أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (15): البقرة وقلادة أصداف البحر

بانفلاق الصبح، نهضت حادَّة في هذا الوقت المبكر، من فراش نومها من أعلى سطح دارها القريبة من مسجد القصبة، إيقاع القراءة الجماعية المنبعثة من سطح المسجد، تجعلها حينا تسترخي لوقت قليل وهي مستلقية في فراشها، قليلة هي الكلمات والآيات التي تفهم المراد منها.. لكن جمالية إيقاع القراءة وتناغم الأصوات فيما بينها، تجعلها تشعر بصوت يناديها من الداخل، ما تسمعينه هو خطاب موجه إليك، وهو أمر يجعلها تتيع جيدا وبعناية لعلها تظفر بفهم، بعض مما تسمع.. تحاول المرة تلوى الأخرى.. في الأخير تجد نفسها لا تفهم إلا كلمات متناثرة، متداولة بين الناس طيلة حياتهم، من بينها: الله، الكريم، الرحمن، الرحيم، السلام .. محمد، موسى، عيسى..  التين، الزيتون، طلح، سدر النخل.. عجل، نعجة، كلبهم، البغال، الحمير، نملة.. عسل، بصل، زرع.. الأرض، السماء، الشمس، القمر.. وهي حالة تكسبها نوع الثقة في الذات، بأن ما تسمعه من كلمات ترتبط بمحيطها الذي هي فيه، وهذا أمر يجعل نداءها الداخلي أكثر مصداقية..

الطريق المؤدية إلى باحت المسجد، ذهابا وإيابا تمر من أسفل سقيفة بيت حادَّة، فإلى جانب القراءة الجماعية يصلها صوت همهمة بعض المصلين من الشيوخ الكبار، وهم في عودتهم من المسجد، لا يفهم منها إلا كلمة واحدة متبوعة بكلمات وجمل بصوت خافت يصعب على الأذن التقاطها، إنها مجموع الأذكار والأوراد التي يرددها بعض الشيوخ وقد اعتاد عليها لسانه وقليه، وهي تخرج متتابعة بشكل سريع، إذ تلتقط الأذن بشكل واضح كلمة الله متبوعة بهمهمة فالشيخ أدرى بصيغتها من حيث المبنى والمعنى، وقد اعتادت حادَّة في هذا الوقت المبكر من أيام الصيف، على سماع همهمات الشيوخ وهم في عودتهم من الصلاة.

 الحَرُّ يجبر أهل الواحة ليتخذوا من أسطح دورهم مكانا للنوم والراحة والسكينة، إنه أمر غريب؛ هذه الأسطح وسط النهار حالتها تشتكي من لهيب ولسعات الشمس الحارقة، وفي الليل ما بعد المغرب يتحول المكان نفسه إلى حالة من البرودة والرطوبة، بينما الطابق السفلي من الدار على العكس من ذلك، الرمال المكشوفة لا أحد يطيقها نهارا، ليقصدها ليلا كل من رغب في ساعة الرطوبة والبرودة، والغريب أحيانا أنها تكون باردة أكثر مما هو معتاد، في فصل الصيف يبدوا لك الحَرُّ، كأنه كائن يحضر بقوته وجبروته في النهار، وينكمش ويختفي في الليل، وإذا به يختبئ في مختلف الأماكن المغلقة، وفي الطوابق السّفلية لمختلف المباني، ليخرج من مخبئه نهارا وتتسع مساحته وتعم كل بقعة مكشوفة أمام أشعة الشمس.

طيلة الصيف على أسطح المباني، يرافقك القمر، أينما وجهت وجهك إلا وجدته ينظر إليك، والنجوم بالقرب منه، تستلقي على قفاك وتبدأ في عد النجوم، وفي الأخير تفشل في عدها وتعيد الكرة مرة أخرى.. في اليوم الموالي يخطر ببالك سؤال مفادها هل النجوم التي أعددتها بالأمس لا زالت مستقرة في مواقعها، أم اتخذت لنفسها مواقع جديدة، أم اختفت بالكامل وفسحت المجال لغيرها، وكيف لك أن تميز بعضها عن بعض، النجوم يشبه بعضها بعضا، ومن هذا الذي له القدرة للتمييز فيما بينها..

