أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (13): عدو غير منتظر

عندما ينتهي أهل الواحة من شغل البيادر، وقد تكلفهم مهمتهم تلك كثيرا من المشقة، ومنهم من يقضي شهرا أو أكثر صباحا ومساء متعبا بشغل البيدر، وقد يكون للطقس دوره في تأخيرهم أحيانا لوقت طويل، ففصل الحبوب عن التبن يحتاج إلى هبوب رياح خفيفة جدا، تسمح برفع المِذراة[2] محملة بالتبن والحبوب معا، ليذهب التبن بعيدا مع هبوب الرياح وتسقط حبات القمح أو الشعير بمعزل عنه، هبوب الرياح الخفيفة هذه، يسميها أهل الواحة "لَعْوِينْ" لأنها تعينهم على فصل الحبوب على التبن وبدونها، لن يتحقق ذلك. "لَعْوِينْ" لا أحد يمكن له أن يتحكم في حضوره أو غيابه، أو الاتجاه الذي سيختاره لنفسه، إنه ينظر إلى الجميع بعين المساوات...قد يحضر ليلا أو صبحا أو عند الظهيرة...الكل يترقب وصوله. البعض يتخيله في صورة ملائكة تزل من السماء وتحرك أجنحتها برفق وتكون سببا في عزل الحبوب عن التين والقش. فبعد جهد جهيد وكثير من العناء، تظهر كومة التبن وهي مرتفعة إلى الأعلى، وبالقرب منها بأمتار كومة الحبوب منحنية وأقل ارتفاعا، إذ تتم العناية بها أولا وتترك كومة التبن إلى متسع آخر من الوقت...

البيادر وما يتبعها، من أنماط ثقافية واجتماعية، تشكل عنصرا أساسيا عند أهل الواحة، فعلى أرضية البيادر، يتم تخصيص جزء مهم من القمح والشعير للفقراء والمحتاجين، ويخصَّصُ جزء قليل لمَطْمُورة[3] القبيلة، وعلى أـرضية البيادر تتم عملية تقسيم المنتوج بين بين مالك الأرض والمزارع وفق اتفاق مسبق...[4]

بعد تعب البيادر، يميل أهل الواحة في كل فصل من فصول الصيف، إلى حفر السواقي الرئيسية، داخل الواحات، وحفر مختلف المصاريف التي تصرف الماء في اتجاه مختلف الحقول، وهم في استعداد لاستقبال موسم جديد، فضلا على ترميم مختلف القناطر الكبيرة والصغيرة التي أقيمت من جذوع النخل والفروع الكبيرة لمختلف الأشجار، كما يتم ترميم مختلف البالوعات التي يتسرب من خلالها الماء بشكل أفقي من الساقية في اتجاه مجرى رئيسي يصرف الماء في اتجاه معيين، وتتابع على طوله بالوعات صغيرة يتسرب من خلالها الماء إلى حقل من الحقول.

اختلافات اهل الواحة في القصبة الوحدة أو في القصر الواحد لا تنتهي، والبعض منها لا يجدون له حلا، ويتم تأجيل النظر فيه طيلة الموسم، ولكن متسع وقت الصيف عند الناس، تجعل المشكل يفرض ذاته، ولا مهرب من التفكير فيه... أكثر المشاكل تدور حول توزيع المياه، وحول طبيعة استغلال الأراضي الجماعية في الرعي أو الحرث أحيانا، هذه المشاكل قد يجدون لها حلا إن كان الخلاف بشأنها بين الجماعة الواحدة التي تشترك في القصبة أو القصر الواحد، أما إن ارتبط أحد هذه المشاكل بقبيلة أخرى، فقد يتطور المشكل أحيانا إلى نزاع بالأدي وربما إلى مقاتلة بين الطرفين، تتدخل بشأنها قبائل مجاورة حتى لا يمتد الصراع إلى قبائل مجاورة.

