أقلام فكرية
محو الأُميّة الفلسفية
باتت الفلسفة مثل (الكتابة والنقوش الغريبة) في البيئات التي لا تستطيع التفكير الحُر. وأول شروط التفلسف أنْ تُفكر بلا قيودٍ، أنْ تُمارس الحياة بوافر الوعي كي تستطيع أنْ تقول " أنا". والأنا المُفكر ليس سهلاً تحقيقُ وجوده على نحوٍ قابل للاستقلال. لأنَّك لا تستطيع معرفة الأنا مُتوحداً مع نفسه، دوماً هناك كمٌ من الأغطية الرمزية التي تلفه طوال الوقت. وقد لا تترك له الحياةُ مساحةً دون أنْ يُسمع صدى حركته أو يُتعقب وجوده!!
تتوقف معرفة الإنسان لذاته على درجات الرؤية عبر الأغطية الرمزية المتراكمة (الثقافة، المجتمع، التاريخ، العلاقات، المعتقدات، الآراء الشائعة...). هو أنا يختلفُ من ثقافةٍ إلى أخرى، فكيان الأنا متفردٌ على غرار" البصمة " الوراثية، إذ لا يُوجد اثنان متطابقان منهما رغم تشابُه الظروف. وقد يظل الأنا مُغطّى حدَّ الإختناق أو لا يتم العثور عليه خالصاً طوال مسيرة الإنسان. وربما يمثل الأنا موجات (ترددات) من الإستعارة التي توجّه نظرَ الإنسان أنَّ هناك شيئاً ما داخله اسمه (الأنا)، ولكنه قد لا يعدُّ شيئاً فعلياً ذا بال.
الحقيقة البادية أنَّ تلك الأغطية تتحدد بهذا الأنا وتُظهر قوتها بواسطته دون عنايةٍ كبيرة لوجوده الخاص. فالأنا مصنف في قوالب وظيفية عامة تخدم نظام الضبط والمراقبة وحركة الفئات. إنَّ مجتمعاتنا العربية لا تترك الإنسان وحيداً أو خارج آليات الإدماج الثقافي والاجتماعي. عليك أنْ تكون مُشابهاً للآخرين من غير نقاش، أي أنْ تكون نسخةً مقلّدةً تماماً، وإلّا فسيكون مصيرُك الإقصاء أو على أدنى تقدير الإهمال.
ولكن إذا كانت الفلسفةُ تكتشف ذلك البُعد، فهل الفلسفة تماثل عملية الكتابة والقراءة بصدد مصطلح "محو الأمية"؟! بالطبع فأنْ تتفلسف معناه أنْ تعي من أنت بكامل وجودك الحُر، بحيث يكون وجوداً قادراً على التعبير. فالوجود الإنساني قد يكون (منقوصاً) تحت إطارات الأنظمة السياسية الطائشة، وقد يكون وجوداً (متآكلاً) نتيجة القهر والتخلف والركود، وقد يكون وجوداً (منسحقاً) بفضل العادات والتقاليد. فهذه الأشياء في المجتمعات البشرية تمارس أدوارها على شاكلة الحيوانات المفترسة التي لا تترك شاردة ولا واردة دون مساسٍ. ويتم تحويل المجتمع إلى غابةٍ لا يقوى إنسانها على الوعي لدرجة أنه ينسى شيئاً اسمه التفكير!!
الفلسفةُ لا تعيشُ في الأحراش والعشوائيات، ولا تريد أنْ تكون حيواناً مفترساً، لكنها فاعلية تعيش في الأسواق والساحات بين الناس، بين العلاقات الإنسانية، وبين القوى الحوارية والتنافسية، وبين اختلافات العقول، وبين الرؤى المتبادلة، وداخل صور الحوار التي لا تهدأ، وبين وجوه التأويلات الحياتية للوقائع والأزمنة، وعبر الشعور الوجودي بأحوال العالم والحياة. الفلسفة تنمو حيث التعلُّم الذاتي المستمر لمشكلات الحياة القصوى. الفلسفة أبجدية يجب معرفتة حروفها وتعلُّم أصول كتابتها تماماً مثل نتعلم ألف باء الهجاء والكتابة.
الفلسفة تظهر في حمأة الظواهر والأحداث التي تنتاب المجتمعات لحظة السيرورة والتغيرات الجذرية. ليست هناك فلسفة كثمارٍ معلقةٍ في فراغٍ على أغصان دانيةٍ. وحتى لو كانت الفلسفة حاملةً لمشاعل العزاء الإنساني للبشر، فإنَّها تنغرس عبر لحظة يقظةٍ واعية بإطلاقٍ. لا توجد فلسفة تغمض أحدى عينيها وتفتح الأخرى، ولا توجد فلسفة تقبل نصف الفكرة لصالح النصف الآخر، لابد للفلسفة أن تفتح عينيها معاً حدَّ الإمتلاء بحقيقة العالم.