 تخمن كثيرا، وأنت تتذوق نسمات الهواء العليل، وتخلص إلى أن بعضها ثابتة في مكانها، هذا هو القطب النجمي[2] وبالقرب منه هذه النجوم التي أعددتها بالأمس.. في الحقيقة أنت تحاول أن تجد لنفك فهما وتفسير معين لما كنت تسمعه، بأن أهل الواحة يسترشدون بالنجوم في أسفارهم الطويلة داخل الصحراء، معرفتهم بمواقع النجوم تساعدهم على التمييز بين اتجاه الشمال واتجاه الجنوب، لكن هل خضت هذه التجربة.. لا يهم عموم الناس يقرُّون بهذا.. ما أجمل هواية عد النجوم رغم أنها تجربة دائما تبوء بالفشل؟ السماء صافية ولا شيء يعكر صفوها.. تبدو قريبة جدا إلى درجة يخيَّل إليك أنك ستلامسها بيدك إن ارتفعت نحوها..

طيلة ليالي الصيف، الكبار والصغار يخوضون تجربة عدُّ النجوم، بوعي أو بدونه، فعندما تلقي برأسك على الوسادة وتحدق بأعينك إلى السماء، تجذبك النجوم إليها وتجد نفسك تبذل جهدا، في أن تحيطها بنظرة شاملة، وهي تتلألأ في وجهك، حينها تتورط بوعي أو بدونه في عدّها.. يأخذك النوم، وعندما تفتح أعينك ليلا تجد القمر ينظر في وجهك وقد تأخر عن الظهور منتصف أيام الشهر، بينما يحضر باكرا قبل النجوم أول أيامه.. حالة النسيم العليل التي أنت عليها تجعلك تتعلق بالقمر والنجوم، وتتوقع أنها لها دور في إحداث حالة الرطوبة والبرودة التي أنت عليها، ودليلك الساذج، عنما تختفي النجوم والقمر تحت أشعة الشمر يختفي الهواء العليل والرطوبة والبرودة..

عندما يظهر الهلال في يومه الأول بعد الغروب، فأول نظرة إليه منك، ينبغي أن تكون مصحوبة بأمنياتك، كشفاء مريض أو عودة مسافر.. البعض من النِّسوة لا تغفل عن لحظة اليوم الأول للهلال والنظرة الأولى إليه مصحوبة بأهم أمنياتها.. ربما أنهن يرون في الهلال بكونه ذلك المسافر الحاضر والغائب، الذي يأتي بالأخبار وهو يطل على الدنيا كلها، متنقلا من مكان إلى آخر، كل أمنياتهم أن يمكث بينهم، وهو مصحوب بما يحمل من بشائر، كل أمنياتهم أن تكون بشائر خير.. ربما أنه يصحب معه عودة مسافر، أو يصحب معه شفاء مريض..

 صففت حادَّة فراش نومها وسحبته إلى جانب من جنبات السطح.. اتجهت نحو غرفة تهييئ الطعام، أوقدت النار، وضعت قدر شربة حساء الشعير.. ها هي تغلي الآن، وقد صففت مجموعة "الزلايف"[3] المتعددة الألوان والأحجام بهدف أن تسكب بداخلها الشربة عندما تنضج.. في هذا الوقت في الأسطح الصغيرة داخل البيت الكبير، كل من أفراد الأسرة قد صفف فراشه وسحبه جانبا.. الأسطح الآن قبل شروق الشمس بقليل تبدوا فارغة، القليل من يبقى من يبقى نائما، لا أحد يرضى بذلك.. وقد اتجه الجميع إلى السطح المركزي من البيت، ليجدوا شربة حساء الشعير في انتظارهم مع حبات التمر.. قبل شروق الشمس يتوجه الرجال نحو حقولهم ليقضوا البعض من مهامهم قبل أن تطردهم الشمس الحارقة.. والكثير منهم يعودون بعد شروق الشمس، ليجلسوا على طاولة الإفطار لوقت قليل، قبل انقضاء ظلال جدران الأسطح التي تطارها أشعة الشمس.. حيث الشاي والخبز المليء بحشوة شحمة البقر الممزوجة بالتوابل والبصل..