مجمل القبائل في الواحة تتجمع حول ضريح من الأضرحة، قد يكون لولي صالح، قد يكون لجدِّ القبيلة، قد يكون ضريح لأن الضرورة الاجتماعية اقتضت ذلك، الضريح بمثابة طوطم[5] القبيلة الذي يرمز لجماعة القبيلة ويشكل نقطة مرجعية اجتماعية بالنسبة لها، فالجميع يكنُّ له مشاعر الإجلال والإكبار فاحترامه يعني احترام الجماعة للقيم الاجتماعية الاساسية السائدة بينها. فالضريح يحظى بمكانة عالية عند أهل الواحة، فهم يتعاهدون بالقرب منه، أو بداخله، ويرفعون الأدعية بجانبه، وليس من الغريب أن نجد مصلى الأعياد والاستسقاء غير بعيدة منه...الضريح للزيارة على حسب الاختصاص، من الأضرحة من اختص في علاج الجن، ومنها من اختص في تجبير المكسور ومنها من اختص في جلب البركة... من النادر في الواحة عند القبائل المستقرة في القصور والقصبات ألا تجد ضريحا بالقرب منها... بينما القبائل التي تجوب الصحراء لا أضرحة لها، وهي تختار ما تشاء من مختلف أضرحة الواحة.

يتكون مجلس القبيلة من ممثلي مختلف ساكنيها، حسب أنسابهم، فالنسب الأكثر كثافة، تكون له مشيخة المجلس، أو تعود لأحد وجهاء القوم، ويضم المجلس ممثلين لمختلف المهنين في القبيلة...أهم ما يهدف له المجلس هو فرض سلطته على كل أفراد القبيلة والدفع بها نحو الدفاع عن مراعيها...مجلس القبيلة حلبة من الصراع والتدافع، ودفع الحجة بحجة أكبر منها، والتحيز لطرف على حساب طرف آخر، للحفاظ على مصلحة الفئة التي يمثلها كل عضو...ليس عيبا أن تبدي رأيا وتتخذ موقفا ضده، ليس عيبا أن تكون اليوم مع زيد ضد عمر، وغذا تكون مع عمر ضد زيد، ليس عيبا أن تتنازل وتتراجع إلى الوراء عندما يحاصرك الذين يخالفونك الرأي... في مجمع القبيلة كل شيء ممكن مالم يتجاوز القواعد العامة المحددة مسبقا والتي تشكل حلقة تجمُّعِ وتماسُك أهل القبيلة وقد وضعوا لها ضريحا يرمز إليها، فهي لا تخفى على أحد.

من داخل مجمع القبيلة يظهر لك الشيوخ والكهول، بقاماتهم الطويلة وأجسادهم البدينة، ذوي الجلاليب الواسعة الأكمام، والعمائم الطويلة على رؤوسهم، مصطفين واحدا بالقرب من الآخر، بأحد الدور، أو إلى جانب من جنبات القصبات والقصور، تحت ظلال النخيل والأشجار، يتهامسون فيما بينهم، وبين الحين والآخر تتعالى أصواتهم، لتعود إلى حالة الهدوء، عندما يحتد النقاش فيما بينهم، يتحدثون بشكل جماعي الكل يقول موقفه ورأيه، لا أحد يستمع لأحد...البعض منهم يلزم الصمت ويلتقط مواقف الآخرين...يبقى الأمر على هذه الحال وربما ينسحب البعض منهم، ويلحق به الأخرون ليعيدوه الى المجلس...الكل قال ما لديه...يقطعهم أذان أحد الصلوات  يقوم شيخ المجلس يتبعه الآخرون... ليعودوا في الأسبوع الموالي... متفقون على أشياء كثيرة ومتفقون ألا يتفقوا على أشياء كثيرة أخرى...

