أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (11): تغريدة اليمامة

فجأة وصلت أسراب طيور اليمام وقصدت مختلف أعشاشها في مختلف أرجاء الواحة، طائر اليمام يشبه الحمام، تغريدته الشجية تملأ الواحة طيلة النهار، وصول طيور اليمام، عند أهل الواحة يقترن بنضج واستواء السنابل، وهو إشارة لاقتراب موعد الحصاد، ها أنت الان متكئ لوحدك في جوف الواحة، داخل حقلك المسيج بحائط التراب، وشجيرات الرمان تصاحب الحائط وأغصانها تحتك مع جنباته على مدِّ البصر، وتحجبه عن العين، وتتدلى فروعها على جنباته من خارج الحقل... أنت الآن مستلقي  في مساحة ظل واسعة اشتركت فيها شجرة الرمان، مع النخلات الأخوات الاربعة؛ التي  تتفرع عن جذع النخلة الأم الكبير الضاربة في القدم، وذلك يظهر جليا من خلال امتداد قامتها في السماء، وهي تبدو لك من الأسفل وأنت تتبع بعينك تجاعيد جذعها وقد عجزت عن عدها، شيء واحد أفلح بصرك بالإمساك والإحاطة به  هو جريد رأسها وهو يلامس زرقة السماء....

وأنت رافع رأسك إلى الأعلى في حالة تيه وحيرة في تتبع تجاعيد النخلة الأم، تدرك بأنك تحت سقف اشتبكت فيه مختلف أغصان أشجار الرمان واللوز والكروم وجريد النخل... سقف باللون الأخضر تتخلله زرقة السماء التي تنبعث منها أشعة الشمس التي تتحكم في رسم ظلال مختلف الأشجار والشجيرات، أشعة الشمس المتسللة بين مختلف فتحات الأغصان تجيد على طول النهار رسم مختلف اللوحات والأشكال التي تجمع بين الظل والنور، وهي لوحات بديعة، الظلال تحاكي مختلف المخلوقات، وتبدوا لك أحيانا لك على شكل مخلوقات غريبة... وفي وسط النهار عند الزوال ينتصر النور على الظل ويكون سيد الموقف، ليتضاءل دوره ويتلاشى كلما اقتربت الشمس من الغروب.

تغريدة اليمام تلقي بك في عوالم لا تنتهي، عوالم مفارقة للعالم الذي أنت فيه، إذ يختفي مفهوم الزمن ويتداخل الحاضر بالماضي والمستقبل، وتختفي مساحة ومعالم المكان، ذهنك الآن في شرود لا مثيل له، يأخذك إلى زمن لا قِبَل لك به، وربما أنك عشت جزءا أو صورة مشابه له في طفولتك، يأخذك الى مكان حيث لا مكان؛ إلا تخيُّل الصور والأشخاص والأشياء والكائنات...بعدها يقفز بك إلى المستقبل الذي لا قبل لك به، حيث يتداخل الأمل واليأس، الأمل بفرحة النهر الكبير بغدير كثير...اليأس حيث لا شيء من كل هذا إلا الرَّحيل. تغريدة اليمام تغريدة لا تشبه تغريدة كل الطيور، اليمام ينوح ويبكي أكثر ما يغرد.

تغريدة اليمام  تجعل الفرح ينبعث من دواخلك، إلا أنه فرح لا يخلو من الحزن والقنط، اليمام نفسه في حيرة من أمره، من عادة الطيور أنها تغرد فرحا بالصباح وفرحا عند الغروب، طيور اليمام ليست على هذا المنوال، فاليمامة الواحدة أو اليمامتان أو الثلاثة... في جدل لا ينتهي، في ترديد نفس التغريدة طول النهار، والغريب أن اليمام ينصت جيدا لبعضه البعض، فاليمامة الواحدة تستمع جديا للشطر الأول من التغريدة لترد عليها بتغريدة مماثلة، ربما أنها تنقضها... اليمام لا يكثر الحركة مثل باقي الطيور، كل همه أن يخلد تغريدته بالنواح لوقت طويل وهو مختبئ بين أغصان شجرة ما... قيل قديما اليمامة تبكي فقدان إخوتها.

