أقلام ثقافية
توفيق التونچي: الكتابة فوق السحب البيضاء
محطة من دفتر الذاكرة
لا أغالي ان اعترفت، ان حبك هو الحياة، ان صبرك إكسير الحياة، وأن ضمك لي كل يوم يعيد لي الحياة.
سفرتي هذه في طريق العودة إلى وطني السويد من ساحل الشمس على متن الطائرة الإسكندنافية البيضاء ألهمتني الكتابة فوق السحاب وعلى علو شاهق بعيد عن الأرض ومشاكلها من حروب وخصام وبشر جاحدون وعلى صهوة هذا الجواد الحديدي. قارئي الكريم، الكتابة متعة غير اعتيادية خاصة على متن طائرة تجوب بينً الغيوم سابحة ففيها ترى الغيوم بأشكالها وألوانها متجمعة تحت هذا الغول المارد الحديدي التي يسمى طائرة نفاثة والتي تزن آلاف الأطنان وهي تطير كالطير وقد أفردت جناحيها فوق السحب عابرة القارات والمحيطات دون أي عايق أو مانع.
رغم أني أسافر مرات عدده كل عام ومنذ اكثر من نصف قرن فلا زلت أعاني من صعوبة النوم ليلة قبل السفر حيث استيقظ مرات عدده منً جراء حلم رأيت فيه نفسي باني تأخرت عن موعد السفر او حتى ضاع مني شيئا ما وطبعا مع مرور قطار العمر بدأ ذاكرتي القريبة تذبل كأنها ذاكرة الأسماك اليابانية البرتقالية حيث أنسى دوما شيئا ما في البيت رغم أني أحاول ان أفكر جبريا وحسابيا وأراجع كل صغيرة وكبيرة في قائمة أعددتها لهذا الغرض حيث اعد حقيبتي وأدقق وثائقي لكني اعترف لكم باني أنسى دوما احد التفاصيل الصغيرة. ولا اخبر الكثيرين بموعد سفري لان أم أطفالي تبقى قلقة لحين وصولي إلى البيت إلا أني أحبذ دوما ان يعرف احد الأبناء او الأصدقاء المقربون بموعد وصولي، فقط. ورغم أني لمً اكن ارغب بالسفر الآن وفي نهاية الخريف تاركا شمس الأندلس البديعة رغم انه موسم الشتاءً على الأبواب وآنذاك لا يتعدى فيه درجات الحرارة ١٧ مئوية ولا تصفر قط أوراق الأشجار بل تبقى خضراء طول العام في حين تنتشر أشجار البرتقال (النارنج)على طول شوارع مدن الأندلس الساحلية وفي غرناطة، قرطبة ، قاديس، المرية والعاصمة إشبيلية ومدن أخرى أقول بان بوادر البرد والأيام الداجية المظلمة في مدن القطب الشمالي تبدّا مع الخريف وتستمر إلى بدايات الربيع حيث يكون النهار قصيرا جدا والظلام الدامس يلف كل شيء والثلوج تغطي كل مكان وحتى الصقيع تنتشر في لياليها لكني أجبرت هذه المرة على السفر لأمرين او ثلاث بالأحرى الأول ابني البكر سيعقد قرانه في مدينة "مالمو " الساحلية والقريبة من مملكة الدنمارك التي تفصلها جسر طويل مع العاصمة كوبنهاغن الذي يصله الزائر بالقطار السريع في دقائق ويجب علي كوالد للعريس ان أحترم تراثي وأعرافي وانً احظر هذه المناسبة المهمة في حياة ابني على أمل ان لا تكرر والأمر الآخر ان امً الأولاد قد أجرت عملية جراحية يستوجب بقائي بجانبها ومساعدتها في أمور المنزل والتي أجيدها نتيجة حياة العزوبية التي طالت اكثر من عشر سنوات.
