أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: قصص من نهر التجربة

كل الانهار تجري الى البحر. الزمن قد يُقدّم نسخةً اخرى لسيلانه وتدفقه لكنه لا يكرّرُ ذاتَه، وقد يُقدّم نسخة تشبه سابقة لها، غير انها لا تنسخها بالحتم. لهذا اطلق الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس مقولته الخالدة" انت لا تنزل النهر مرتين"، وذلك ضمن اشارة ذكية تشبّهُ الزمن بالنهر الجاري إلى الامام، ومشبها المكان بالمجرى الحاضن له. لقد دشّن هيراقليطس بمقولته هذه خطوة عظيمة اخرى تضاف إلى سابقات لها منطلقة باتجاه المنطق الجدلي في الفلسفة. وقد اشار بقوة إلى أن النهر/ الزمن دائم التدفق إلى الامام، وانه لا نهر هناك في الارض يمكنه ان يجري إلى الوراء.
ان نقول ان الزمن لا يكرّر ذاته يؤكد أن اللحظة التي تمضي مخلفةً ايانا وراءها، انما مضت بكلّ ما ضمّته وفاضت به من فرح وحزن، احداثٍ وذكريات، وان اللحظة المُقبلة ما هي إلا لحظةٌ اخرى مختلفة تمام الاختلاف، وهو ما يذكر بما اشار اليه اكثر من فيلسوف ومفاده ان الزمن دائم السيولة وان اللحظة التي نعيشها الآن ، اللحظة الحاضرة، انما تضحي بسرعة البرق لحظة ماضية.
انطلاقًا من هذا المفهوم، فإننا كلما دنونا من الحياة وقصصها الغامضة الحافلة بالأسرار، سنكتشف اننا في الامس غيرنا اليوم، واننا في الغد غيرنا في الامس. اننا دائمو التغير، والتبدل نكبر ونندفع إلى الامام، نحو نهايتنا البحرية المحتّمة، مضيفين إلى اعمارنا اعمارًا اخرى، وإلى اشكالنا اشكالًا اخرى. لهذا سيكون من العبث ان نعود إلى الوراء، وان نعيش اللحظة بكل ما احتوته من تغيّر وجِدّة.
فيما يلي اشير إلى ثلاثة مواقف، او قصص، كنت مشاهدًا لها، حينًا من قريب، وآخر من بعيد، تؤكد هذه الحقيقة المتغلغلة الى اعمق اعماق الوجود.. والحياة.
القصة الاولى: كان لي صديق دائم الحنين إلى ابن له تركه مضطرًا ايام كان ابنه صغيرًا مع امه الاجنبية. عندما كبر هذا الابن. قرّر هذا الصديق ان يتوجّه لزيارة ابنه في وطنه الاجنبي، وجاءني يسألني عن رأيي في تلك الزيارة، فقلت له اعتقد انه من واجبك ان تزور ابنك، من زوجتك الاجنبية، لكن اطلب منك ان تخفض سقف توقعاتك فانت لن تلتقي ابنك العائش في مخيالك. اندهش محدثي راسمًا على وجهه أكثر من علامة تعجب، فبادرت إلى القول: صحيح انك ستلتقي ابنك. لكنك ستلتقي في الآن ذاته شابًا اجنبيًا، غير ذلك الطفل الذي تركته وراءك قبل سنوات مديدة. بعد انتهاء رحلة ذلك الصديق وعودته إلينا هنا في بلادنا، ارسل نحوي نظرةً حافلة بألف معنى ومعنى وقال: ان ما قلته لي لم يبعد عن الواقع كثيرًا.
القصة الثانية: صديق آخر. تعرّفت إليه قبل اكثر من عشرين عامًا. وكنت طوال فترة تعرّفي عليه. اتردّد عليه بشكل شبه يومي. لأسباب تتعلق بالعمل، تغيرات الحياة وتبدلاتها التي لا بد منها كما ورد آنفًا، فرّقت بيننا الايام فانقطعتُ عن التردّد عليه مدة عشرين عامًا اخرى. هذا الصديق كان كلّما التقينا في هذا الشارع او تلك الساحة من اماكن مديتنا المشتركة الناصر. يستوقفني، ويرسل نحوي ألف نظرة ونظرة كلٌ منها يحمل معنى وحنينًا إلى ما كان يدور بيننا، هو وانا، من أحاديث الادب والفن والقرى المهجرة. علمًا اننا من المهجرين الفلسطينيين العائشين في غربة الوطن، وقد كنت استقبل نظراته بنظرات أخرى مماثلة، فلا اجد بعد البحث عمّا اقوله له، إلا ان اعده بانني سأزوره في القريب لنستأنف ما انبتّت اواصره بيننا من احاديث وذكريات. وعندما كنت اقترب من مكان لقاءاتنا السابقة.. كنت اسارع للنكوص على عقبي والعودة من حيث اتيت. والآن وانا اكتب هذه الكلمات، افكّر في سبب نكوصي ذاك فلا اجد سوى سبب واحد. لقد جرت مياه الزمن متدفقة غزيرة في مجراها النهري، فتسببت في تغير كل شيء. لقد كبر ابن صديقي الصغير وابتدأ في اخذ مكان والده. اما والده فقد اصبح شيخًا مسنًا. وإبتدات اضواؤه في الخبو رويدًا رويدًا. قبل اقل من شهرين رحل صديقي هذا عن عالمنا الموار بالحركة تاركًا وراءه اثرًا وصورةً اخرى للتغير. وقد ولّى الراحل تاركًا صفة الباقي لسواه من اهله، اصدقائه واحبائه.
القصة الثالثة: قرأتها منذ سنوات في كتاب "ناظم حكمت، المرأة السجن الحياة"، للكاتب الروائي السوري حنا مينة. وهو كتاب مثير جدًا، اقترح على من يبحث عن كتاب مختلف أن يقرأه. يدور محور هذه القصة في أن السلطات التركية سفّرت او نفت بالاحرى سجينها السياسي الشاعر الشيوعي ناظم حكمت إلى موسكو، موئل حُلمه ووطن افكاره، في محاولة للتخلّص منه ومما وجهه الرأي العام اليها من انتقادات ومطالبات بإطلاق سراحه. زوجة حكمت التي قضت سنوات سجنه في إسطنبول، زائرةّ دائمةّ له، تحمل إليه الكتاب تلو الكتاب، وترسل إليه الرسالة تلو الرسالة، وهو ما كان يفعله هو أيضا عندما يردُّ عليها مراسلًا اياها. منورة زوجة حكمت لحقت به إلى منفاه في موسكو للالتقاء به. إلا انها قرّرت عدم اللقاء به بعد كل تلك الاشواق وذلك الحنين، وعادت مستقلةً الطائرة إلى بلادها. فلماذا فعلت هذا؟ حنا مينة يُقدّم تحليلًا طريفًا وعميقًا في الآن: يقول إنها- منور- خشيت ان تلتقي رجلًا آخر، غيرَ شاعرِها الذي قضى في السجن التركي فترة طويلة من الزمن.
ماذا اريد أن اقول من هذا كله؟ لا جواب لدي جامعًا مانعًا، باتًا وقاطعا. كل ما يمكنني ان اقوله انه علينا ان نعيش اللحظةَ وان نتعمّق فيها معانقين إياها بصدق وعمق- التعبير لحنا مينة-، وان نغنم من الحاضر امن اليقين، كما قال فيلسوفُ الحكمة المتفائلة وناظمُ رباعياتها المذهلة الشاعر الفارسي عمر الخيّام.
***
ناجي ظاهر