أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: الشاعر مكلفًا ومبعوثًا.. سميح القاسم رفقة محببة وتجربة طيبة

اتخذ من الادب، شعرًا أولًا، نثرًا ثانيًا، مسرحًا، رواية وسيرة ذاتية ثالثًا، رسالة آمن بها منذ يفاعته الأولى، ولم يتردّد في دفع الثمن المُتطلّب، من ملاحقة ومطاردة، سجن وإقامة جبرية، بل دفع هذا كله وأكثر، مؤمنًا بأن على الانسان حين يحيق به وباهله العسف والظُلم، لا بد له من أن يردّه وبكل قوة، ورغم انه كان يعرف امكانياته وحدوده فعلًا وقوًلا، إلا أنه تمرّد على ذاته، ومضى منتصب القامة يمشي، في كفّه قَصفةُ زيتونٍ وعلى كتفه نعشه. وقد كان في هذا اشبه ما يكون بالشاعر العربي القديم دعبل الخزاعي الذي قال إنه حمل صليبه خمسين عامًا متحدّيًا كلَّ مَن يمسه بسوء، أو يدوس له على طرف.
الشاعر الصديق الراحل سميح القاسم ( 1939- 19-8-2014)، الذي نحيي ذكرى عقد ونيف من الزمان على رحيله، وقد صادفت هذه الذكرى أمس الثلاثاء، التاسع عشر من آب الجاري، باعثة فينا نحن أحباءه واصدقاءه ومقدّري شخصيته وابداعه الادبي عامة والشعري خاصة، هذا الشاعر الذي حظي بالكثير من الألقاب، منها شاعر العروبة، وشاعر القومية العربية، وطائر الرعد، عاش حياته متكرّسًا لرسالته الانسانية والوطنية معتمدًا على موهبة جزلة، معطاءة، وروح تعرف ما للكلمة من قوة وأثر، سواء كانت مكتوبة او مقولة/ مُنشدةً، فأعطى الكثير وقوبل بالوفير من الاحترام والتقدير، فحصل على العديد من الجوائز، العربية والعالمية وبإمكان مَن يُريد الاطلاع عليها، بإمكانه ان يفعل عبر محرّك البحث الالكتروني العالمي جوجل.
ربطت كاتب هذه السطور بالشاعر سميح القاسم علاقة ابتدأت وهو فتى غضّ الاهاب، يتلقّى علومه على مقاعد الدراسة، وكان ذلك عام 1968، عندما أرسل قصة قصيرة حمّلها عنوانَ الكلمة الأخيرة، إلى مجلة الجديد وفوجئ بنشرها في الشهر الذي أرسلها فيه ذاته، وعندما علم أن الشاعر سميح القاسم هو مُحرّر تلك المجلة، التي كانت تعتبر الأهم في بلادنا، سعى للقاء به، وكان سميح القاسم حينها في التاسعة والعشرين من عمره، سميح استقبله في غرفته الصغيرة المتواضعة، التي كانت تقوم آنذاك في احد بيوتات حي النسناس في مدينة حيفا، مشيدًا بموهبته الصاعدة ومشجّعًا إياه رغم صعر سنه، على المُضيّ في طريق الكتابة والابداع. وقد لمس منذ اللحظات الاولى لذاك اللقاء أمرين يُميّزان الشاعر المُحرّر، أحدهما دماثة الخُلق وطيب المعشر، والآخر الثقافة العميقة والمركزة، وقد رافقه منذ ذلك الحين في معظم الأماكن التي انتقل للعمل فيها، رافقه في صحيفة الاتحاد، وفي مؤسسة الفنون الشعبية، التي أقامها مع آخرين، بهدف دعم الحراك الثقافي والفني في البلاد، كما رافقه عندما أسس بالتعاون مع الكاتب اميل حبيبي منشورات عربسك، وعندما انتقل إلى الناصرة للعمل مُحرّرًا لصحيفة كل العرب، أخذ بالتردّد على الصحيفة برفقة الأصدقاء منهم الصديق المشترك الشاعر سيمون عيلوطي، الكاتب المرحوم عيسى لوباني والشاعر نمر سعدي. في كلّ هذه التنقلات تعاملنا معا، كتابة ونشرا. وكنت أتأكد أولًا بأول مما لمسته من صفات حميدة اتصف بها شاعرُنا المُبدع.