برنامج شغل حادَّة لا ينتهي، إلى جانب النسوة الآخرين الذين معها في نفس البيت، وقد تأخرت لبعض من الوقت عن الموعد الذي تحلب فيه البقرة.. وخوارها قد يسمع من قريب في البيت المجاور.. وقد اعتادت أو تتوجه في هذا الوقت بالذات بعد الإفطار نحو البرك المائية الصغيرة القريبة من القصبة لتملئ جوفها بالماء.. إذ يتعمَّد أهل القصبة أن يسوقوا نحوها قيلا من المياه، ها هي البرك الصغيرة من الماء تظهر لك من بعيد مثل مرايا مبعثرة هنا وهناك، وهي تعكس صور أغصان الأشجار وجريد النخيل.. الغريب أنك عندما تدفع البقرة أو البقرات نحوها.. وتقول في قرارة نفسك هذا ماء صافي غير معكّر ولا مكدّر بالتراب.. البقرات تستحقه وهي أولى أن تشرب ماء صافيا.. لكن البقرات لها رأي آخر، إنها تحب الشرب في الماء المكدَّر بالتراب والطين.. الغريب أنها تنجذب نحو الماء الصافي وتمدُّ عنقها نحوها، وقد تأكدت بأنه ماء، بعد أن مصَّت منه جزءا قلالا جدا.. طبعا إنه ماء ماذا سيكون إذن هل سيكون زيتا تسيح على الأرض.. هل هي سذاجتي أم سذاجة البقرات، هل هناك سائل آخر في الأرض يتدفق بهذه الوفرة.. غير الماء، البقرات تشك هل هو ماء أم سائل آخر دونه، وعندما تتأكد بأنه ماء، ترفع رأسها وأنت تمهلها لتعود لتمص ما يكفيها منه، وإذا بها تفاجئك وتدخل وسط البركة الصغيرة ليختلط الماء بالتراب والطين والروث الذي تصحبه أرجلها وذيلها.. حينها يحلو لها الشرب.. الآن وأنت تتأمل في سلوكها تدرك سذاجتك التي تجعلك تتعامل مع بقراتك مثل تعاملك مع البشر..

البقر لا يشرب ولا يروي عطشه إلا في الماء المكدَّر عكس الإنسان والكثير من الحيوانات على هذه الحال.. تبدوا هذه المسألة عند البعض بدون معنى.. هناك من ينظر إليك بنوع من الاّ مبالات وأنت تهتم بمثل هذه القضايا التافهة في نظره.. ما شأنك بمعرفة السرِّ من وراء تفضيل بقراتك الشرب من الماء المكدّر بدلا من الماء الصافي، والغريب أنها هي من تكدِّره لتشربه في الأخير.. إنها مسألة ليس بالسهل معرفة حقيقتها، وقد سبقك إليها القدماء وهم في حيرة من أمرهم في هذه المسألة، فعلا أنت لا علم لك أن المسعودي،[4] قد أثار هذه القضية في كتابه "مروج الذهب" فهو يرى أن البعض من الحيوان، إذا كان الماء صافيا، فإنه يثيره ويكدره ويمتنع من شربه حين صفائه.. وإن ذلك نتيجة مشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه. إنها مسألة تحتاج إلى تفكير ونظر، كثيرة هي القضايا والأمور التي تبدوا سهلة وبسيطة، لكنهها تخفي من ورائها أشياء كثيرة.. ليس بالسهل معرفة أي اطمئنان يتحقَّق للبقرات وغيرها من الحيوانات، وهي تكدِّر صفاء الماء رغبة من عندها لتشرب منه، ..

البقرات الآن داخل البركة الصغيرة، قد ملأت جوفها بالماء المكدَّر بالتراب والطين، واقفة لا تتحرك وهي تميل بعنقها يمينا ويسارا.. كيف تنتزعها من داخل البركة، الماء قليل وقد يقترب من ركبتي أرجلها.. أنت تشعرها بأن تتحرك وتخرج من وسط البركة لتعود بها إلى مربطها، لكنها لا توليك اهتماما.. يا ترى لماذا هي شاردة إلى هذا الحد ربما تتأمل في شيء .. مرة أخرى تعود إلى سذاجتك.. إنك تنظر إليها بكونها بشرا.. البشر هو من يتأمل.. أنت لا تقتنع بهذا الكلام.. البقرات حتى هي الأخرى تتأمل.. ها هي الآن تحدق فيه بأعينها الكبيرة.. ربما تريد أن تقول شيئا.. في الأخير تستجيب لطلبك وتخرج من وسط البرك الصغيرة متجهة نحو طريق العودة.

