أقلام ثقافية
أحمد مولاي صابر: حفيف النخيل (3): وريد الواحة
عند ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ينبئ باتساع نور الصباح، وبزوال آخر خيوط ظلمة الليل، يفتح البوَّاب الباب الرئيسي للقصبة، ويشغل نفسه بتثبيت دفة الباب الكبيرة الحجم، ساعيا في كبح حركتها، بسحب الحَجرة الكبيرة الحجم الجاثمة بالقرب منه، ووضعها على الأرض مقابل الباب، ليتسمر على الحائط ويلتصق به، وقد اعتاد البوَّاب في الأيام السابقة، بعد أن يتنسم هواء الصباح العليل الممزوج برائحة أوراق الشجر، أن تقع نظرته الأولى إلى الخارج من كل صباح على الأغصان الخضراء المتدلية من جهة الطرف الأيمن للساحة المقابلة للباب، لشجرة التِّين الأصفر، لكن هذه المرة لم يبصر البوَّاب الأوراق الخضرا، وقد وقع بصره على أغصان وعيدان ممتدة إلى السماء، تتخللها وريقات قليلة العدد، وتبعث في النفس حالة من الشفقة نتيجة يتمها من بعد فقدان أوراقها التي تكسوها وتغطيها وتحجب عورتها، والذي يزيد الأمر شفقة هو ذلك اللون الرمادي لأغصان شجرة التين، كأنها تبكي فراق زينة أوراقها الخضراء.
عندما تفقد البوّاب المكان ببصره بالقرب من أسفل الشجرة، وقعت عينه على كومة متسعة من أوراق شجرة التين التي ملأت المكان، وقد أخذتها هبوب الرياح وبعثرتها في وسط الساحة، بالقرب من الباب الذي لازال البوَّاب يمسك بإحدى دفتيه... وبعدها بقليل أخذ مكنسة المصنوعة من الجريد وانخرط لوحده في عملية سَحْل أوراق الخريف ودفعها وتجميعها في اتجاه أحد الزوايا التي يلتقي فيها سور الساحة بأحد أبراج القصبة القريب من الباب الرئيسي.
قبل أن تطل الشمس بخيوطها الذهبية على عين المكان، وهي تعلن يوما جديدا من أيام الواحة، تجمَّع فئة من الكهول والشباب، وقد تسللوا إلى وسط الساحة، من داخل القصبة ومن خارجها، ومعاولهم على أحد أكتافهم، ومنهم من يحمل الفأس بدل المعول، فالفؤوس للحفر واقتلاع الأحجار، والمعاول لسحب التراب، البعض منهم يحمل قفة صغيرة أو وعاء صغيرا، يخبئ بداخله وجبة طعام فطوره وغذائه، عند وصول كل فرد منهم، يسحب المعول من أعلى كتفك، ويلقى به على الأرض ويده متشبثة، بالنصف العلوي من مقبض اليد الخشبية للمعول أو الفأس، ها هم الآن على شكل دائرة يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، ويحيي بعضهم البعض الآخر، يا ترى أية مهمة هذه تستعد من أجلها الجماعة، إنها المهمة السنوية من كل فصل من فصول الخريف، مهمة سحب الأتربة من قعر الساقية الكبيرة للواحة، التي تطل عليها القصبة من أعلى الربوة منذ زمن بعيد، سحب الأتربة من قعر الساقية يجعلها تجرف من الماء ما يكفي لارتواء الواحة، وكذلك هو الأمر في مختلف أرجاء الواحات، فعندما يحل فصل الخريف يعني الاستعداد للحرت، حرت الزرع والذرة والخضروات من لفت وجزر...
بعد لحظات تفرقت الجماعة إلى جماعات صغيرة ما بين ستة وأربعة أفراد، وإذا برجل طويل القامة ذو بنية جسدية متينة، يرتدي جلبابا أسود اللون وعمامته مكورة على رأسه، يتوسط رجلين، إنه "مُقدم الساقية" الرجل الذي أوكلت له القبيلة وفق أعراف متوارثة مهمة شؤون العناية بالساقية الكبيرة، الوريد الذي يسقى الواحة بما فيها من الكائنات، وبدونها تصبح الحياة فيها شبه مستحيلة، عند وصول الرجل، خفَّت أصوات الجماعة، وقد فهم الجميع أن وصوله يعني الاتجاه نحو الهدف المنشود، وهو المكان المخصص للحفر أو لترميم أحد جنبات الساقية التي يبلغ طولها أربعة كلومترات من النقطة التي تجلب منها الماء من النهر إلى أول نقطة تسكب فيها مياهها في جوف الواحة، كانت توجيهات "لمُقدم" هذا اليوم توجيهات صارمة، وقد قسم الحاضرين إلى قسمين وعلى رأس كل قسم من ينوب عن المقدم في مهامه، بعد أن حدق في الجميع وتبادل أطراف الحديث مع البعض...ها هو الآن يشير بأصبعه إلى فلان ابن فلان... وإلى فلان...اقتربوا إلى هذا الجانب، وقد منح الخيار للبعض أن يختار أي قسم لينضم إليه... ها هو يرسل القسم الذي يضم العدد القليل من الرجال نحو منبع رأس الساقية، لجمع الأحجار من قعر النهر بهدف تدعيم وترميم الحاجز الحجري الذي يربط ما بين ضفتي النهر، ويمنح فرصة تدفق الماء نحو الساقية.
