أقلام فكرية
اسعد الامارة: ديالكتيك الحب والكراهية "ثنائية الوجدان".. نحملها ونمقتها
الحب أسمى علاقة عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، وبنفس الوقت عرف الكره والحقد والعدوان، وأقصد هنا حب الرجل لإمرأة في الوضع السوي- العادي، ويدون لنا التاريخ الديني في كتبه السماوية وكذلك مدونات الكهوف والمغارات ورسوم الإنسان ومنحوتاته تلك العاطفة التي عجز الشعراء والكتاب عن سبر معرفتها، فبقدر ما وجدت هذه النزعه كنزعة عند الإنسان وجد نقيضها، وهي بحق ثنائية متناقضة، لا محبة إلا بعد عداوة، لا تنتهي هذه العدواة بعد الحب،" صراع قبل وفاق، وصراع بعد وفاق – كما يقول مصطفى زيور" بل تترسخ في عمق النفس، في اللاشعور " اللاوعي" طالما بزغت وكبتت في اللاشعور، ستعود يومًا ما ولو بشكل مُحور، بشكل آخر، وتشكل أزمة حتى وإن أستتب الرضا وحصل الإشباع النفسي من الرغبات التي تحكم محور العلاقة، وهي العلاقة الجنسية سواءً بعقد النكاح، أو التواجد معًا بالمساكنة" العيش معا بدون عقد زواج"، أو العلاقة خارج الاتفاقات الشرعية أو الإجتماعية، سينتهي الأمر بالكره في كل الأحوال من كل ما تقدم ذكره، ومن الحب ما كره، وفي الحقيقة هو أساس الحب الكره!!؟؟ لأن النرجسية هي محور العلاقة بين المحبين.
إن الحياة مع المرأة عبارة عن هدنه، وإن الحياة مع الرجل هي أيضًا هدنة، لأن الحب هو إخفاء الكراهية وإعلان نقيضه، ويقول د. سعد صلال "الرجل والمرأة عدوان طالما هما حيان" وقوله لقد خُلق الرجل والمرأة على أساس الاختلاف أولا وليس الاتفاق ولهذا فمن المستحيل القول من الناحية الأخلاقية الساذجة أنهما يتفقان إلا في حالة واحدة هي الهدنة، والهدنة هي مرحلة قبول الآخر، وإقامة علاقة حب.
الإنسان في تكوينه نرجسي، الرجل والمرأة، والنرجسي يحب أيضًا، يحب الحياة، فهو يحب نفسه، يعشق ذاته، ولما يعشق ذاته، لا يرى من يشبهه في الجمال، وفي الحب، وفي عشق الوجود، لذا من يحب، يحب نفسه أولًا، وهو يستخدم ميكانيزم" آلية" الإسقاط لاشعوريًا "لاواعيًا" على الآخر، أيًا كان الآخر، الحبيب- الحبيبة، العشيقه- ممن يشاركه في ممارسة الرغبة الجنسية، ممن يشبع رغباته في مؤانسته وتواجده معه معًا، فهو لابد أن يختلف معه ولو على المستوى الرمزي المتخيل، وليس على المستوى الواقعي، فإذا كان الرجل هو من يحب هذه المرأة، فهو يحاول أن يرضيها بأية طريقة، إن لم يكن لشيء فمن أجل أن يمارس معها الجنس، حيث لا الإحساس العميق منه باغتصابها دون رحمه، كما أن المراة لديها الإحساس ذاته من حيث الرغبة العميقة بان تتعرض هي الأخرى للاغتصاب، ومن الغباء القول أن النساء يردن الجنس بطريقة متحضرة، الجنس بالنسبة للمرأة عبارة عن ممارسة اغتصاب رسمي. لأنه" الآخر" ليس هو نفسه، فهو منفصل عنه فكيف يمكن أن يحبه؟
يقول "هيجل" أن الرغبة ليس لها أي نتاج سوى تدمير الآخر، سوى المنافسة مع الآخر، أو في الأحرى: الرغبة في اختفاء الآخر، وعند "جاك لاكان" الرغبة تتحقق في الآخر وبوساطة الآخر، وتكون في مرحلة المرآوية، اللحظة التي يتمثل فيها الفرد صورة لذاته، أو التي يتكامل فيها أناه" نيفين زيور، 2000، ص 18"