انطلاقًا مِن مَعرفة وثيقة بالشاعر سميح القاسم، بإمكاني تسجيل الملاحظات التالية، معتبرًا إياها شهادة من انسان عايشه وعرفه عن قُرب.
* الشاعر: كتب سميح القاسم العشرات من المجموعات الشعرية، علمًا أن مؤلفاته وقعت في ثلاثة وسبعين كتابُا وطبعت في سبعة مُجلّدات، وقد تميّز شاعرُنا عن الكثيرين مِن الشعراء في بلادنا خاصة، بأنه أخذ قضية الادب والشعر بكل جدّية، وتعامل معها على اعتبار انها قدر ومُبرِّر وجود، فكنت تراه دائم التطوير لعمله الشعري، وها هو لا يُصدر مجموعةً شعريةً جديدةً إلا ليُضيف إلى سابقتها، فهو شاعرٌ دائم التجدُّد، وقد أقام هذا كله على معرفة عميقة بالشعر العربي القديم، وبإمكاني القول إنه كان من أبرع مَن تعاملوا مع الاوزان الشعرية، إذ كان مُتمكّنًا فيها تمكنًا رصينًا، وأشهد أنه عادة ما كان يُقطّع القصيدة حرفًا.. حرفًا وبيتًا بيتًا، أما عمله في قصيدته فقد كان يمرُّ بمرحلتين إحداهما الكتابة الأولى، والأخرى النظر والمعاينة لكلّ واحد من جوانبها، إلى هذا كان شاعرُنا رُغم معرفته هذه بالأوزان والبحور الشعرية العربية، يُميّز بين النظم والابداع، او الخلق الفني، أو الإغراب، كما عند الناقد العربي الخالد عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار البلاغة أولًا، ومثلما عند الناقد العظيم حازم القرطاجني صاحب الكتاب الفاتن منهاج الادباء وسراج البلغاء ثانيًا. فالقصيدة لدى شاعرنا عبارة عن عالم له قوانينه ودينامياته الداخلية المؤسسة على الوجدان أولًا والفكر ثانيًا والخيال ثالثًا والأسلوب رابعًا. بناء على هذا يُمكننا القول إن قصيدة شاعرنا تدُل عليه، فهو صاحب أسلوب خاص ليس من المُستحسن مقارنته بسواه، وإذا كانت لا بُدّ مِن المقارنة فبينه وبين ذاته. كان شاعرُنا دائمَ الاطّلاع على أسرار شعرنا العربي القديم وخفاياه، فهو مؤمنٌ تمام الايمان أن معرفة الذات يُفترض أن تكون أولًا، بعدها نتعرّف على الآخر، لذا تراه يتأثر بشعر الحماسة ويكرّس له بعضًا مِن نتاجه الإبداعي، وفي الآن ذاته لا يفوتُه الاطلاعُ على نماذجَ من الشعر الأجنبي، وذلك ضمن محاولة إثرائية، وتوسيعًا للدائرة الإنسانية التي شغفته وشعلت باله طوال أيام حياته بنهاراتها ولياليها. كلّ هذا يدفعُنا للقول إن سميح القاسم تأطر كشاعر مقاومة، لكن حان الوقت بعد عقد من الزمان على رحيله المؤسي، ان نخرجه من هذه الدائرة الضيّقة، ولعلنا لا نبتعد عن الموضوع إذا ما إذا ما أشرنا إلى بعض من قصيده للإشارة إلى أفقه الإنساني الجزل، وربّما يكفي أن نشير في هذا السياق إلى قصيدة عن لوركا، لنرى إلى أي مبدع كان. أما مسالة الانشاد الشعري، وهو أحد مظاهر شعرنا العربي القديم، لنتذكر سوق عكاظ وما كان يُنشد فيه من أشعار، فهي تقول لنا إن سميح القاسم انشد الشعر في الناصرة وفي عمان، دمشق والقاهرة فأبدع، مسجّلًا ذاته مًنشدًا متفرّدًا وذا شخصية إنشادية قلّما تكررت. بإمكان مَن يشُك في هذا أن يستمع إلى إنشاده او إلقائه قصيدتَه الغاضبة الفاتنة التي تهيب بأبناء شعبه مناشدة إياهم بأن يتقدموا، فكلُ نار فوقكم جهنم.