الفلسفة تناقش قضايا كونيةً تخص إنسانيتنا المترامية في كل مكان وزمان، قضايا الكرامة والتعايش والتسامح والحرية وتوطيد حدود العقلانية وحقوق الإنسان وأفساح آفاق الفهم وإنطلاق العيش ومقابلة الآخر. الفلسفة تدفع الوعي الإنساني إلى أقصاه، إلى اختراق الحواجز والبحث عن البعيد والغائب، والتفلسف هو ذروة الوعي القادر على المساءلة والنقد وإعادة البناء. الفلسفة تقدم لنا العزاء عما فقدناه من أشياء ليست بالقليلة، مثل سلام النفس والطبيعة الحرة والأصالة وتلقائية الحياة وجوانب الإنسانية الجامعة بيننا.
لا تسمح الفلسفة بأن يكون الآخر منبوذاً ولا مطروداً، لأنها ترى فيه وجوداً مساوياً لوجودنا الأصيل، بل مكوناً رئيساً لحياتنا التي نفقد زخمها بدونه. هي تعمل على وجوده الدائم من خلال وجودنا معاً بالتقاطع لا بالتوازي. والفلسفة تظهر في المجتمعات التي تعيش حالةً من المسئولية عن الآخر، لا مجرد إعطائه مساحة من الحوار والفعل. الفلسفة هي ترموميتر قدرتنا على الحوار والفهم، وأن نرصد وجودنا المحتمل في المستقبل. إنها تدربنا على النظر الثاقب نحو الأمام والخلف والعمق في اللحظة ذاتها، فلا توجد فلسفة تجمد نظرها تجاه الماضي وإلاَّ لسقط الإنسان في أقرب حفرة ثقافية تحت قدميه. ولا تطرح الفلسفة المستقبل متخيلاً ويوتوبياً وإلاَّ لسقطنا في الأوهام والأحلام الفارغة، ويستحيل حبس الفلسفة في أسر اللحظة الحاضرة، لكونها تُناقض كل حضور مركزي يمكنه أنْ يبتلعها.
في مجتمعاتنا العربية، لم تأخذ الفلسفة مكانتها الثرية، نظراً لغياب تلك المؤشرات، كانت ثمة بدائل ثقافية تأخذ مواقعها، كما أن مفاهيم الذات والآنا والآخر والحقيقة والفضاء العام والتنوع والاختلاف لم تترسخ بعد، بل غدت مفاهيم غريبة وغير مرغوب فيها أصلاً. وذلك بحكم أنَّ الفلسفة تحتاجُ إلى تربة ثقافية خصبة، حيث لا يكون هناك مطاردة ضروس بين الفكر والواقع. ونحن نعرف سلفاً من سيكون في المقدمة وطارداً للآخر. إن الواقع المتحصن بنمط الحياة السائدة وقوة الصور الحاكمة للتفكير يحول دون وجود الفلسفة بمعناها السابق.
لأنَّ القضايا المثارة في هذا الواقع ليست هي القضايا القابلة للتفلسف، هي قضايا الحد الأدنى من الوجود، هي قضايا الكفاف الفكري، موضوعات الفقر العقلي المُدقع. كما أنَّ واقع مجتمعاتنا العربية لا يعبأ بما هو مشترك على صعيد الإنسانية، هي مجتمعات تسير بالقطعة التاريخية ... خطوة خطوة، حقبة حقبة، مرحلة مرحلة. فاليوم مختلف عن الغد والاثنان مختلفان عن الأمس، وقُلْ ذلك بصدد جوانب التاريخ. وهكذا سيكون وعي الإنسان ممزقاً ومنقسماً على نفسه. وسيتم قطع وتيرة القضايا المشتركة، لأن المشترك هو الاسنثناء المفاجئ لا القاعدة الممتدة، وبالتالي سيكون التفلسف غير ذي أهمية بالنسبة لنظام المجتمع.