لقاءات وجمع أهل القصبة كثيرة جدا، لكن الجمع الذي بقيت ذكراه محفوظة يرددها الأحفاد، كل على حسب روايته، هو ذلك الحدث الذي جعل الغرباء يقتربوا ويتقدموا أكثر فأكثر نحو الواحة، ففي أحد مجالس القبيلة المهابة، جلس الشيخ في المكان الذي يبصره منه الجميع، اتكأ على الحائط، وثنى إحدى ركبتيه الى صدره، أنزل عمامته من أعلى رأسه ووضعها فوق ركبته المرتفعة إلى الأعلى، رأس الشيخ يبدوا للجميع عاريا ولم يعتادوا عليه عاري الرأس، حتى داخل بيته لا يزيل عمامته إلا عندما يخلوا إلى النوم، شعر رأسه يبدوا للجميع لا هو بالأسود ولا بالأبيض، فهو قريب من اللون الرمادي...حدق كثيرا في عمامته وهي فوق ركبته...أخذها ووضعها على رأسه وتبَّتها بكلتا يديه، وأكمامه الواسعة متدلية نحو الأسف إلى جهة مرافقه، وقد امسك بلحيته الرمادية...وإذا به يعيد الكرة مرة أخرى ويزيل عمامته، ويضعها فوق ركبته الممتدة نحو صدره ...هذه المرة سحبها بسرعة وأعادها إلى فوق رأسه... انشد الجميع نحوه، ما هو الأمر الذي سيبوح به هذه المرة...وقد عهدوه بأنه رجل لا يقبل أية مساومة، رجل صلب المواقف لكنه قريب إلى الحكمة، يعرف كيف يكون صلبا دون أن ينكسر...

يا ترى ما هو الخبر الذي من ورائه، هل هو قرار سفقة نزال لا بد منها ولا مهرب عنها، للحد من هجمات القبائل التي تنهب وهي تدور مثل الثعالب في الصحراء... كسر أحد الرجال الملثمين صمت المجلس...قل لنا ما الذي وراءك ... نطق الشيخ بكلمة واحدة فقط الفرنسيين... ردَّ عليه الملثم وقد وقفنا ضدهم ومنعناهم من التقدم ...رد عليه الشيخ منعناهم من التقدم على الأرض، لكن هذه المرة كان تقدمهم من خلال السماء...لقد قصفوا الواحة الشرقية بالطائرات بعد هزيمتهم على الأرض...الطائرات لا قبل لنا بهذا!! هل هناك مخلوقات أخرى تطير في الهواء مثل الطيور؟

القنابل التي يلقوا بها علينا ونحن في نزال معهم في الصحراء، هي نفسها يلقونها بالطائرات على القصبات والقصور...الواحات الآن تحت رحمة طياريهم، إنهم قادمون...ما هي خطتكم في مواجهتهم، هل نغادر القصور والقصبات؟ اهتزَّ الجمع وكثر القيل والقال وكثر اللغط ... واختلف الرجال فيما بينهم...كيف نستدرجهم إلى الأرض، ونحن أمام سلاح لا قبل لنا به... فقدنا رجالا كثر  بهدف صدهم ووقف تقدمهم...هل نسمح لهم بالتقدم وبعدها نلتف حولهم ونقاتلهم... إنها مسألة صعبة ولا حل لها في الأفق القريب... شيء واحد اتفق الجمعُ حوله هو العمل على تشكيل موقف واحد موحد اتجاه العدو في مختلف الواحات القريبة والبعيدة...وهي مسألة كلفت مختلف قصبات الواحة وقصورها وقتا طويلا...وأرواحا كثيرة...وفي الأخير تمكن العدو من التقدم وطاف بينهم...وقد انخرط البعض منهم أعوانا له...وقد اختلفوا حول ذلك كثيرا...وإذا به يرحل دون سابق إنذار، وبرحيله وجدوا أن زمنهم قد تغير... وحالتهم أصبحت على شاكلة أخرى...

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

 كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

...................................

[2]  مِذْراة: اسم آلة من ذرا: أداة من خشب أو حديد ذات أصابع يُذرُّ بها الحَبُّ في الهواء ليُنقَّى ممّا علق به

[3] المَطْمُورة: مكان تحت الأرض قد هُيِّئ بعناية ليُطمَرَ فيه الشعير والقمح والفولُ ونحوُهُما

[4]  غالبا ما  يكون خمس المحصول أو ربعه، فالْخَمَّاسْ  نسبة إلى الخمس والربَّاع  نسبة إلى الربع، فهو  شخص فلاح مزارع قائم على زراعة وفلاحة حقل بتفاهم مع مالك الأرض حول حصته من المحصول.

[5]  الطوطم: أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يُقّدس باعتباره المؤسس أو الحامي.

 

في المثقف اليوم