* الناثر: كما ذكرنا آنفًا، كتب سميح القاسم المقالةَ السياسية، الرواية السيرة الذاتية والمسرحية الشعرية. فيما يلي نتناول كلًّا من هذه الأنواع الأدبية، ببعض الكلمات، ففي مجال كتابة المقالات نُشير بكثير من الحنين إلى الماضي، إلى مقالات شاعرنا التي كان ينشرُها تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية، تحت عنوان مِن فمكَ أدينك، فقد ابتكر في هذه المقالات طريقة خاصة، لا تعتمد على الهجوم على الآخر/ المحتل، بقدر ما تحاول أن تقرأ عقليته بعقلية أخرى واعية، تعرف كيف تقرأ وتدرك ما لزلّات اللسان من مخاطر في التعبير عمّا في النفوس من مشاعر وضغائن. أما عندما انتقل للعمل رئيسًا لتحرير صحيفة كل العرب، وكانت آخر الصحف التي عمل فيها، فقد كتب مقالة افتتاحية أسبوعية، وعادة ما كان يختتمها، بشعاع ليزر، مُسدّد، لاذع وكاشف، حدّ الفضيحة، حتى ان بعضًا مِن الكتّاب لجأ إلى تقليده، لكن هيهات له أن يتمكّن، فهناك فرقٌ شاسع واسع بين الأصل والنسخة. فيما يتعلّق بكتابة شاعرنا الرواية والسيرة الذاتية، هو لم يبتعد كثيرًا عن تجربته الذاتية، وعادة ما اغترف مِن هذه التجربة مُقدّمًا ما اغترفه بقالب فنيّ، موشى بشعرية شفّافة، وواصفًا واقعًا عاشه وعايشه عن قراب مع تحويرات تتمثّل في إعادة صياغة هذا الواقع من وُجهة نظر مُرهفة ورؤية خاصة ومميّزة. في هذا المجال نُشير الى روايتيه او حكايتيه كما وصفهما، الصورة الأخيرة في الالبوم الأخير وإلى الجحيم أيها الليلك. وأما في المسرح فقد ترجم سميح مسرحية من ابداع الألماني برتولد برخت وله مسرحية عنوانها قرقاش، وهو للحقيقة وسّع وأضاف في أعماله المسرحية هذه، ما يدُل تمام الدلالة على أنه أراد أن يكون صاحب رسالة، شاملة، لا تتنازل عن كينونتها الإنسانية السياسية المتكاملة، وتحاول أن تقدّمها بأفضل إطار ممكن. بقي أن أشير الرسائل بين شطري البرتقالة، بين سميح القاسم ومحمود درويش، التي صدرت بعد نشرها منجمة في صحيفة الاتحاد، في كتاب حمل العنوان ذاته، وفي هذا السياق أسجّل ملاحظتين إحداهما انني كنت شاهدًا على نشر هاته الرسائل، اذ كنت أعمل مُساعدًا لمحرّر الاتحاد الادبي آنذاك الكاتب الصديق محمد على طه، وللتاريخ أذكر أنه هو مَن اطلق عليها عنوان رسائل بين شقي البرتقالة، أما الملاحظة الاخرى فهي أنه بإمكان مَن يقرأ هاته الرسائل، أن يرى وربّما يلمس لمس العين والفكر، أنه إنما يقف أمام عالمين وتجربتين مختلفتين، لكلٍّ منهما رائحته، نكهته ولونه الخاص به.
في المجمل، بإمكاني القول إن شاعرّنا سميح القاسم، كان صاحب رسالة وإنه توسّل بكلّ ما ملكت يده، ايصالها إلى عناوينها الحقيقية، لهذا استحق أن يكتب عنه الشُعراء في ذكراه العاشرة، ومنهم عناد جابر، ناظم حسون وعبد الرحمن حوراني. أما الصديقة سهاد كبها فقد اجزلت العطاء، بمبادرتها المباركة إقامة معرض يُقدّم فيه مَن يريد من الفنانين التشكيليين لوحة تصوّر شاعرنا الكبير، أو تصوِّر جانبًا خاصًا، او معينًا من مجالات اهتماماته، ومنها غرامُه الدائم بالولّاعات، وجمعه إياها طوال أيام حياته.
***
ناجي ظاهر