إنَّ محاولات التفلسف منذ الفلسفات العربية الإسلامية القديمة لا تواصل طريقها التاريخي، إنما يتم بترها دون أسباب واضحةٍ، بل وتحت مبررات مختلفة كان مصيرها التلاشي والإنزواء. ولم تجد تلك الفلسفات من لديه حساً فلسفياً أصيلاً كي يواصل إحياءها، لأن الثقافة السائدة - مع تعاقب العصور- ناصبت كل ما يمت إلى الفلسفة عداءً وصراعاً طوال الوقت. وفجأة أصبحت الفلسفة مطرودةً من وعينا اليومي والحياتي من غير رجعةٍ. وأخذت تبيت وتصبح خارج منطقة القبول العام، ولذلك كان الفكر لدينا محروماً من الأبعاد الفلسفية الكلية لفهم المشكلات والقضايا وورثنا قلة التبصر الفلسفي تجاه أخص ما نملك وهو وجودنا المشترك.
الأمية الفلسفية مستوى من تفكير واسع الانتشار لدى المثقفين والناس العاديين. فهم يتحدثون في كل شيء ويعلقون بصدد أية أحداث وظواهر، ولكن عندما يكونون بصدد التفكير الفلسفي يغلقون عقولهم ويصمون آذانهم عن السماع والفهم. قد ينخرطون في ثرثرات إعلامية وثقافية لأوقات طويلة، غير أنهم يصمتون صمت القبور حينما تظهر إشكالية فلسفية أو حينما يتطالب الموقف معالجة للأفكار على الصعيد ذاته. والغريب أيضاً أن الأمية الفلسفية توجد كذلك لدى بعض أساتذة الفلسفة أنفسهم، حينما يتكلمون بلهجة الفكر الدارج حول قضايا الواقع والحياة، ويرفضون بلاوعي أنْ تؤثر الفلسفة في رؤيتهم للأشياء والمواقف. هم في الحقيقة يحولون الفلسفة إلى مهنةٍ كلامية لا طائل من ورائها، يفضلون النقل والإستظهار لكنهم لا يكابدون تفكيراً حراً خارج الأطر التقليدية، ولا ينشغلون بهموم فلسفية.
ولذلك تنتشر الأمية الفلسفية بالدرجة الأولى بين المتعلمين، وهذا دليل على كون التعليم غير معني بالفلسفة وأهميتها. وعليه يمكننا محو الأمية الفلسفية عندما نعي حجم المشكلة التي تواجه العقول لدينا، وعندما نقف على ذروة الثقافة المُغلقة التي ترى في الإنسان أداة للتسلط والقهر. تراه وسيلة للقبض على زمام عقله وإدارته كيفما تشاء. علينا إفساح مجالات التعليم ومؤسساته لجوانب كبيرة من الفلسفة، حتى تصبح ممارسة حرة في كافة الأنشطة التعليمية والمعرفية. لأن الفلسفة لصيقة العمل بالعقل طالما هناك إنسان يفكر ويبدع.
إنَّ الأسئلة الفلسفية يستحيل قمعها أو كبتها، ولو حدث ذلك، فقد يكون الوضع إلى حين، بيد أنها ستنفجر في مرحلةٍ لاحقة. وستكون التكلفة الثقافية باهظة الثمن من تدوير الغباء والتنطع الفكري والتمحك اللغوي والخلل في تداول خطابات الغوغاء واستشراء التسلط دون حدود. الفلسفة هي مصل واق لتلك الأمراض التي توجد حال غيابها الفكري. ولعلَّ الأمية الفلسفية سبب عدم جدية الفكر في مجالات السياسة والإجتماع والمعرفة والإعلام لدينا، فقد نتناقش من حين لآخر، لكن مع إقصاء الفلسفة يغدو النقاش قصير الأمد، ولا يبلغ أذني المتحاورين.
الأبجديات الفلسفية هي المفاهيم والمناهج والأفكار التي تتيحها الفلسفة للعقول الحرة التي تتأثر بها وتنتجها. طالما توجد أبعاد فلسفية في أي خطاب، فهذا كفيل بجعله قادراً على التأثير، لأنَّ التفلسف يمثل قوة العقول على الطرح وابتكار الرؤى. وليس عيباً أنْ يعترف الإنسان هنا أو هناك بكونه لا يعرف الفلسفة ولم يتلق تعليما وافراً فيها، ولكن العيب كل العيب أنْ يغلق عقله أمامها بحجة كونها مستغلقةً وصعبة الفهم وأنْ يتخذ من ذلك تعلةً للتراجع أمام الاتجاهات الفلسفية التي هي نتاج الحياة. عليه أنْ يفتح ذهنه دون انغلاق أولاً، وأنْ يتهجى فلسفياً أفكاره من جديدٍ، وأنْ يحاول هضم الأفكار التي توفرها الثقافات الكونية التي سبقتنا في هذا الشأن.
***
د. سامي عبد العال