أما القسم الآخر من الرجال والذي يضم الرجال الأفذاذ وهو أعلم بهم وبقدراتهم، وبخبرتهم وتجربتهم... فأمرهم أن يتوجهوا نحو الجزء الأوسط من جنبات الساقية وهو الجزء الذي يكلف الكثير من الجهد والوقت، لكونه قابل التحلل بين الحين والآخر، نتيجة تموضعه في مساحة رملية منبسطة، ومنحدرة في اتجاه النهر، وهذه كلها عوامل جعلت من هذا الموضع لجانب الساقية سريع الانحلال والانجراف، إما بسبب قوة تدفق الماء وسط الساقية، مما يسبب في تحلله، أو بفعل اقتراب ماء النهر منه مما يسبب في انجرافه، ففي حالة انجراف أو انحلال بعض منه، ينسكب ماء الساقية في النهر مرة أخرى، ويبقى جوف الواحة في انتظار... والغريب أن النهر أحيانا يكون ممتلئ بالماء ووريد ساقية الواحة منقطع نتيجة انجراف بعض من جنباته... حينها ينادي المنادي من بعد أذان المغرب (لا إله إلا الله، ستسمعون خيرا يا عباد الله، يا رجال الله، يا من عليه الصيام واجب، غدا صباحا موعدنا بالساقية) إنها حالة من التأهب القصوى التي تجعل أهل القصبة يتركون كل خلافاتهم جانبا وينخرطون في عمل جماعي من أجل الجميع جميع الناس وجميع الكائنات.
بعد أن انصرفت جماعة الرجال إلى الهدف المنشود، فمنهم المترجل ومنهم صاحب الدابة...وهي فرصة لكثير منهم للقيل والقال والحكي، ومنهم من يجدها فرصة للزجل وترديد المواويل.... بقي المقدم بصحبة الرجلان اللذان اصطحبهم معه عند مجيئه يتجاذبان أطراف الحديث، حول ما أثار انتباههم من وضع وأحوال الرجال الذين انصرفوا إلى مهامهم قبل قليل، فمنهم من هو مقبل ويمتلكه الحماس، ومنهم من يظهر عليه نوع من التردد الغير المبرر... الآن بدأت أشعة الشمس تتسلل إلى وسط الساحة، وهي تطارد ظل أسوار القصبة، وإذا بالرجل وأصحابه يقصدون بقية الظل تحت السور الخارجي لساحة القصبة، وهو ظل قصير المسافة بقصر السور، وقبل أن يجلس المقدم على الأرض لمحت عينه خيطا من النمل في حركة ذهاب وإياب وبالقرب منه ثلاثة نملات تساعد نملة على ما يبدوا أنها كسرت أحد أرجلها ولم تقوى على المسير، وهو مشهد يثير الدهشة في النفس ويلفت النظر لأهمية العمل بجد...
لم يستسغ المقدم الجلوس وإذا به يطلب دابته... ليلحق بالجماعة التي كلفها بمهمة ترميم الجزء الأوسط من جنبات الساقية، عند وصوله وجد البعض من الرجال لم ينهوا فطورهم وقد تفرقوا إلى جماعات صغيرة ما بين الثلاثة والستة أفراد، تحت ظل هذه الشجرة أو تلك، و الكثير منهم قد أعد الإبريق الصغير من الشاي... البعض منهم يدعوه ليشاركهم فطورهم وكأس الشاي... اعتذر من بعضهم وقد استجاب للبعض الآخر...وبحضوره ازدادت هِمَّة الرجال... أما الذين انهوا فطورهم فقد انخرطوا في ترميم جنبات الساقية، وقد التحق بهم المقدم ليشير عليهم بما يمكن القيام به أولا بأول... وهو يمسك عصا طويلة من مترين، عندما رآه الرجال بينهم بالوسط من قعر الساقية، ظن بعضهم أنه سيعتمد وحدة القياس في توزيع العمل، لأن كل فرد من الرجال يمثل أسرته والأربعة أو الخمسة يمثلون عشيرة من أبناء العمومة، وكل أسرة أو عشيرة، تملك وقت محدد يطول أو يقصر، يتم التناوب من خلاله على دورة ماء الساقية وهي دورة تكتمل على مدار فترة زمنية معية، في الغالب لا تتجاوز ما يقرب شهر، إذ يكون مالك الماء فيها لساعة أو أكثر سيد الموقف، فإما يدفع الماء نحو حقوله أو يجود به على من له علاقة صداقة به، أما في الأيام التي يكون فيها الماء فائض عن الحاجة إليه، فلا فائدة في التناوب عليه، والمقابل لما تملكه العشيرة الواحدة من الفترة الزمنية محدد لماء الساقية على مدار فترة التناوب، هو ما يجب عليها أن تزيل من أتربة من قعر الساقية، في الوقت المخصص سنويا لحفر الساقية وتنظيفها من مختلف الرواسب، وما علق بها من جريد وسعف النخيل، ولهذا كثيرا ما يلجأ المقدم إلى وحدة القياس، وينادي المنادي ثلاثة عصي لعشيرة أبناء فلان...أربعة ونصف لعشيرة أبناء فلان...وهكذا، الكل ملزم أن يزيل ما يستوجب من إزالة التراب الذي يملئ قعر الساقية نتيجة الرياح التي تفاجئ الجميع أحيانا بردم جزء كبير من الساقية بالرغم شكلها المقعَّر... لكن هذه المرة ترك المقدم وحدة القياس جانبا واعتمد على الانخراط الجماعي من أجل الهدف المنشود...