إن ثنائية الوجدان هي سمة صراع الحب والكراهية والتي تعصف في الوجدان ويرى "مصطفى زيور" إن قلب الإنسان تسكنه قوتان متناقضتان، لكل منهما طاقة تكاد تساوي الأخرى، تتنافسان في اتجاهين متعارضين، ومع ذلك فإن هاتين القوتين قد تتداخلان الواحدة في الاخرى، أو قد تحل الواحدة محل الأخرى، بل يبدو أن التداخل سمة اساسية في حياة الإنسان تبهظ كاهله، وهي التي يطلق عليها في التحليل النفسي ثنائية الوجدان Ambivalence ويضيف " زيور" وهكذا نجد الإنسان مدفوعًا بحاجة ملحة إلى الحب والخلق والتشييد، ونجده في نفس الوقت، وأحيانًا بنفس الإلحاح، مشدودًا إلى الكراهية والتدمير، إنه موجب وسالب معًا، وإذا وجهنا النظر إلى الكراهية في صورتها الفجة المدمرة، وجدنا الإنسان الكاره محطمًا لغيره وهذا ما نجده في الشخصية المضادة للمجتمع "اللااجتماعية" السيكوباثية، وكذلك الشخصية النرجسية، وفي ظروف بعينها محطمًا لنفسه، إذ لم يسعفه الحب في تلطيف حدة الكراهية فتكون الصورة الاكتئابية، ويقول " زيور" في هذه الظروف يتخلق الاكتئاب في صوره المتدرجة من الأكتئاب العصابي الطفيف إلى الاكتئاب الميلانخولي الذهاني " العقلي" الشديد الذي ينتهي بالإنسان في الإنتحار، في حالة البوردر لاين Borderline .
أن ثنائية الوجدان " ديالكتيك الحب والكراهية" موجود في النفس البشرية طالما هو يحيا ويستمر في الحياة، فالنفس متجددة ومتغيرة في رؤاها للإشياء والأشخاص والمواقف الحياتية، ففي حالة فقدان الحب في النفس البشرية يكون هو الموقف المسبب والباعث الأساس على بروز الاكتئاب سواء أكان الشخص لم يعد محبوبًا، أم لم يعد يشعر أنه محبوب، والكلام ينطبق على الرجل والمرأة معًا، مرتبط بعلاقة زوجية، أو حالة عشق، أو تعلق، أو اهتمام من الطرف الآخر، والامر سيان من جهة أخرى لم يعد الشخص يسعه أن يحب، أو يكون محبُا.
أن العلاقة بين أثنين رجل وامرأة أو رجل ورجل "صداقة" أو امرأة وامرأة " صداقة أو علاقة قربى، لابد أن يكون محورها الحب لأن الهدف السامي في الحياة هو الحب والحياة قائمة على الحب، وأقصد بأحد شقيه الحنون فضلا عن شقه الجنسي كما عبر عنه سيجموند فرويد. وتؤكد لنا الدراسة المعمقة للنفس أن الحب قد يكون غطاء للكراهية، أو ربما يكون ممتزجًا بقدر عظيم منه، فحب الأبن لأبيه هو حب المحكوم للحاكم، يظل خافيًا لسنوات لحين يتفجر موقف الإختلاف الذي لا يقبله الأب أبدًا عند سن البلوغ، فالأب رمز للقانون وعلى الأبن أن يذعن لهذا القانون حتى وإن خالفه رؤيته، ويرى " جاك لاكان" في رؤيته لهذا الديالكتيك بصورة الأب بأشكاله بالأب الرمزي والأب المثالي والأب المخيالي، وما ينشأ عنه من صراع. وكذلك ثنائية الوجدان بين من يحبون بعضهم، هو قدر الإنسان في وجوده وأستمراره في الحياة، ولكي تستمر الحياة بلا مياه راكده على الإنسان أن يقبل التجدد في تفكيره وما يمليه عليه سلبًا أو إيجابًا، ليس هو خلاف على أرث مادي، أو خلاف على تربية، أو خلاف على رؤية عابرة، إنه منهج يتجدد في النفس لا تطيق النفس الركود والارتكان لهذا الأمر لأنها متجددة في الرؤية ومتطورة، وقتل التطور هو وضعها في صيغة واحدة وهو أمر محال.. فثنائية الوجدان هي محك استمرار الوجود الإنساني ونستعير من جاك لاكان فكرته الوجود مرهون بالكلام "المتكلموجودي" ننقلها بأن الوجود مرهون بثائية الوجدان "الحب والكراهية" لكي تستمر الحياة بلا موت أكلينيكي.
***
د. اسعد الامارة
...................
المصادر:
- صلال، سعد (2012) الأنانية أخلاق النبلاء، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان.
- نيفين زيور(2000) من النرجسية إلى مرحلة المرآة، مكتبة الأنجلو، القاهرة.
- زيور، مصطفى (1986) في النفس، دار النهضة العربية، بيروت.