الأمر الثالث مرتبط بالتطورات السياسية في هذه المملكة والتي بدأت بوادرها منذ سنوات مع صعود وتيرة المنادين بالقومية وبالصفاء العرقي وما يسمى ب النارية الجديدة في السياسة ومحور سياستهم الشعبية تتمركز في العداء لكل اجنبي ولاجئ جاءهم من الشرق. ووصولهم كقوة سياسية عنً طريق الانتخابات أعطى لهم زخما كبيرا ووصلوا إلى تبوء مقاعد في برلمانات دولهم وفي برلمان الاتحاد الأوربي كذلكً. مع وصولهم إلى مواقع القرار في معظم دول الاتحاد الأوربي ومع الأسف كنتيجة مباشرة لتدفق اللاجئين من دول الشرق الحزينة ودور الإعلام في نشر سلوكهم السلبي والجنائي وعدم ملائمتهم لشروط الحياة في الغرب وثقافاتها وأعرافها وما اصطلح بتسميته ب "الصدمة الثقافية" والتي كانت احد اهم أسبابها ارتفاع التوجهات الدينية والاجتماعية والتقوقع حيث أسلوب الحياة الدينية التي فرضت على تلك المجتمعات حتى إذا علمنا ان معظم الدول الأوربية علمانية التوجه ولا تعترف حتى بالدين الإسلامي كدين رسمي على أراضيها بل تترك الشخص حرا في أجراء عباداته وشعائره فلا نجد مثلا دولة أوربية يكون فيها مثلا يوم الجمعة عطلة رسمية . هذا الخط العدائي الذي بدأ يبرز كل يومً اكثر وأكثر وحتى في سنً القوانينً واتخذ قرارات المنع بأنواعه شمل حتى المتقاعدين اللذين أقاموا طول حياتهم في هذه البلاد وأرادوا تحقيق حلمهم الأخيرة في ان يكون خاتمة أيامهم في وطنهم الأم. لكن التغيرات الجديدة التي جاءت مع السياسة التي تتبعها حزب الديمقراطيين السويديين القومية والسلبيةً وانعكاس تلك السياسة على إداء جميع الأحزاب السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف وعلى قوانين وقرارات الحكومة أدى إلى منعهم من البقاء لفترات طويلة خارج المملكة على أساس حصولهم على مساعدات من الدولة قد يستغلها البعض وحدد مدة الإقامة ان لا يزيد ذلك عن ثلاث اشهر. هذا السلاح الجديد الرقابي القسري الذي استخدم في أنظمة غير ديمقراطية من قبل يؤثر سلبا حتى على ملاين من أبناء الوطن الأصليين من المتقاعدين السويديين اللذين اختاروا العيش في دول أجوائها حارة وملائمة لأعمارهم بعد ان شاب المشيب وأدوا واجبهم تجاه وطنهم الأم. الجدير بالذكر ان راتب الشعبي الذي يتقاضاه المتقاعد لا يكفي لدفع إيجار البيت مما يؤدي إلى العيش على معونات الدولة ولا ريب ان العديد من القوانين التي سنت في السنوات الأخيرة تحول المجتمع خطوة بخطوة إلى مخبرين من موظفين دولة يجبرون على إخبار عن وجود المهاجرين الغير شرعيين في البلاد والتبليغ عن هؤلاء ممن رفض طلبات لجوئهم وكذلك الشهادة المجهولة والتي ستؤثر سلبا على عدالة قرارات المحكمة حيث لا يمكن معرفة هوية الشاهد وقد تكون كيدية و بعد ان شدد العمل بالتعليمات الخاصة بالهجرة في البلاد مع العلم بان مئات الألوف من المواطنين اذو الأصول السويدية يهاجرون ويتركون البلاد والولادات منخفضة جدا. في زيارتي الأخيرة وانا اهم بالخروج من قاعة مجيئ الحقائب وقفتني احدى الشرطيات لتسألني؛
- منذ متى وأنتم خارج السويد؟
كانت الصدمة بالنسبة لي شديدة لأني عملت بإخلاص ٣٥ عاما ودفعت الضرائب واحترمت قوانين البلد…. كل عام ولم أتوقع ان اسأل وأنا تجاوزت السبعين هذا السؤل فتلعثمت في الإجابة فطلب مني التنحي جانبا ودخول احد الغرف شعرت كأني مجرم وجاني عمل جريمة بسفره للاستجمام خارج مملكة السويد
ولا يوجد داعي انً اكمل تجربتي الحزينة تلك….
