أقلام ثقافية

علي الجنابي: أعيَيْتُ وعَيَيْتُ

(هذي خَاطِرةٌ خَاطِفةٌ عَابِرَة، وعُيوبُها على كاتِبِها دابِرةٌ ودَائِرَة).

قد نَصَحَني غيرُ واحدٍ مُحتَرمٌ مُعتَبرٌ وبحَرفٍ وفيٍّ نَصُوحٍ؛ إن كنتَ للأضواءِ مَيَّالاً بجِنوح، وذا هوىً لأفيائِها سَيَّالاً بطَموح، فلكَ أن تَكفرَ بالتَّقوقعِ وتَفرَّ من حالكِ تَموضعِ مَقبوحِ. وأن تَنفرَ الى أماسيِّ أدبيةٍ في ملتقىً ومُنتدىً مَفتُوح، وتَنثرَ ذرفكَ هنالكَ بلاهِبٍ مِن لَهيبٍ جَمُوح، كراهبٍ من رَهيبِ ما يَخطُّهُ حَرفُكَ السَّمُوح. فعَسى ما لديكَ مِن لبيبِ نضحٍ نضُوحٍ، أن ينالَ استِحسانَ ناقدٍ مادحٍ بمدحٍ مَحمودٍ مَمدُوح. وهكذا نُصحُ النَّاصحِ كانَ خفيةً غير مَصدوح. فَرَدَدتُ عليهِ شاكراً بكلمٍ مُمتنٍّ صَبوح:

لا ناقةَ لي يا ذا عزٍّ في تَهي أماسيِّ سَقيمٌ حرفُها بَحُوحٌ، ولو تَرى إذ هيَ في كلِّ شيءٍ عَليمةٌ وبهِ تَنوحُ، إلّا في بيانِ الضَّادِ وجَمالِ مافي عَنانهِ من صُروح فهيَ عقيمةٌ وبهِ لا تَفوح. ولو ترى إذِ نَواديَ الضّادِ  بَهيمةٌ وعنهُ مُتَغرِّبَةٌ ومِنهُ مُتسرِّبةٌ كسُوح، ولبيانٍ سواهُ مُتحَزِّبَةٌ وبهِ مُتَحزِّمَةٌ بوضُوح. أوَلم تراها كيفَ إنًّها صَوبَ شِعرِ "الهايكو" لاهثةٌ ولم تزلْ تَشتَهيَ لهُ أن تغدوَ ولحرفهِ تلوح. فأمسَتِ الأمسياتُ غُرابَ بينٍ ناعقٍ أضاعَ المَشيَتينِ ذهاباً وحينَ يَروح.

ثمَّ مَن لهُ طاقةً -ياذا حِجْر- في إنصاتٍ لأدبٍ مَسطوح، ويَصرُّ بريحِ لَغوٍ مَلفُوح، ويَجرُّ على مَسمعِهِ بشَذرٍ مَذرٍ مَسفُوح، مابينَ شعرٍّ يَزعُمونَ أنّهُ حُرٌّ، ونثرٍ يَخرُّ بالهَذِّ، ويَدرُّ لبَنَ بَقرٍ غيرِ مَنكوح. بقرٍ لا يدري ما البيانُ بل من جنانِ البيانِ يَفرُّ مُتَثاقلاً بنزُوح.

رحمَ اللهُ ﷻ"الفَراءَ" إذ حدَّثنا عن "الكسائي" فقال: [تَعَلَّمَ الكسائي النحو على كِبر، لأنه جاء الى قوم وقد أعيا، فقال عَيِيتُ، فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن؟ قال: كيف لحنت؟ قالوا له: إن كنت أردت من التعب فقل: أعييتُ، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل: عييتُ، فأنفَ من ذلك، وقام من فوره فسأل عمن يُعلم النحو ، فدُل على معاذ الفراء، فلزمه ثم خرج الى البصرة فلقى الخليل ثم خرج الى بادية الحجاز] .

ثمَّ رحمَ اللهُ ﷻ العَبقريَّ"عباسَ العَقَّاد"الفَذَّ الفهيمَ النَّصوح، إذ نزعَ عن"طه حسين"وجوقَةٍ معهُ لحوحٍ، ولاهِثَةٍ نحوَ تَقليدٍ غَربيٍّ بجِمُوح، فنزعَ عنهم لباسَ أدبٍ أغبرٍ أبترٍ أعورٍ نَطُوح، فكانَ عاقبةُ العقَّادَ أن غضبَتِ الجوقةُ عليهِ ومعها إعلامُ الحُكَّامِ بتَغافلٍ مُتعمَّدٍ وبتَجاهلٍ مَفضوح، وأعصَبَتْ رأسَ"طه"بلقبِ "عَميدِ الأدبِ العربيِّ"، فانتصبَ"طه"مُصدِّقاً أنَّه هوَ العَميدُ السَّديدُ المَرجُوح. ثمَّ باركَ اللهُ تعالى في عُمُرِ العلّامةِ "فاضلَ السَّامرائيّ" إذ يقولُ بوضوح؛ "نحنُ اليومَ لا نَتكلَّمُ العَربيَّةَ ولا نفهمُ منها شَيئا"إلّا نَبحٍ مَنبُوح.

ثمَّ إنّي ما خطَطتُ هِذِي الخَاطرةَ إلّا بقلمٍ ذي قُرُوح، ومن وراءِ ألمٍ من مهرجاناتِ أدبيةٍ قبيحٌ ذرفُها، كسيحُ صَرفُها لكنهُ للعَوامِ غيرُ مَفضُوح. عَوامٍ  لا تَدري ما الفَصَاحةُ ولا البَلاغةُ من ذَوي لسانٍ أهوجٍ أعوجٍ بقُروح.

وإذاً فأنا -يا ذا عزٍّ - لا ناقةَ لي في رَحْلِ أهْلِ ضَادٍ جهابِذةٍ في كلِّ شيءٍ مُفَلطحٍ مَطرُوح، إلّا في جمالِ بَيانِ الضَّادِ وكَمالِ مافي عَنانهِ من صُروح. ألا فبُعداً لذا أدَبٍ في ذا دهرٍ كلُّ تَفهٍ وسَفهٍ فيهِ مَسمُوح، وتَعِسَ القَائلُ ولبئسَ المَقالُ الطَّافحُ من زفرةِ الأبطِ لا مِنَ نفرةِ الرُّوح.

***

علي الجنابي

مهرجان الجواهري في دورته الخامسة عشرة.

 

في المثقف اليوم