قضى الرجال يومهم في العمل وقد أفلحوا في ترميم جزء مهم من حافة الساقية المحاذية للنهر، جلهم ملتف بمأزر الصوف، الذي يلف على الجسد من صرة الجسم إلى الركبتين، النصف العلوي لأجساد البعض منهم يبدوا نحيفا، خاصة لمن هو طويل القامة، فالجسد النحيف يساعد صاحبه، وهو ينحني ويتمدد بعيدا تاركا المعول ليسحب معه التراب الممزوج بالرمل والماء، وهو يسحبه إليه بحرفية عالية، وبعدها يدفع به إلى أعلى جنبات حافة الساقية، وقد تحولت إلى حافة ذات علو يفوق ثلاثة أمتار وعرض بقاعة ثلاثة أمتار، الرجال من فوقها وعلى جنباتها مثل النمل، البعض منهم يدك التراب بأرجله من أعلى سطحها وهو سطح يسمح بالجري من فوقه لاتساعه وصلابة تحمله... كثيرة هي الأشعار التي رددها الرجال، وكثيرة هي الحكايات التي تولى بعضهم حكايتها... كل ذلك من أجل تخفيف حالة العناء والتعب التي هم عليها... وقد قطعوا على أنفسهم أن لا يتوقفوا عن العمل حتى ينهوا ما هم مقبلون عليه، فموسم الحرت يطاردهم فهو على الأبواب.
مآزر الرجال تبدوا مبللة كأنهم استحموا في النهر، بفعل العرق الذي يتصبب من، النصف العلوي من أجسادهم... مع أذان العصر وجدوا أنفسهم أنهوا مهمة هذا اليوم، وإذا بهم يختمون دورة عمل اليوم بالصلاة الجماعية على الرسول بصوت جماعي يسمع من بعيد،(والله مصلى عليك يا رسول الله، يا جاه النبي، الشفاعة لمولاي محمد الحبيب ) وهم يعتقدون ويسلمون، بأن الصلاة على النبي عون وإعانة لهم، والغريب في الأمر أنك تجد من يسلم جازما أن الرسول معهم في عملهم هذا، فهو يراهم وهم لا يرونه، ودليله في ذلك، أن الرسول يكون حاضرا في كل عمل من شأنه، صرف الماء بهدف سقي مختلف الكائنات... ومنهم من يرى في الساقية بأنها ترمز لحوض النبي الذي يتمنى الجميع أن يرتوي منه، الساقية إذن تروي الجميع، فهي حوضه في الدنيا قبل الآخرة.
اتجه الرجال ذووا المآزر نحو النهر وقد تشتتوا في كل مكان على طول النهر، وقد انغمسوا في مياهه قصد الاستحمام، وإزالة ما علق بأجسادهم من عرق ممزوج بالتراب، البعض منهم لا يرى البعض الآخر، إذ تحجبهم شجيرات "الفرسيغ" والقصب وشجيرات الدفلة ذات الأزهار بيضاء ووردية اللون... البعض منهم استرخى ملتقيا على ظهره، على جانب النهر، لوقت قليل، والبعض منهم انشغل بإعداد إبريق الشاي وتدفئة رغيف خبز الشحمة المخبأ في المزود لسد رمق الجوع، الذي طارده الجميع بين الحين والآخر بحبات التمر وغرف الماء من النهر... وبعدها عاد الرجال تباعا والشمس في نهاية رحلتها اليومية نحو الغروب.
...يتبع...
***
د. أحمد مولاي صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.