أقلام ثقافية

علي الطائي: فيض الوجدان (1): طيبة القلب في عالم الفوضى الأخلاقية

في عصرٍ تتشابك فيه القيم وتتضارب المبادئ، تبرز طيبة القلب كضوءٍ خافت وسط عتمة الفوضى الأخلاقية. إنه زمنٌ غلبت فيه الأنانية على الإيثار، وانكسرت فيه الموازين بين ما هو حق وما هو باطل. وبين صخب هذا العالم، تقف طيبة القلب شاهدةً على نقاءٍ لم يتلوث، وصمودٍ لم يتزعزع أمام التيارات المتلاطمة.

طيبة القلب: هل هي ضعف أم قوة؟

كثيرًا ما تُوصَم طيبة القلب بالضعف في هذا الزمن الذي يحتفي بالقوة ويقدس الصلابة. يُنظر إلى صاحب القلب الطيب وكأنه تائه في عالمٍ لا يرحم، يتعرض للخداع والاستغلال، يُغتال فيه نقاء قلبه بيد من لا يقدرون قيمته. ولكن، أليس في التمسك بطيبة القلب قوة؟ أليس في الإصرار على الإحسان رغم كل الخذلان نصرٌ باهر للإنسانية؟

إن طيبة القلب ليست انكسارًا، بل تحدٍ لواقعٍ يحاول بشتى السبل أن يجرد الإنسان من إنسانيته. هي إعلانٌ صارخ بأن القيم النبيلة لا تزال قادرة على البقاء، حتى لو كانت وسط غابةٍ من الفوضى.

في زمنٍ تطغى فيه المصالح على المبادئ، تبدو طيبة القلب وكأنها أداةٌ عبثية في معركةٍ خاسرة. لكن الحقيقة أن هذا الزمن، بكل فوضاه الأخلاقية، هو الذي يُظهر جمال الطيبة وقيمتها. فالطيب يزرع الحب حيث يتفشى الكره، ويُضيء بصدقه ظلام النفاق، وينشر دفء الرحمة في صقيع الجفاء.

الفوضى الأخلاقية تكشف معادن الناس، وتظهر كيف أن القلب الطيب قادرٌ على أن يكون ملاذًا لأولئك الذين أرهقتهم قسوة العالم. إنه بمثابة البلسم للجراح التي تسببت بها القلوب الصلبة، والملاذ الآمن للنفوس التي ضلت طريقها.

صاحب القلب الطيب يعيش في صراع دائم بين واقعه الداخلي المليء بالصفاء، وواقعٍ خارجي مليء بالصخب والقسوة. كثيرًا ما يتساءل الطيب: هل أستمر في هذا الطريق؟ هل يستحق العالم كل هذا العطاء؟ لكن الإجابة الحقيقية تكمن في الطيبة ذاتها؛ فهي ليست أداة لتغيير العالم بقدر ما هي أداة للحفاظ على النقاء الإنساني.

طيبة القلب كفلسفة حياة

أن تكون طيب القلب في زمنٍ متوحش يعني أن تختار الطريق الأصعب، أن تسير ضد التيار وأنت مؤمنٌ بأن كل فعل خير، مهما كان صغيرًا، يترك أثرًا عميقًا. الطيبة ليست مجرد شعور عابر، بل هي فلسفة حياة تنبع من يقينٍ عميق بأن الخير لا يموت، وأن البذرة التي تُزرع اليوم ستنبت يومًا ما، حتى لو لم يرَ زارعها ثمارها.

طيبة القلب ليست ضعفًا، وليست استسلامًا للواقع، بل هي مقاومة حضارية، سلاحها الحب والعفو والإيثار. إنها القوة التي تقف أمام العاصفة وتُصر على البقاء نقية، حتى وإن سقطت أوراق كثيرة من شجرة الإنسانية. وفي النهاية، يظل القلب الطيب شاهدًا على أن النور، مهما كان خافتًا، قادرٌ على أن يبدد الظلام.

***

بقلم: د. علي الطائي

في المثقف اليوم