أقلام ثقافية

حميدة القحطاني: سياحة في سيرة ميخائيل نعيمة

عندما قرأت رواية سبعون "لميخائيل نعيمة" حلقت روحي عاليا، وشعرت بخفة وتسامي وبهجة ملئت سماء قلبي. أبهرني بأسلوبه الرشيق العذب، لمست عبق صدقه وتواضعه، مراقبته المستمرة لنفسه تأملاته صلته بالكون والطبيعة، تفرده ونضاله وصبره، اختياره للأدب ومواصلة الكتابة رغم حصوله على بكالوريوس حقوق من جامعة واشنطن، مسايرته لشغفه في فك طلاسم النفس، وخبايا الروح، وغموض الفؤاد الهمتني. فعندما ينتابني الشوق والتوق لمسك القيم العليا في زمن تهالكت فيه المنظومة الأخلاقية حيث اشعر أحيانا بالغربة، وأحيانا ثانية ينتابني بعض الشك والتساؤل هل انا غير واقعية؟ هل ان الصدق والطيبة والانفتاح على خلق الله ومحبة الناس وتجسيد الذات بلا اقنعة ضعف وقلة مهارة في فن عيش الحياة؟ فجاءت رواية سبعون وهي سيرة ذاتية لتمد لي يد ممتلئة بالطمأنينة والتسامي ولون لحياة حرة كريمة كان صاحبها هو بقدسيته وقوته وضعفه وحيرته وتساؤلاته، وتيهانه، وطريقه، ورشده.4303 ميخائيل نعيمة

سحرتني هذه العبارات "ستكون لي خلوتي، وستكون لي فيها سياحتي بعيدة في العالم اللامتناهي، وسأعود من سياحتي باليقين الذي تطمئن اليه النفس من حيث وجودها والغاية من وجودها. وذلك لن يتم لي الا بغربلة النفس من شوائبها. واذ انا احسنت الغربلة تناثرت عن كاهلي اعباء كثيرة. فانجلت باصرتي وبصيرتي، وأصبح في امكاني ان اعكف على تنظيف بيتي الروحي وترتيبه وان اتبين هدفي من وجودي، ثم ان امضي في شق طريقي الي ذلك الهدف".

هذه الرواية صاحبتها وصاحبتني بأجزائها الثلاثة لمدة أكثر من شهر، وحين انتهيت منها شعرت بحزن يشبه الحزن الذي يحل لحظة وداع صديق صدوق دافئ قريب للقلب، مؤنس، خفيف الظل مر الوقت برفقته بسرعة البرق، وظلت الروح بتوق وترقب للقاء اخر هكذا كان حالي مع سيرة "ميخائيل نعيمة".

أقف بصمت وتدبر وتامل امام مقاربته لمكنون الانسان بالبحر وطبقاته وابعاده واعماقه، وارتعاشاته وانتفاضاته، وتبخراته وتجمداته، وما ينطلق منه ليعود اليه من ينابيع وجداول وانهار.

اشعر بروحي كفراشة تتنقل بين موضوعات الرواية وكأنها حزمة ورد انهل من رحيقها غذاء لروحي. وانا اقرأ اشعر إنني اتنقل بين لوحات فنية يكمن فيها الكثير من الجمال، ما ان انتقل من لوحة الا وشعور الغبطة والنشوة يغمر قلبي، لجمال النصوص طعم يفتح شهية القلب والذهن لالتهام المزيد، أقف بكل اجلال امام هذه اللوحة التي يصف فيها وجود وشعور الام بأبهي وصف فيقول "يا لقلب الام! انه من غير هذا العالم، ومن عنصر ابقي وانقي وأشرف بما لا يقاس من اللحم والدم. انها النفحة العجيبة التي بها تحيي الاكوان وتتماسك، والمحور الازلي، الابدي الذي عليه تدور، وانه لأوسع من الزمان والمكان، والأقوى من الانحلال والزوال".

في رواية سبعون التقط الكثير من العبارات والجمل كأني التقط درر متناثرة هنا وهناك يدهشني ظاهرها وباطنها ومن هذه الدرر تلك العبارة التي لامست روحي " الفرح ليس وقفا على الأغنياء. والكدر ليس منحصرا في الفقراء. انهما في الفكر والقلب أولا، والحياة عادلة في توزيعها الفرح والترح على بنيها. وقد لا تكون المدنية اجمالا غير ارهاق للإنسان وانحرف به عن طبيعته وطريقه القويم". وهذه العبارة التي تتوافق وتنسجم مع مآلات روحي " أنى لأ وثر القلة مع صفاء الذهن والقلب على الوفرة مع اضطراب العقل والقلب معا. وان يكون لي هدف نبيل فأدب اليه دبيب النملة وأدركه لخير عندي من ان اطير بجناحي نسر من هدف خسيس الى هدف اخس".

في نهاية سياحتي في عالم ميخائيل نعيمة وجولاتي في تفاصيل الاحداث وتنقلاتي بين مواقف الأيام والمها وافراحها اربت على كتف روحي برويه وهدوء لأطمئنها أني عائدة لها.

***

د. حميدة القحطاني

في المثقف اليوم