أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: فرشاته رسمت ديوانا للشعر

كما تستطيع السريالية أن ترسم لوحة تقف أمامها بالساعات متأملاً فى محاولة لفك شفراتها السرية العميقة.. هكذا تفعل إذا تحولت فى يد الرسام إلى قصيدة ألفاظها مجرد رموز لمعانٍ أبعد..

هذا ما يفعله الشاعر والفنان التشكيلي (محمد مهدى حميدة) حينما يكتب أدباً شاعرياً بمفردات تجردت من سائر قيود الشعر الموسيقية واللغوية ، وتحررت من أثوابها الجاهلية البالية وارتدت بدلاً منها أردية معاصرة تنطلق بها فى رحاب آفاق صور شعرية مرسومة كقطع الفسيفساء، تجتمع معاً لترسم صورة يفهمها كل منا على هواه كأنها مرايا تعكس أحوالاُ نفسية عدة.. هنا يلتقى الشعر بالفن التشكيلي معاً فى لحظة نادرة تختفى فيها الفروق بين ما هو مكتوب بالقلم وبين ما ترسمه ريشة الفنان..

  بدأ محمد مهدى حميدة حياته الإبداعية كفنان تشكيلية أكاديمى بعد أن نال الماجستير فى تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة ، وأصدر كتابين حول الفن التشكيليى من إصدار دار سعاد الصباح بالكويت ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. قبل أن تجذبه عوالم الكتابة الأدبية ويبدأ فى تأليف عدد من المؤلفات الأدبية التى نال عنها عدة جوائز فى كل من مصر والكويت والإمارات..

  أصدر مجموعته الشعرية الأولى فى العام 2012 تحت عنوان"صناعة الأنقاض" ، ثم أتبعها برواية "امرأة خضراء" بالشارقة عام 2014. ثم مجموعته الشعرية "قناص جبل الرماد" عام 2015من إصدار دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وقد قرأت تلك المجموعة الأخيرة والتى أراها امتدادا لفنه التشكيلي لا الأدبي، إذ تعج بالأخيلة غير المكتملة والصور التى تتداعى دون أن ترسو بك على شاطئ الوعى وإنما هى صور متحركة بحركة لفظية مستمرة تنقلك من معنى إلى معنى مناقض كأنها أمواج صاخبة لا تهدأ..

  القصائد تتفاوت فى أحجامها الشكلية تفاوت اللوحات المربعة والمستطيلة والقصيرة والأقصر كأنك أمام كتل لونية تتنازعها الجدران..يبدأ الديوان بقصيدة (العدميون) وكأنها بداية لونية رمادية ذات ظلال موحية بعوالم شاعرية تفيض بالغموض وتضع الخلفيات اللونية فى دائرة الضوء بينما تتقلص مساحات المباشرة والصراحة والوضوح.. وتساهم التعبيرات المتقاطرة من النص على تأكيد مدلول العنوان دون التخلى عن مساحات الغموض الممتدة عبر الكلمات والتعبيرات من نوع (اجتهدنا فى محو أشكالنا من عيون الناس- النائمين فى تلابيب الطيف- مستسلمين كلياً للتلاشى..) .. تلك القصيدة هى مدخل تدرك منه أنك مقبل على عوالم غير تقليدية من اللفظ الظلى كأنه لوحة غائمة لا تدرك تفاصيلها إلا إذا ابتعدت وضيقت عينيك لترى ما يختفى خلف الظل اللفظى من معنى مراوغ..

تتدافعك بعدها عناوين القصائد تدافع الأحلام المبتورة والرؤى السريعة كأنها نظرتك عبر نافذة قطار.. فتقرأ ( دودة القز الأخيرة- أعين ماكرة- عشاق المقهى- قصيدة غابرة- بلا عينين تقريباً- أسماك ملونة- دائرة- بلورة- كائن الجهات- ضحك-الغابة- حياة- كورتاثر- أصدقائى- فيما يبدو- حرير- جغرافيا- خريطة- سيناريوهات وشيكة- عبور) لتدرك أنك لست أمام فكرة واحدة جامعة ولا رؤية أم تتفتت إلى نسل من نفس النوع، وإنما هى فراشات متطايرة ذات أشكال وألوان غير تقليدية.. وهكذا تدرك دقة الاختيار فى كونها (مجموعة شعرية) ذات أطياف متعددة ،وليست ديواناً من نبع مشترك. ثم إنك تكتشف أمراً غريباً ليس معهوداً بين مختلف المجموعات الشعرية ، وهو أن عنوان المجموعة ليس موجوداً بين القصائد!! فلا توجد قصيدة من قصائد الكتاب اسمها (قناص جبل الرماد) وهذا ما يدفعك للتفكير أن المؤلف يقصد ذاته بهذا العنوان .. وأنه قناص من نوع جديد لا ينقب عما يبحث عنه الجميع فى كهوف من جبال الذهب أو فى ينابيع النور وبين الورود وأشجار الزيزفون، بل هو يكتشف لنا خبيئة "جبل الرماد".. فهو جبل رمادى طيفى يتغير شكله وحجمه باستمرار ولا يثبت ولا يستقر إذا قررت الوقوف بقدميك راسخاً فوقه..مثل هذا الجبل سرعان ما يتفتت فى يدك إذا حاولت إمساكه، لذا لا تحاول أبداً أن تقلد كاتباً استطاع بريشته أن يقتنص جبلاً من رماد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم