة الحية ليست ثمرة عقل مجرد، وإنما هي ثمرة عقلاء أحياء في نفوسنا، فيهم وبهم كنه العقل، ولولا تعلقنا بهؤلاء العقلاء، وتأملنا في سيرهم ما تعلقنا بالعقل". (200).
وليتأكد أن طه يعمل على إخضاع الفلسفة، وليس إنشاء "فلسفة"، عاد إلى كل من الشاطبي وابن تيمية من علماء الدين، في "التأصيل" لموقفه من العقل؛ فكلاهما قسما "الدليل" قسمين؛ ينقسم حسب الأول إلى دليل متبوع وهو "النقل"، ودليل تابع وهو "العقل"، يتقدم الأول: "على جميع وسائل المعرفة، بل يسد مسدها"، وسلطته غير محدودة، بخلاف الثاني لا يتقدم ومؤسس على الأول ومحدود.
ويميز الثاني بين "دليل بدعي": "يدعي التقدم على الشرع والاستغناء عن الاستناد إليه"، ودليل شرعي: "يأخذ بما أثبته الشرع وأذن فيه، باعتباره جامعا للعقل والسمع معا"، (215) ومن مفارقاته في هذا السياق، اعترافه بأن الفلسفة تختص بأصلين: "التدليل والتعليل"، وتختص الشريعة في المقابل بـ: "الإيمان والعمل"، مما يجعل "التوفيق" الذي اشتغل عليه الكثيرون مخالفا لـ: "مقتضيات مجال التداول التي توجب عليهم ابتداء بمراجعة طرق الفلسفة"، في حين: "أفردوا بالمراجعة طرف الشريعة من دون طرف الفلسفة". (216)
وإذا اشتغل هؤلاء بـ "التوفيق" بما "يخضع" الدين للفلسفة، فإن طه يعكس الأمر، فيسقط فيما انتقده، وهو التوفيق المقلوب، إذ يعمل على "إخضاع" الفلسفة للصيغة الصوفية الطرقية للدين تحت عنوان "فقه الفلسفة".
ينفي، في سياق بناء الموقف من العقل والمنطق والفلسفة، وشرعنة إخضاع الكل للتصوف الطرقي، أو الأصح شطبها لصالح الأخير، أن تكون: "مضامين الفلسفة المنقولة هي عين الفلسفة"، (216) ويتخذ من تنوع العرض الفلسفي للفلاسفة الحجة على أن: "أقوالهم مجرد ظنون واهمة و [...] أدلتهم مجرد صروح واهية". (217)
توجد مضامين وأدلة "فلسفية" خارج الفلسفة المترجمة، (223) هي التي حملت بعض المسلمين في الماضي: "لم يكونوا يجدون حاجة إلى هذا المنقول، ولا توقفوا في نظرهم ولا عملهم عليه، بل كان بين أيديهم من العلوم ما كان لهم فيه غناء عن هذا المنقول الفلسفي، إذ لم يتعاطوا إلى إظهار فضل العلوم الإسلامية على ما سواها من المعارف، ويصيروا إلى القدح في علم من يلتفت إلى هذه المعارف المنقولة"، (224) وهذا الموقف هو الذي يتبناه، ويعيد إنتاجه، ويمرره بشكل غير صريح.
ونفى أيضا، في ذات السياق، أن تكون الفلسفة، تجعل الوعي أرسخ وأرقى لا تضاهيها معرفة غيرها، (229-230) بل إن المعرفة: الروحية والتاريخية تتفوقان عليها في ذلك، فقد أظهرت الأولى: "قصور الفلسفة في إدراك حدود وسائلها في التعبير والتفكير، كما أظهرت الثانية قصور الفلسفة في إدراك حدود أحكامها بصدد الحياة الإنسانية [...] وحيث لا يجدي الوعي الفلسفي، وجب إلتماس "البصيرة" الروحية، فهي أولى منه لإحاطتها بحقيقة أسبابه، ولقصوره هو عن هذه الإحاطة"، (230) فالمعرفتان تورثان: "وعيا يجاوز الوعي الذي تورثه المعرفة العقلية مع أهل الفلسفة المجردة".
تتفوق "الروحية" الصوفية لكونها: "مجاوزة علوية [...] لأنها تجعل الحدس الروحي موجها للعقل المجرد من أعلى"؛ (231) وبعدما قرر أن الفكر الذي تمت ترجمته ليس إلا إمكانا واحدا من إمكانات عدة، قدر له أن ينتشر، (241) حدد لصفة "التفلسف" شرط "النظر العقلي"، لذا فالإمكانات الأخرى المفترضة: "قد تتصف كلها بصفة التفلسف متى كان مقتضاه النظر العقلي"، وهو أنظار منها: الاشتغال بالأسباب الظاهرة، والاشتغال بالمقاصد الخفية، والاشتغال بمجال الفكر فقط أو العمل فقط، والاشتغال بالأفق الأدنى من الوجود أو الأعلى منه، (248) فصاحب النظر الأعلى [الصوفي]: "فعلى توسله بقوة خفية في الربط بين الأشياء، فإنه لا يقل منطقية ولا عقلانية عن الذي لا ينظر إلا في الوجود الأدنى"، أي الفيلسوف، (249) لكن هل هذه "القوة الخفية" عقل حتى تصح التسوية بينهما في المنطقية والعقلانية؟
كما عمل على إلباس "التصوف الطرقي" لباس الفلسفة-التفلسف، عمل، تأكيدا لفكرة احتواء المعارف الدينية على مضامين فلسفية، على التمثيل بـ "الإجتهاد الفقهي" للمعاني "الفلسفية الإسلامية"؛ فهل معرفة طرق استنباط الأحكام الدينية من النص، ومعرفة كيفية تنزيلها على أفعال المؤمنين فلسفة؟ (249)
تختلف الثقافات في استعمال طرق تعاملها مع "المعاني الفلسفية"، وهنا أدخل ضمن "الطرق النظرية" منها "الإشارة الصوفية"، ووضعها إلى جانب البرهان والجدل والخطاب، كما أدخل أيضا ضمن "الطرق العملية": الطريق التعبدي، إلى جانب الطريق الخلقي والسياسي والاجتماعي؛ مؤكدا أن الثقافة الإسلامية تأخذ بالجدل: "كما تجعل قيمة المضامين المعرفية لا تتحدد بالصدق والكذب المجردين، وإنما باتفاق واختلاف الأفراد المشتركين في طلبها، كأنما هم يتواضعون على قيمتها، إن ابتداء أو بواسطة"، (255) لهذا يفضل الجدل على البرهان، فلا قيمة عنده بظنية مقدمات الأول ويقينية مقدمات الثاني، (256) ورتب على ذلك نتيجة وهي أن الفلسفة يتم إنتاجها بالبرهان وبالجدل وبالخطابة، (257) إذ يجوز وجود فلسفة لها أصول: "تختلف عن أصول الفلسفة المنقولة"، ووجود حقائق فلسفية مختلفة. (266)
ويتضح من الأمثلة التي أوردها لمقولة "الخلق" التي هي مقابله لمقولة "الصنع" الفلسفية، أنها قضايا كلامية، مما يؤكد نظرته أن المعارف الدينية، ومنها الكلام "فلسفة"، (270) وبناء عليه يحق لكل ثقافة الاستغناء بـ"أصولها الفلسفية"، ومنها الثقافة الإسلامية، التي سبق لها أن استغنت عن الفلسفة المنقولة إليها، وبإمكانها أن تستغني عنها اليوم كذلك.
ينتقد المترجم إلى العربية بأنه لم يعمل على: "إسقاط الأصول اليونانية المصادمة للمعتقد الإسلامي من نقولهم"، (333) فالمطلوب منه، في نظره، هو: "أن يغير مضامين هذه الحقائق المنقولة بما يقطعها عن مجالها التداولي الأصلي" فلا ينقل الكل: "حيث يتعين عليه أن يحذف بعضها [...] مثله في ذلك الذي يوصل الخبر إلى الغير توصيلا يظهر منه جوانب ويضمر فيه أخرى، عن قصد أو غير قصد". (336)
ودافع، في هذا الإطار عن ابن حزم الذي: "عمد إلى تغيير المنقول المنطقي لوجوه"، (349) إذ هذا "التصرف" هو شرط: "توطين ما وقع استمداده"، و "يصيره لابسا لباس المأصول"؛ (356) أي العمل على: "تغطية أوصاف النص الفلسفية بأوصاف تداولية نهض المتلقي إلى العمل الفلسفي" (357)
يقول ملخصا "آليات الإخضاع": "إن المترجم التأصيلي يستخدم في نقوله كل آليات التخريج والتغطية، مثل الحذف والإبدال والإضافة والمقابلة، فإنه لا يبقي من النص الفلسفي الأصلي إلا على الجزء الذي لا غنى له عنه [...] لأن المقصود ليست معرفة كل ما في النص الأصلي، وإنما معرفة كيفية التفلسف ابتداء من هذا النص" (358)
كيف تتحقق كيفية التفلسف دون معرفة الفلسفة؟ أم أن الهدف هو: "التصرف في المضامين المنقولة [...] التي تفيده في إخراج هذه المضامين على الوجوه التي تناسب المحددات التداولية لمجال المتلقي، إن حذفا للأصول الفلسفية المخالفة لهذا المجال، أو تحويرا في الأصول الموافقة له [...] لأن الغرض من النقل التأصيلي ليس هو الأداء الأمين لمضامين هذا المنقول". (359)
ولا يقابل هذا الغرض، إلا غرض الهيمنة والسطو على هذه المضامين وفق منطق "الغنيمة"، غير أن التحدي الذي يواجه هذه الدعاوى، هو مصير الفلسفة في الثقافة، بعد "العمل التأصيلي" الذي أنجزه الغزالي وابن حزم وابن تيمية، الذين اختفت بأعمالهم في هذا المجال في كتاب: تجديد المنهج في تقويم التراث"؛ أليس بسبب الجراح التي أثخها هؤلاء في جسد الفلسفة ماتت في الثقافة؟ ويبدو أن "فقه الفلسفة" هو استئناف جديد لذات المهمة، وإن بخطاب "جديد".
ختم طه الجزء الأول من "فقه الفلسفة"، بما يبرز حقيقة مشروعه الخطابي؛ فهدف الترجمة هو: "الخروج مما ينسب إليها [يقصد الفلسفة] من توجهات مطلقة في الشمولية والمعنوية والعقلانية والتبليغية، إلى أوصاف تلائم مقتضيات الترجمة في خصوصيتها ولفظيتها وفكرانيتها واستقلاليتها". (508)
وهي المهمة التي عبر عنها بشكل أوضح في الجزء الثاني، إذ حددها في العمل على أن: "نستأصل من النفوس ما رسخ فيها، عن باطل، من أن المفاهيم والأحكام الفلسفية بلغت النهاية في الشمول". (فقه الفلسفة 2: 12)
وتزداد المهمة تأكيدا، باعترافه، في سياق الرد على اتهامه بالعمل على "قتل" الفلسفة، فقال إن "تأثيله" لمفاهيم الفلاسفة، هو "تفلسف"، الأمر الذي: "لا يبقي لمتهم أن يتهمنا بمحو الفلسفة أو قتلها [...] وإذا أصر على أننا نمحو ما يعرف ونقتل ما يصنع، فله أن يعلم- إن شاء أن يعلم - أننا لا نمحو إلا الفلسفة التي محت تفلسفنا وانمحى فيها وجودنا، ولا نقتل إلا الفلسفة المعوجة التي لا يستقيم بها تفكيرنا، ولا يتحقق بها تحررنا". (18)
***
حسن العلوي، كاتب مغربي