وقد حصل نفس السيناريو مع اخي عند عودته في مطار ستوكهولم. استوقفني هذه المرة وأنا عاود من الأندلس إلى وطني في القطب الشمالي مملكة السويد وأنا جالس في الطاولة احرف ثلاث تدل علىً شركة الخطوط الجوية الإسكندنافية التي تنتمي اليها الطائرة في سفرتي هذه والتي ستستغرق أربع ساعات أي احرف SAS وصولا إلى العاصمة استوكهولم ومن ثم استقل طائرة أخرى إلى مدينة غوتنبرغ حيث ينتظرني سفرة أخرى إلى مدينتي حيث بيتي مدينتي الجميلة يونشولنك وهي ميناء تقع على الضفة الجنوبية من بحيرة فترن الكبيرة والتي تمتد مسافة ١٦٠ كمً شمالا وتعتبر اكبر خزان لمياه الشرب النقي في اوربا حيث يمنع إنشاء المعامل والمصانع على ضفافها وترتبط من الشمال ببحر بلطيق عن طريق قناة مائي يعتبر قبلة للسواح لجمال الأماكن التي يمر فيها السفن الشراعية واليختات الشخصية وتسمى ( يوتا قنال ) ورغم تفاوت ارتفاع الأراضي التي تمر منها القناة فقد عولج ذلك عنً طريق بناء أحواض مائية ترفع اوً تنكس السفن والقوارب واليختات المارة منها ذهابا وإيابا. وقد استغلت شركات صناعة الأفلام السينمائية هذا القناة لتصوير العديد من الأفلام السينمائية.
الخط الزمني الفاصل بين خيال ذلك الكاتب في ألف ليلة وليلة الذي تخيل الغول الذي يخرج من المصباح يطير وعلى ظهره جلس علاء الدين وبين هذه الطائرة التي اجلس فيها واكتب كلماتي هذه ، شاسع والتجربة خيالية الطيران بحد ذاته نراه في مسارها التاريخيّ حلما تكرر . حيث نرى في معظم الحضارات القديمة أن البشر حلموا بالطيران وحتى تخيلوا ان لبعض الحيوانات أجنحة تمكنها بالطيران كالثور والحصان وحتى الفيل وحيوانات أخرى ناهيك عن أنهم تصوروا بان هناك بشر على شكل الله لهمً أجنحة كذلك. لم يتخيل أجدادي باني يوما سأركب هذا الحصان الحديدي وعلى صوت هدير محركاتها اكتب هذه الكلمات لكم باطمئنان وارى قمارة الطائرة وقد جلست وراء مقود القيادة فتاة شقراء جميلة ذكرت اسمها "انجلينا" أي الملاك بالترجمة العربية تحدثت بالإنكليزية ومن ثم باللغة السويدية بنبرات تطرب السامع وهي تتحدث للمسافرين عن برنامج الرحلة وتقدم طاقم الطائرة بأسمائهم في حين تدور حوريتان بأباريق من الشاي والقهوة ، اللتان تقدمان مجاناً ، حول المسافرين وعلى محياهن ابتسامة وبريق ازرق مائل إلى الرمادي في أعينهن وذاك قلما نجده ونحن نتجول في شوارع مدن الشرق مع الاعتذار ل الشاعر جرير والقائل :
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
اعتذرت متأسفة الشقراء، قائدة الطائرة لاحقا من المسافرين عن طريق البث راديو الداخلي لأنها ستتأخر في الهبوط من موعدها المحدد بخمسة دقائق لأننا في واقع الحال بدأنا الرحلة متأخرين من موعد إقلاع الطائرة بقليل ما يلفت النظر في الرحلات بالطائرة وجود مسافرين قلقين، مرتبكين وربما خائفين ، نتيجة مشاهدتهم للأفلام السينمائية حيث موضوع المحبب لمخرجين الكوارث والحروب والقتل وطبعا الجنس، هؤلاء المرتبكين من المسافرين تراهم دوما يحاولون ان يكونوا بين اوائل من يتدافعون يقفون في اول الطابور قبل الإذن لهم بدخول الممرات المؤدية إلى باب الطائرة (الخرطوم) وحال وصولهم إلى باب الطائرة لاعتلائها تراهم يتزاحمون وكذلك