أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: في وداع جنرال البحر الميت
غيّب الموت فجر يوم امس الاثنين، الأول من تموز الجاري 2024، الكاتب الالباني البارز، الشاعر، المسرحي، الروائي إسماعيل كاداريه، وذلك عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، امضى جله في الكتابة وفي المواجهات الجريئة حينا والحيية أحيانا، علما ان كاداريه عاش فترة ابداعاته الأولى وما تلاها حتى اعوام التسعينيات، تحت حكم أنور خوجة المتسم بصفة متطرفة من الشيوعية الستالينية ذات القبضة الحديدية واكاد أقول النارية خاصة فيما يتعلق بالأدب وأهله.
الكاتب الراحل من مواليد عام 1936، ولد لعائلة البانية مُسلمة مثقفة، جذبه عالم الكتابة والابداع بعد قراءته مسرحية "ماكبث" للكاتب الإنجليزي البارز وليام شكسبير، وهو لما يزل في الثانية او الثالثة عشرة من عمره، وبعد انجذابه هذا قرر ولوج عالم الكتابة والابداع الادبي، وقد درس الادب بين عامي 59 و60 في معهد غوركي الموسكوفي. ابتدأ الكتابة في أواسط الخمسينيات واوائل الستينيات، وقد أنتج في هذه الفترة العديد من الاعمال الشعرية والقصصية، وصدرت روايته الهامة " "جنرال البحر الميت" عام 1963، لتلفت اليه الأنظار بشدة ولتكرّسه كاتبا من ابرز كتاب أبناء جيله، ولتطبق بالتالي شهرته الافاق، وقد نشرت هذه الرواية في القاهرة مترجمة عن الألبانية عام 83، كما نشرت مترجمة عن الإنجليزية عام 2001. وتحكي هذه الرواية قصة جنرال إيطالي يزور ساحة القتال برفقة رجل دين للبحث عن جنود جيشه الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية.
مما يذكر فيما يتعلّق بالقارئ العربي، حول الكاتب الراحل، هذا القارئ تعرف عليه عبر تقديم دار الآداب اللبنانية اعماله الروائية مترجمة الى العربية، وقد يسّرت هذه الترجمات لكاتب هذه السطور قراءة ابرز اعمال كاداريه الروائية مثل: مدينة الحجر، طبول المطر، الوحش، ومن أعاد دورانتين، قصر الاحلام، الجسر غيرها من الروايات التي صدرت عن دور نشر عربية أخرى مثل رواية الحصن التي صدرت ضمن سلسلة روايات الهلال العربية المصرية العريقة.
بعد معايشة تواصلت عبر العشرات من السنوات، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية على النتاجات الروائية والشعرية عامة لهذا الكاتب المهم.
* كما سلف عاش كاداريه ضمن ظروف سياسية غير مريحة في ظل حكم أنور خوجة الديكتاتوري المعروف بقسوته وقبضته الستالينية المتشددة، وكان من الطبيعي ان يتأثر بهذه الأوضاع وان تترك اثارها على ما انتجه من اعمال روائية، مسرحية وشعرية أيضا، غير أن تأثره هذا لم يوقعه في بوتقة المباشرة والتقريرية الممجوجة في الادب والفن، وعلى العكس فان من يقرأ اعماله او بعضا منها، يدهش لما اتصفت به من قدرات وطاقات أدبية إبداعية، لا تتنازل عمّا يفترض ان يحافظ عليه أي ابداع ادبي يريد ان يُقرأ وأن يعيش طويلًا لا سيما فيما يتعلّق بما اتفق على توفره في الاعمال الأدبية من وجدانيات، أفكار، خيال وأسلوب.
* من هذا المنطلق يمكن للقارئ ملاحظة ان كاداريه تغلغل في تاريخ بلاده، خاصة خلال وقوعها ماضيًا تحت نير الاحتلال العثماني، وقام بأكثر من استعادة لهذا التاريخ ضمن محاولة لإسقاط ما حدث فيه على الواقع اليومي المعيش للبلاد، وذلك بهدف تعلُّم الدروس والعبر من الماضي، والاتعاظ به، ضمن تأكيد قوي على ما تضمنه ذلك التاريخ من اشراقات وطاقات تعزّز الانتماء وتؤصل الوجود، ولعلّ رواية "الحصن"، المذكورة انفا، تقدم مثالا ناصعا لما نذهب اليه.
* الى هذا يتعمّق كاداريه في العديد من نتاجاته الأدبية الروائية تحديدا، في الاساطير الشعبية، ضمن محاولة تتقاطع مع تغلغله في تاريخ بلاده، حدّ التوازي، ولعل روايته القصيرة "مَن أعاد دورنتين"، تقدّم مثالًا ساطعًا على هذا التغلغل في الأسطورة الشعبية الألبانية، وذلك عبر الموازاة بين اسطورة انبعاث الأخ للوفاء بعهده لأخته، وبين الاطار التاريخي – القروسطي- المتخيّل الحافل بالدسائس والمؤامرات، وكل هذا يفتح افق الرواية على العديد من التأويلات التي تتطلبها الاعمال الأدبية العظيمة في العادة، كونها ترفض القراءة أحادية البُعد، وتحثّ على القراءات المتعددة عبر الوفير من التأويلات كما سلف.
تنطوي برحيل كاداريه صفحة ناصعة البياض في الادب الروائي العالمي، صفحة منحت صاحبها أملًا وجعلت لحياته معنى، كما صّرح في اخريات أيامه، ومما يذكر عنه بعد رحيله امران احدهما يتعلّق بترجمة اعماله الى العشرات من اللغات، منها العربية بالطبع، والآخر ما حظي به من اهتمام واسع النطاق وفي اكثر من لغة، بالنسبة للأمر الأول، اعتقد ان قطاعات وفيرة من القراء في بقاع واسعة من عالمنا قرات اعماله الروائية المذكور وغير المذكورة كما قرات اشعاره خاصة حصان طروادة، وعرفته كاتبا مثريًا مثقفا ومؤثرا، اما بالنسبة للأمر الاخر فمن المعروف ان كاداريه رُشح اكثر من مرة للحصول على جائزة نوبل الأدبية غير انه لم يحظ بها لأسباب يمكن لكل مجتهد التكهن بها، لكنه لم يحصل عليها، واعتقد انه اكتفى وتعزّى باهتمام القراء بما انتجه من اعمال أدبية خلال عمره المديد.
***
ناجي ظاهر