عندما تطير اليمامة أمامك أو تقترب منك تحدق في رأسها وأجنحتها كثيرا وفي شكل جسمها النحيف... يبدوا لك من أعينها أنها في حالة من الحزن، وعندما تبتعد عنها يظهر لك عليها حالة من الفرح،  تأخذك نحوها نوع من الشفقة والرأفة، مع الطيور الأخرى الأمر مختلف، فهي تبعث في نفسك شعورا آخر غير شعور الشفقة والحنين...هذه السنة غردت طيور اليمام كثيرا، ويبدوا من تغريدتها أنها ترثي الزمن الذي مضى ولم يعد، ترثي زمنا اعتادت فيه على وفرة قوتها... يخيل إليك أنها ترثي حالة النهر الكبير، الذي لم تجده كما تركته من قبل...يا ترى هل تغريدتها هذه السنة تغريدة الوداع الأخير... وداع تتوقع معه لا عودة لها في الموسم القادم... تغريدتها هذا الموسم تغريدة حزينة أكثر من اللازم.

استيقظ حمان في وقت ما قبل طووع الفجر، ارتدى ملابسه، وقد أضاف هذه المرة من فوق عمامته "ترازة"[2] وهي قبعة مصنوعة من سعف النخيل، تقي صاحبها أشعة الشمس الحارقة، ألقى حمّان حزمة من المناجل في قعر أحد كفتي "الشواري"[3] ووضع في الكفة الأخرى حبات التمر ومستلزمات أخرى من أواني قد أعدتها زوجته بعناية... ها هو حمَّان  قد أحضر دابته من المربط، والبسها بردعتها القديمة، رفع "الشواري" على ظهر دابته، وضع رجله على المصطبة الصغيرة بالقرب من باب الدار، وإذا به يقفز إلى الأعلى مستعينا برقبة دابته، وإذا به يقع على ظهرها، ورجليه منسدلتين الى الجهة اليسرى من ظهرها، الكثير من الدواب عندما تحس باستواء صاحبها على ظهره، تنتظر هزة حركة أرجله، لتنطق في الطريق، وإلا بقية واقفة في مكانها تنتظر الإذن بالمسير... انطلق حمّان في اتجاه الحقل الكبير،  وقد ضرب فيه موعدا مسبق مع بعض شباب ورجال القرية، بعد قليل لحقت به زوجته والأولاد، وقد وجدوا بالفعل عند وصولهم الى الحقل الجماعة في انتظاره...

إنها أيام الحصاد بشكل جماعي التي انطلقت هذه الأيام في مختلف جوانب الواحة، فمن عادة الزراع في الواحة، أن يتعاونوا فيما بينهم على حصاد زروعهم، وهي عادة تسمى عندهم "التويزة أو تيويزا"[4]. اختارت زوجة حمَّان وبعض من النسوة معها، مكان فسيحا بعيدا عن الزرع ومن المتوقع أن ظل المكان سيستمر لطول النهار، وقد أوقدت النار، ووضعت عليها قدر الحساء، وشرعت في إعداد عجين خبز الفطور، وإذا بصديقتها قد تمكنت من تقشير بعض من حبات البصل، والقت بها في قعر "المهراس"[5] الخشبي الصغير، وقد أضافت عليها قطع من شحم البقر، وبعض من التوابل من بينها مسحوق الفلفل الأحمر، وشرعت في دقِّها داخله حتى سارت عجينة طيعة تلتصق بجوانب العمود الخشبي الذي تُدق به، حولت النسوة عجين الخبز الى مجموعة رقاقات عجين دائرية الشكل، ووضعت وسطها، عجينة الشحم، وها هي الآن تجمع مختلف الرقاقات من كل جوانبها، وهي طريقة تجعل عجينة الشحمة وسط عجين الخبز، إذ يتم دلكها من جديد، وتتحول الى رقاقة من عجين محشوة من الداخل بعجينة الشحمة والبصل، ويلقى بها مباشرة فوق النار، إنه فطور الشباب والرجال الذين أنهكتهم حركات جزِّ قبضات الزرع وهم في وضعية انحناء على الأرض لوقت طويل، أو جالسين القرفصاء...وهم في صراع مع الوقت إذ عليهم إنهاء حصاد الحقل في هذا اليوم، فالأيام الموالية محاصرين فيها بالدور الذي سيأتي على حقول أخرى.