يفعلون عند هبوط الطائرة هم اول من يقومون من مقاعدهم و بسرعة حتى قبل الإعلان كابتن الطائرة عن إطفاء المحركات وتوقفها الكامل وهؤلاء هم انفسهم الذين بسببهم تتأخر الرحلات ويتأخر بذلك ركوب الركاب الأخرين لأن هؤلاء لا يجدون حتى مقاعدهم ولديهم دوما أغراض كثيرة يعيقون مسار الركاب غالقين الممر الضيق لسير الركاب لإيجاد مقاعدهم ووضع حاجاتهم في الأماكن المخصصة أي الدواليب العالية ومن إيجاد مقاعدهم . وربما انتم بنفسكم قد لاحظتم ذلك في أسفاركم إلى الخارج. كما في السفر بالطائرة تحصل دوما تأخير وطبعا حصل معنا نفس الشيء عند هبوطنا في العاصمة حيث تأخرت الطائرة الثانية ساعة كاملة عن الإقلاع مما أدى ذلك إلى تأخري على باص مدينتي والذي في العادة تسير مرتين فقط في اليوم بين المطار ومدينتي التي أقيم فيها منذ ٣٦ عاما. والتي تبعد حوالي ١٤٠ كم من المطار ومع كل التعب والجوع أقول الجوع لأني عادة لا آكل أبدا من الطعام المقدم في الطائرات ليس لأنه غالي الثمن، بل لأنه بدون طعم ومليء بالمواد الحافظة وكمياتها قليلة جدا لا تشبع المسافر في السفرات الطويلة، بل اشرب القهوة وهي معالجة كذلك كي تكون صالحة في ظروف السفر بالطائرات.
اتصلت مرغما بابني الصغير ورجوته ان يأتي إلى المطار ولأنه يعمل في دورية المسائية وعدني ان يأتي لاصطحابي إلى بيتي حال انتهاء عمله. أجواء السفر تظهر دوما سلوكيات البشر حيث نرى ركاب ساحلي الوجه من الهائمين وآخرين صامتين بينما نجد نساء يثرثرن طوال مدة السفرة ودون انقطاع وهناك دوما من يريد ان يكون العدول من يدخل إلى غرفة التواليت الصغيرة جدا وترهم يتزاحمون في طابور على نيل شرف دخولها قبل الآخرين وحتى حينما تكون الطائرة لا تزال جاثمة على الأرض على المدرج. اماً أنا فأعاني دوما من تشنجات عضلية والآلام في رقبتي وظهري يعيق جلوسي في مقعدي الوفير وغالبا لا أقوم من مكاني في رحلاتي واشرب فنجان من القهوةً تلو الأخرى ولا أستسيغ أكل في الطائرة ولا أحبذ النوم لذا تراني الآن اكتب لكمً هذهً السطور. أبناء الدول الإسكندنافية بصورة عامة والشباب منهم بصورة خاصة حين يسافرون إلى دول للتصييف تراهم يبداون باحتساء الخمر حال وصولهم داخل الطائرة ولا يضيعون الوقت في أي شي آخر كأنهم في سباق للشرب لا ينتهي إلا داخل الطائرة وهم في طريق العودة إلى ديارهم ولا ادري ماذا يفهمون من السفر التي تبدأ بسكر وتنتهي بسفر. خاصة في السفرات السياحية (چارتر) حيث يكون المرء قد حجز كل شيء مقدماً ودفعً قيمتها مقدما. في هذه المحطة تصل الطائرة إلى احد اكبر مدن السويد واعني گ وتابورك أي قلعة الگوتيين وهي ميناء كنت قد عملت فيها لفترة قصيرة قبل ٣٥ عاما سآتي إلى تفاصيلها في حديثي عنً تلك الأيام وهنا استقبلني ابني الشاب "قيصر " وعانقني ورجعنا معا الىً مدينتنا التي تبعد حوالي ١٤٠ كم من المطار. دار حديثنا طول الطريق حول التغيرات التي طرأت في المجتمع السويدي في الأعوام الأخيرة وعن ما قدمته أنا بنفسي لمدينتي وكيف أردت ان اتركً ارثا لأحفادي وما أهمية هذا الإرث لعدم وجود جذور لنا في وطننا الجديد مملكة السويد.
***
د. توفيق رفيق التونچي
على متن الطائرة "ساس" في رحلتها المرقمة Sk1584, SK165: 2024