أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (14): فن العوم

حرارة الصيف الملتهبة بعد الزوال، تدفع جميع المخلوقات إلى البحث عن بقعة ظل، الكثير من الطيور تهدأ عن الطيران، وتنزوي في أعشاشها، الأولاد الكبار يقصدون البركة الكبيرة من النهر، ها هم الآن يقفزون من أعلى الجرف الذي يطل على وسط البركة، منهم من يقفز وكله ثقة بأنه يتقن فن العَوم، ومنهم من يقفز ليأتي وسط البركة وهو يقلد أقرانه ولا علم له بالفخ من داخل قعر البركة... حيث يتدفق الماء على شكل تيار يجذب كل من اقترب منه، ليجد نفسه أسفل الجرف تحت الماء، المشكلة عندما تعتقد أن فن العوم  يعتمد على العوم ضد التيار، وهو يستحوذ على كل جهدك وطاقتك، وفي الأخير تجد نفسك منهزما أمامه دون قوة منك، حينها يفعل بك ما يريد...عليك أن تساير التيار وحاول أن تتسلل منه شيئا فشيئا، حتى تتخلص منه بالكامل أليس هذا هو فن العوم؟ اليس هذا ما تقبل عليه الأسماك وهي من أوحت لنا بفكرة العوم؟

عندما تقترب من الأولاد تنزعج من ضجيجهم وأصواتهم المتعالية، وهم يقفزون في الماء واحدا تلوى الآخر، ليختفوا تحته لتوانٍ وبعدها يخرجون منه، وأجسادهم تتقاطر ماء، وهم في جري في اتجاه المسلك الرملي الذي يأخذهم الى أعلى الجرف ليكرروا القفز مرة تلوى الأخرى... أي عوم هذا وأي سباحة هذه؟ من الأولى أن يصاحبوا اتجاه جريان الماء لمسافة قصيرة أو طويلة... التحدي بالنسبة لهم هو التمرُّن على النزول إلى قعر البركة والبقاء في الأسفل والصعود بعد أن تكاد ينقطع النَّفَس... وحتى تكون مقنعا عليك أن تصحب معك بين أصابعك جزءا من تراب قعر البركة...

فأحيانا يلقوا بحجرة ملساء تحت الماء ويتبارون عن الذي له القدرة بأن يسحبها إلى الأعلى، وبهذا فهم في تمرُّنٍ مستمر على اكتساب مهارة وخبرة العوم تحت الماء، وبهذه الطريقة ينقذون بعضهم في حالة إن جرفه التيار والقى في مخبأ تحت الجرف، وإن حدث ذلك في غفلة منهم فتلك هي الكارثة... كما أن طريقتهم هذه في العوم تجعلهم أكثر خبرة في النزول إلى جوف بئر ممتلئ بالماء، لسحب ما قد يسقط بداخله... البئر حفرة مليئة بالماء، التجديف لا يفيد صاحبه في شيء وهو في حفرة لا يتجاوز قطرها مترين أو أكثر، مهارته تكمن في القدرة على النزول إلى آخر نقطة تحت الماء والصعود بعدها الى الأعلى... عندما يملُّ الأولاد القفر يتهيؤون لمغادرة المكان في اتجاه القصبة مرورا بجوف الواحة، ولكن قبل أن يصلوا ظلال النخيل والأشجار، يحاصرهم لهب الرمال لمسافة قصيرة، فمن انفلتت نعاله من أرجله وهم في سباق فيما بينهم، فقد يقع في فخ لهب الرمال ولا يخرج من الفخ إلا بمشقة...

عند شروق الشمس أو قبل غروبها، تصادف جموع العائدين من الحقول ودوابهم محملة بالفصَّة، لإطعام أبقارهم ونعاجهم... نسيم الصباح الباكر أيام الصيف، يعدك بيوم معتدل الحرارة، وانه سيلازمك طيلة النهار، لكن سرعان ما يخلف وعده ويختفي، منهزما أما لسعات الشمس الحارقة،  التي تتراجع إلى الوراء قبل الغروب وتفسح المجال أمامه مرة أخرى ليوفي بوعده، منظر غروب شمس الصيف وهي تنغرس من وراء الرمال، منظر تشدُّ له الرحال،  وأنت من  فوق الربوة العالية أو من فوق أحد أسطح القصبة تراقب حركتها،  فعندما ينغرز النصف من قرصها الذهبي وراء الرمال، تحجب بعض زعانف جريد النخيل النصف المتبقي الذي لا يمكث إلا قليل من الوقت ليظهر لك الشفق في الأفق، وهو منظر في غاية الروعة، يثير بدواخلك الكثير من الأسئلة، يا ترى ما بعد هذا الأفق؟ وأنت في حنين وانجذاب نفسي لا مثيل له نحو الشمس التي تركتك وحيدا واختفت، ولا يمكنك اللحاق بها، تشعر كأنها راحت وأخذت معها شيئا ما من وجدانك...أنت منجذب نحوها بشكل لا مثيل له، لا شيء يلفت نظرك ويخرجك من هذه الحالة، إلا الصَّدع بآذان المغرب... حينها تفهم بأن الإنسان في القدم لم ينشدُّ وينجذبُ عبثا نحو الشمس والكواكب ويجعلها موضع اعتقاد وعبادة، فالوضع الذي كان عليه، قد تشكل لديه من تلقاء ما أحدثته الشمس في نفسه حالة الشروق وحالة الغروب، وهي حالة نفهم منها طبيعة حركة الوجود وتسبيحه.