قبل أن تنسدل خيوط أشعة الشمس، أصبح قدر شربة الحساء جاهزا، وقد التفت حولها الجماعة، بعد أن القوا مناجلهم بالقرب من سنابل الزرع الذي لم تصله مناجلهم بعد، عندما ملأوا بطونهم بمقبلة شرب الحساء مع حبات التمر، عادوا الى مواقعهم من الحصاد، أشعة الشمس الآن تدفعهم ليبذلوا كل ما في طاقتهم، وهم يتوقعون العودة من جديد ليتحلقوا حول خبز الشحمة الى جانب كؤوس الشاي الأخضر الممزوج بالنعناع...

عند الظهيرة وقد ازداد حر الشمس أنهي الجماعة مهمتهم ولا يتبقى لهم إلا جمع وتصفيف، سنابل القمح في مكان أقل ظلا داخل الحقل، على شكل كومة دائرية تكون فيها السنابل الى الداخل وجذعها التي جزت منها الى الخارج بهدف، أن تجف أكثر، وتفقد جزءا وزنها ليسهل نقلها من الحقل الى ساحة البيدر، الان والجماعة منهمكة في جمع وتصفيف السنابل، بالقرب منهم لا تتوقف طيور اليمام عن تغريدتها الغريبة، يا ترى هل هي في حالة فرح واحتفال بموسم الحصاد؟ أم أنها تنوح وتغرد عن الأيام الخوالي؟

أهل الواحة يعاتبون طيور اليمام كثيرا، لسبب وجيه في نظرهم، فهو يهاجر إلى مكان بعيد يستبدل به الواحة وأهلها، ولا يكون إلى جانبهم في فصل الخريف حيث الحرث وبذر البذور، ولا يحضر معهم فصل الشتاء حيث البرد القارس وسقي جداول الزروع، لكن عندما ينضج الزرع ويجهز الأكل، يحل فجأة بينهم، ويفضح نفسه بوصوله بتغريدته طول النهار. وقد قيل: تغريدة اليمام، لا تحرث معك في فصل الخريف ولا تسقي الزرع معك أيام البرد القارس، لكن تحضر لتقتات بحبات الزرع في فصل الربيع (أّشْ عْليكْ يا غَرْ،غَرْ،غَرْ...ما حرتي ما شدِّتي الماء في الليالي) الغريب بأن كل الطيور هكذا، إلا أن اليمام يحضر في الربيع بتغريدته التي لا وجود لها في مختلف الفصول إلا نادرا.

طيور اليمام بتغريدتها تلك في الموسم الماضي، كانت تميل الى النواح، ولم تعد بعد رحلتها الأخيرة، لا شيء لكي تعود من أجله، وقد سارت في اتجاه آخر وجهة أخرى، بعيدة عن الواحدة التي لم تعد لها فيها أعشاش...

... يتبع ...

****

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.........................

[2]  "ترازة" وهي قبعة تحجب أشعة الشمس منسوجة من سعف النخيل أو غيره

[3]  هو عبارة عن قفتين مقرونتين ببعضهما. يوضع على ظهر الدابة، بحين تنسدل كل قفة الى جانب وهي متصلة بالقفة الأخرى من الجانب الآخر. وبكون الشواري تحمل فيه على ظهر الدواب مختلف حاجيات الناس وأطعمتهم، هناك مثل شعبي مفاده سمكة واحدة تفسد رائحة الشواري (حُوتة واحدة تَخنَّز شواري..) في إشارة إلى أن فساد الشيء القليل قد يسبب في فساد الكثير...

[4]  التويزة أو تيويزا:  معناها التعاون هي موروث ثقافي مغاربي تُجمع فيه وتتعاون جماعة من المجتمع أو القرية من أجل المساهمة في إنجاز عمل خير أو مساعدة محتاجين أو فقراء أو بناء منزل لشخص أو مسجد أو جني حقول القمح وأشجار الزيتون

[5]  وعاء مجوف من خشب أو نحاس يتم يُدقُّ  فيه الطعام والتوابل ..بواسطة حمود يتناسب مع حجم الوعاء

في المثقف اليوم