أقلام ثقافية
مجيدة محمدي: النهر.. ما النهر؟
سألت، ما النهر ياجدي، أطرق هنيهة وقال، هو ذاكرة الأرض التي تنساب، خيطٌ شفيف من الحكايات التي لا تنتهي. هو المرآة التي تعكس أحلام الجبال، وتُعيد صياغة الكلمات التي همس بها الزمن في أذن الصخر. النهر ليس مجرد ماء، إنه نبض، عروق ممتدة في جسد الأرض، تحمل معها أسرار الطين، وآثار الأقدام التي مشَت ذات يومٍ بحثًا عن الخلاص.
هو العبور الذي لا يكتمل، حافةٌ بين البداية والنهاية. عند كل منعطفٍ، يكتب قصيدةً جديدة، مشوهة أحيانًا، كاملةً أحيانًا أخرى، لكنه لا يتوقف عن السرد. ينقل الحصى كرسائل غامضة، يحفر أخاديد كعلامات في جسد الأرض، ويجر وراءه صرخاتٍ مكتومة لسنواتٍ ضاعت في الضباب.
هو الشاهد على اللامرئي، حامل القصص التي لا يستطيع الزمن محوها. الماء فيه، شفافيته، ليست إلا وهمًا، حجابًا رقيقًا يخفي تحته تاريخًا من الصراع، من الحب، من الخيبات والانتصارات الصغيرة. هو الطفولة التي تنساب بين أصابعنا قبل أن نفقدها، والحياة التي تتسرّب من أيدينا ونحن نحاول أن نمسكها.
هو الرحلة. كل نقطة ماءٍ فيه كانت جزءًا من محيط، ثم غيمة، ثم دمعة، ثم ندىً على وردة، قبل أن تصير جزءًا من هذا التيار الجارف. يحمل في أعماقه ذاكرة التحوّل، درسًا في الفقد والعودة، في البداية التي تتولد من كل نهاية.
هو الصمت. هو حديث الطمي، وصخب الأمواج الصغيرة التي لا يسمعها سوى من يجلس على ضفافه متأملًا، وهناك في العمق، يتكرر صدى أغنياتٍ قديمة، ألحان خجولة اختبأت في مجرى الماء، حيث ما تبقى من أرواحٍ قديمةٍ عبرت، من حيواتٍ لم تكتمل، من أحلامٍ جُرفت في الطريق.
لكنه أيضًا متمرد. لا يسير في طريقٍ واحد. يلتف حول الصعاب، يخلق لنفسه منفذًا حيث لا منفذ، يتحدى الجمود بصبرٍ عنيد. ينكسر، لكنه لا يتوقف. يتراجع خطوة، ليعود بألف خطوة. في فيضانه، يُعلن أنه قادر على الهدم مثلما هو قادر على البناء.
هو، نحن، ونحن هو. كل قطرة فيه هي فكرةٌ كانت تبحث عن مسار، وكل تيارٍ هو عاطفةٌ كانت تبحث عن متنفس. نحمل فينا نفس التيارات، نفس الالتواءات، نفس الغضب الهادئ الذي ينهار على ضفافه. النهر، مثلنا، ليس له شكلٌ واحد، ليس له لونٌ واحد، ليس له صوتٌ واحد. لكنه في النهاية، دائمًا، يمضي.
***
مجيدة محمدي - شاعرة