ما بعد الزوال تتحول الدروب والأزقة الضيقة في مختلف قصبات الواحة وقصورها، إلى ملجأ مأقة يقي ساكنيه حرَّ الظهيرة، الجالسين مصطفين من كل جانب على مختلف المِصْطَبَّات (الدُّكَّانُ) هنا وهناك، وخاصة المصطبَّة القريبة من باب القصة، بكونها نقطة تجمُّع والتقاء مختلف الدروب الرئيسة... الجالسين في حالة استرخاء، كأنهم بباب مكيف هوائي كبير الحجم، إذ تصلهم نسمات هواء خفيف وبارد، وقد عملت مختلف الدروب على تكييفه من حالة الحرِّ إلى حالة من البرودة، الجالسين وخاصة الكبار في السن، يستعينون على تكييف الهواء بمختلف مراويحهم، المصنوعة من سعف النخيل...

مختلف هذه الجلسات فرصة ثمينة لمن يهوى الحكاية والسرد، وأصحاب هذه الهواية معروفين بين القوم، وهم رأس المجلس، خاصة عند الشيوخ والكبار في السن... ها هو «حمّان" فرح بنفسه وقد اختار مكانا رئيسيا للجلوس بين الجالين؛ وضع رجله اليمنى على اليسرى؛ امتدت يده إلى (شكارته)1 أخرج غليونه النحيل المصنوع من قصب سميك وضع التبغ في جوف الغليون ودكه بسبابته جيدا. أشعل فيه النار وهو يمص دخان التبغ الذي يحترق وقد عمت رائحته المكان، وفي الوقت ذاته يعمل على غلق السرة المصنوعة من الجلدي المليئة بالتبغ، وهو على يقين بأنه سيعود إليها مرة ثانية، عندما فرغ الغليون من التبغ أضاف عليه، وقربه الى شفتيه ومصه مصا حتى ظهرت فراغات شدقيه، على شكل حفرتين من كل جانب، فهو لم تعد له أدراس، وعندما يضحك يظهر عليه بأنه فقد أحد أسنانه الأمامية وتظهر أخريات تطل بلون يمتزج فيه البياض بالصفرة والسواد...ضحكة حمَّان ضحكة جميلة...عندما ينطلق في الحكي والسرد... يتوقف فجأة وإذا بالجالسين تتعالى ضحكاتهم وقهقهاهم من هذا الجانب أو ذاك الجانب... حمّان يتحدث عن بطولاته التي لا تنتهي... وإن عارضته في الحكي قد يحولك موضوعا لحكايته...

في المساء بعد صلاة العصر بقليل، تبدوا لك مختلف المِصْطَبَّات فارغة، وفي هذا الوقت بالذات تجد الأولاد يدورون من تحت جذوع النخيل، يلتقطون مختلف البلح المتعدد الألوان الأخضر الأحمر والأصفر وقد تساقط على الأرض، فمن عادة النخيل أن يستغني على القليل من البلح ليفسح المجال أمام بلح آخر لينضج ويتحوَّل إلى رطب تمار... الأولاد كل واحد منهم يسعى ليملأ قفته الصغيرة من البلح...المحظوظ منهم في الأيام الأخيرة من الصيف، يعثر على أو تمرة نضجت، فأهل الواحة يعتقدون  أنك عندما تكون من الأولين الذين يتذوقون تمر الموسم، قد تتحقق الأمنية التي تتمناها وأنت تمص تمرة الموسم الجديد...بعد الغروب يعود الأولاد بقففهم الصغيرة، لتوضع في الشمس وبعد أن تجف تكون علفا للنِّعاج.  

قيل قديمًا:

لا يعشقُ الصيفَ إلاّ من بهِ خَللٌ

أمَّا الذي يهوى الشتاءَ فـهـيمُ

أهل الواحة لا يميلون لمحبة الصيف، ولكنهم على وعي بأن وراء حرارة الصيف يكمن السرُّ في أن ننضج مختلف التمور، وقد اختار النخيل بأن تستوي تماره منذ القدم في حرارة الصيف بالأخص حرارة الصحراء، وهم بهذا يتحملون الحر، وقد بذلوا كلَّ جهدهم في تطويعه الحرِّ والتكيف معه...لكن الحرُّ بانعدام الماء أو قِلته يستعصي عن أي شكل من أشكال تطويعه والتكيف معه...لا فائدة في تطويع الحرِّ دون ماء...وفي هذه الحال فأهل الواحة في مقدمة من يمقتون الصيف وحرَّه... لأنه لا يأتي بالتمار...

يتبع...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

....................

1- الشْكارة: وعاء جلدي لنقل وخزن الأشياء تصنع من جلد ناعم، غالبا من جلد الضأن، ارتبطت قديما بحمل المال والنقود، ومختلف المستلزمات الضرورية الخفيفة جدا مثل المنْقاش لإزالة الشوكة إذا دخلت في الرجل... كلمة شكارة قريبة فعل "شكر" وهي تدل على الشكر والخير والنعمة والبركة.

في المثقف اليوم