أقلام ثقافية
حميد علي القحطاني: حين يزهر القلب في ظل العدالة

هناك مشاهد عابرة تمضي أمام أعيننا كما تمضي الغيوم في السماء، لكن بعضها يتوقف في القلب كأنه وُجد ليقيم فيه. مشاهد لا تقاس بضخامتها، بل بقدرتها على أن تهزّ في أعماقنا أوتارًا خفية، فتوقظ أسئلة قديمة عن الإنسان، وعن ذلك الخيط السري الذي يربطه بأرضه وسمائه، وباليد الخفية التي تصوغ ملامحه حين تتبدل البيئات وتتغير الظروف. من ومضة كهذه، تبدأ الحكاية…
ثمة لحظات في العمر لا تأتي صاخبة. بل تتسلل على أطراف أصابعها. توقظ في القلب أسئلة بحجم الكون. لحظات صغيرة، لكنها كالنقطة على سطح ماء راكد، ما تلبث أن ترسم دوائر متسعة في بحر الفكر.
قبل أيام، كنت أعود من سوق في أستراليا. الشمس تزين الأفق بخاتم من نور. وفجأة، وقع بصري على شاب عربي الملامح، يبتعد عن سيارته بخطوات محسوبة نحو صندوق قمامة بعيد. كان يحمل أكياسًا صغيرة، كأنها أمانة يريد ردّها إلى مكانها الصحيح. مشهد بسيط. لكنه اخترقني كشعاع من نور. أكان سيفعل هذا لو كان في بلده الأم؟
عندها همس في ذاكرتي صوت علي الوردي: "لو غيّرنا ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم". رأيت الإنسان كشجرة. لا يحدد طيب ثمرها سوى التربة التي تغرس فيها. ذلك الشاب لم يبدّل قلبه بين ليلة وضحاها. لكن الأرض التي وطأها غيّرت ماء جذوره. في موطنه القديم، ربما ضاقت مساحات النظام. وجفّت ينابيع المرافق. وخفت صوت الثقافة التي تحرس الجمال. فكانت الأفعال على صورة المكان.
أما هنا، حيث القانون كالنهر الجاري. والمرافق كالغصون الممدودة. والنظام كهواء نقي يملأ الرئتين. صار الفعل النبيل امتدادًا طبيعيًا للمشهد العام. وأدركت أن الإنسان مرآة محيطه. وأنه، كما يقول باندورا، يتعلّم كيف يكون من خلال العيون التي تحدق فيه، والأيدي التي تحاكيه. حتى يصبح ما يراه جزءًا مما هو عليه.
ثم اتسعت الرؤية. رأيت الأمر يتجاوز الفرد إلى الجماعات. ورأيت أستراليا أشبه بحديقة عظيمة. غرست فيها شتلات من أمم متباعدة. بعضها جاء يحمل بين أوراقه غبار خصومات الماضي. لكنها هنا أورقت بسلام واحد. وشربت من ماء مشترك. حتى بدا كأن جذورها جميعًا تنبع من نبع واحد.
سألت نفسي: ما الذي جعل العداء يتحلل هنا، ويظل متحجرًا هناك؟ أجابتني الأرض: لأنني هنا ظللتهم بعدل القانون. وأطعمتهم من ثقافة تحتفي بالاختلاف كأنه لون في لوحة. لا شق في جدار. وحين يكون القانون مظلة واحدة. والتنوع طيف نور واحد. تزهر القلوب بما تعجز عن إنباته أرض الصراع.
ثم تذكرت… هذه المعجزة ليست وقفًا على أرض بعينها. بل هي بذرة يمكن أن تزرع في أي تربة، إن نُزعت منها شوك الطائفية، وسُقيت بماء المساواة. العراق، على سبيل المثال، يمكنه أن يزهر إذا صار القانون سيد الجميع، والهوية الجامعة سقفًا يأوي تحته الجميع بلا تمييز.
لكن الأمر يحتاج إلى يقظة المثقفين. إلى جرأة الإعلام. إلى منابر الفكر. عيون ترصد ليل الخطاب المسموم. رياح تنثر غبار التعصب. وينابيع تُسقي القلوب من ماء الوطن الواحد. حتى يعود الناس يشعرون أن الوطن ليس رقعة على خريطة، بل روحًا تسكن أرواحهم.
وطافت بخاطري حكاية أستاذ أسترالي: منذ خمسين عامًا، حين فرضت الحكومة ارتداء حزام الأمان، استقبل الناس القرار كحجر في مجرى حياتهم. حاولوا دفعه جانبًا. لكن الزمن صقله حتى صار جزءًا من طبيعة الطريق. وتكرر المشهد في زمن كورونا، حين أقامت القوانين جدران الحظر. ارتفعت الأصوات بالرفض. ثم ما لبث أن صار الالتزام بالخروج للضرورة عادةً يسكنها الرضا. بعد أن اكتشف الناس أن الأمن نعمة تليق بالتضحية.
وهنا أشرق في ذهني صوت وليام جيمس: "ما نكرره بأيدينا، ينقش نفسه في أرواحنا، حتى يغدو عادة لا تحتاج إلى أمر ولا نهي". فهمت أن القوانين شرارة البداية. لكن القناعة هي النار التي تبقى متقدة في القلب. وما يُصنع اليوم بسطوة النظام، قد يصبح غدًا طبعًا يسري في الدم. كما يسري الدفء في عروق شجرة تحت شمس الشتاء.
***
حميد علي القحطاني