في هذا الوقت الذي قضته البقرات ذهابا وإيابا لتملأ جوفها بالماء، خرجت حادّة من الدار وهي تتقفى أثر حوافر البقر داخل القصبة، وسط الدروب والأزقة التي تمر منها مختلف أبقار السكان وهي تقصد مرابطها، وإذا بها تجمع قللا من القش الملقى على الأرض الذي دهسته بعض الابقار بأرجلها .. القش مبعثر ويختلط بالتراب وأحيانا روث البقر وبعض من التبن وأوراق وبعض من سعف النخيل وبعض من أوراق الأشجار.. ها هي عائدة محملة بقشها، وهي مصحوبة بأحد النِّسوة تدعي قدرتها على استرجاع الحليب إلى درع البقرة التي لم تعد تحلب إلا القليل.. كيف ذلك؟ فرضيتها تقول إن البقرة يسْرق حليب بعضه البعض.. إن مرّت الأبقار من نفس الطريق التي تأخذهم إلى أحد المرابط.. وما هو الحلُّ إذن؟ الحل في نظرها، جمع القليل القش الذي دهسته مختلف الأبقار بأرجلها من داخل أزقة الواحة.. وحرقه من تحت ضرع البقرة التي سرق حليبها، وهي وصفة كفيلة بعودة الحليب إلى ضرعها بعد أيام.. أنت لا تفهم شيئا من كل هذا الهراء، كلام فارغ، أمر لا يليق حتى بتفكير الأطفال، إنه تفكير سخيف!! أنت تصدق كل هذا!! ومن حماقات هذه المرأة أنها توصي في حالة فساد اللبن، ينبغي سكبه من تحت أرجل البقرات.. حجتها في ذلك أنه يعود إلى ضرعها.. أليس هذا هو الحمق بعينه!! يا لها من امرأة حمقاء.. وكيف لحادَّة أن تسلم أمرها في مثل هذه المواضيع لهذه المرأة.. قبل مغادرتها المكان حزمت صرة من أعشاب وصدفة بحرية في خيط طويل من الصوف الأبيض والأسود، جعلت منه قلادة للبقرة الكبيرة.. حجتها في ذلك أن القلادة ستدفع عنها السوء والعين.. هل هناك بساطة وسذاجة أكثر من هذه؟

كثيرة هي الحماقات التي اختفت من الواحة، اختفت البقرات المزيّنة بقلائد الأصداف البحرية، واختفت البرك الصغيرة المائية، القصبة نفسها لم تعد كما كانت، أزقتها وأدربها فارغة، لم تعد بداخلها مرابط للبقر.. أتدري لماذا؟ لقد تبدلت حال الطبيعة وقد هجرها الماء..    

.. يتبع ..

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

..........................

[2] النجم القطبي: هو اسمٌ يُطلق على ألمع نجمٍ قريبٍ من أحد قطبي الكرة الأرضية. لقربه من محور دوران الأرض بشكل شبه ثابت، فتُعرَف الاتجاهات به..

[3] وقد اختار أهل الواحة هذا الاسم، للصحن الذي نمسكه باليد الواحدة أو اليدين، ونقرّبه من أفواهنا لنشرب من خلاله مختلف الشربات من بينها شربة الحساء، فالاسم يعود إلى الفعل (زلف) فأَزْلَفَهُ قَرَّبَهُ وَازْدَلَفَ إلَيْهِ اقْتَرَبَ (وَمِنْهُ). الزلافة، سميت كذلك لأنها تقرب إلى شاربها وتقدم له، يقال زلف الكأس: أي قربه وقدمه، وقال الله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)﴾ (الشعراء)

[4] أَبُو ٱلْحَسَن عَلِيّ ٱلْمَسْعُودِيّ الهُذَلي (- 346 هـ /- 957 م) عالم ومؤرخ، جغرافي ورحالة، وهو مؤلف متعدد المواهب وغزير الإنتاج، جمع بين التاريخ العالمي والجغرافيا العلمية والتعليقات الاجتماعية والسيرة الذاتية.

 

في المثقف اليوم