أقلام ثقافية

غريب دوحي: عيد راس السنة في بلاد الرافدين ووادي النيل

منذ القدم والشعوب تحتفل باعيادها الوطنية والقومية والدينية وكانت بلدان الشرق في طليعة الشعوب بهذه الاحتفالات كبلاد الرافدين وبلاد النيل والشام وقد ارتبطت هذه الاعياد بمظاهر الطبيعة كالفيضانات وخصوبة الارض وفصل الربيع حيث تقام طقوس احتفالية في بلاد سومر واكد وبابل واشور بمراسيم خاصة في بداية كل سنة.

لقد كانت اقامة مثل هذه الاحتفالات كل عام امراً ضرورياً وحيوياً من وجهة نظر الفرد في العصور القديمة لانه كان ينطلق من فهمه وتفسيره للظواهر الطبيعية والتي يعدها قوى خارقة غير منظورة لذلك اصبحت شيئاً مقدساً عليه اعادتها كل سنة لأنها تفسر له اسرار الكون واسرار خلق الانسان من قبل الهة غير مرئية ولهذا كان السومريون والبابليون يقيمون احتفال راس السنة حيث تجري خلال هذه الاحتفالات اعادة مسرحية واسطورة التكوين والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالخصوبة والتكاثر (بالنسبة للانسان والحيوان والنبات) وعلى النحو الذي جاءت به اسطورة تموز وعشيقته عشتار ويرمز تموز إلى الخصوبة والنمو بينما ترمز عشتار إلى الحب وكان ارتباطهما وزواجهما مقدساً يجب اعادته (اي اعادة تمثيله) في كل عام وفي فصل معين هو الربيع لما له من اهمية في ازدهار الطبيعة والنمو، وهكذا تعاد وقائع ذلك الزواج الالهي كل عام حين يقوم الكاهن الاعظم بتمثيل شخصية (تموز) بينما تقوم الكاهنة بدور الزوجة (عشتار) حيث يجري احتفال مهيب داخل المعبد يسميه قدماء العراقيين (الزواج المقدس) وقد كان هذا الزواج معروفاً لدى العراقيين (في حدود عام 2750 ق.م) وهكذا يقترن عيد راس السنة السومري والبابلي بمظاهر الطبيعة والزواج المقدس، وسبب هذا الاقتران ان السومريين والبابليين كانوا من الشعوب التي تعتمد اساساً على الزراعة والرعي وهي لذلك تهتم اهتماماً كبيراً بدورة الفصول وتعاقبها لذا فأن تجديد الطبيعة يتحتم وجود زواج مقدس وولادة جديدة وكان السومريون والبابليون يقدمون القرابين للمعابد في هذه المناسبة التي يجري الاحتفال بها في بداية شهر نيسان ولمدة سبعة ايام من 1-7 نيسان حيث الاعتدال الربيعي ويكون الاحتفال مصحوباً بالتراتيل الدينية والاناشيد والرقص الجماعي من شهر نيسان كونه موسم سقوط المطر وفيضان دجلة والفرات ونضج المحصول الزراعي التي تتم بعده عملية الحصاد، ولايزال سكان المناطق الريفية في وسط وجنوب العراق يعدون شهر نيسان (شهر الحصاد) وهذا معروف حتى في اهازيجهم الشعبية التي يرددونها اثناء وبعد الحصاد .

المعروف ان سكان بلاد الرافدين هم الذين بدأوا بممارسة الاحتفالات بعيد راس السنة غير ان المؤرخين والمهتمين بالتاريخ الفرعوني يرون عكس ذلك اي ان مصر هي التي لها قصب السبق في هذا الاحتفال، فقد ورد في احد اعداد مجلة الهلال المصرية مقالاً بعنوان (عيد راس السنة اخترعته مصر) بقلم الدكتور (سيد كريم) (ان مصر تحتفل بعيد رأس السنة قبل 7546 سنة اي قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي (5) الاف سنة ونصف واعتبرته عيداً دينياً وقومياً)

صحيح ان هناك تشابه بين البلدين في الطقوس والاحتفال حيث ربط المصريون عيد راس السنة بفيضان نهر النيل الذي يكون في فصل الصيف نظراً لسقوط الامطار وبكميات كبيرة على منابعه كما فعل العراقيون ايضاً، كما ان احتفالات المصريين تجري عادة في الشوارع والمعابد والساحات كمعبد الكرنك ويقوم المصريون بتزيين المنازل واعداد الزهور اثناء الاحتفال، كذلك كان البابليون يقيمون الاحتفال بالشوارع والمعابد والساحات وهناك شارع يسمى (شارع الموكب) في بابل وقد سمي بهذا الاسم لان مواكب الاحتفالات تمر عبر هذا الشارع وقد سمي ايضاً باسم (شارع المسيرة) وهكذا نجد التشابه واضحاً بين الحضارتين ولكن اي بلد منهما الاسبق فهذا اختلاف في اراء المؤرخين العراقيين والمصريين وكل منهما يدعو إلى العودة إلى الرقم الطينية بالنسبة للعراق والبرديات بالنسبة لمصر لتحديد الاسبقية في هذا الميدان، ويبدو من التفاصيل التي ذكرها الاستاذ المشار اليه في مجلة الهلال المصرية ان المصريين قد سبقوا العراقيين في هذا المضمار فيذكر الدكتور في مقالته قائلاً .. (مع بداية الدولة القديمة وخلال عصر الاهرام تحول الاحتفال بعيد راس السنة بجانب الاحتفال الديني والقومي الرسمي . كانت جميع طبقات الشعب المصري تشارك في الاحتفال به في المنتديات العامة والساحات والميادين والحدائق وداخل القصور مصحوبة بالاناشيد والرقص والاغاني والتراتيل الدينية والمساكن التي تزين بسعف النخيل والزهور والمشاعل التي تضاء مع غروب الشمس لتنير ارجاء المدينة طوال ليلة العيد. وكان القصر الملكي بفتح ابوابه لاستقبال الجماهير التي تأتي من جميع انحاء البلاد لتحية الفرعون فيغدق عليهم بالكثير من الهدايا والاوسمة على حكام الاقاليم ويعفو عن الكثير من السجناء (كما يحدث اليوم)، وكان المصريون في هذا العيد يزورون مقابر موتاهم وينشرون الزهور على قبورهم ويوزعون على حراس المقبرة (الفطائر) وماتزال هذه العادة موجودة في مصر حتى اليوم

ومن عادات المصريين في هذا اليوم عقد قران الزواج لكي تكون بداية حياة زوجية سعيدة وقد خصصت ساحات لعقد القران الجماعي باحتفال كبير تعزف فيه الموسيقى ويتم فيه الرقص الجماعي.

وبعد شروق شمس اليوم الجديد يوزع المصريون الفطائر المزينة بالفواكه الطازجة وخاصة زهرة اللوتس وتقدم الحلوى، كما يقدم المصريون في عيد (الكرسمس) (ديك الكرسمس) الذي يتصدر مائدة العيد او ما يسمى بالاوز البري وقد اقتبس الاوربيون هذا التقليد واستبدلوه بالديك الرومي. وقد ابتكر المصريون تقليداً اخر هو شرب عصير العنب الطازج كنخب للعام الجديد، وهكذا كان المصريون القدماء اول من شرب نخب العام الجديد ..).

كل الاماني لشعبنا العراقي النبيل بالامن والسلام لمناسبة العام الجديد .

***

غريب دوحي

في المثقف اليوم