أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: كنز ثقافي!

التراث المصري المعاصر يبدو كمغارة على بابا الحافلة بالجواهر والأحجار الكريمة.. والذين ينبشون الماضي ويزيحون التراب عن كنوزه المردومة سيكتشفون منجما لا ينضب..

أحد الذين اكتشفوا شيئاً من تلك الكنوز هو الكاتب (أبو الحسن الجمال) الذي أتحف المكتبة المصرية بإعادة اكتشاف أحد رموز الصحافة المصرية وهو الصحفي (طاهر الطناحي)!

الحكاية بدأت بالصدفة.. مقال كتبه الأستاذ أبو الحسن عن طاهر الطناحي بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله، فقرأه الشاعر الساخر ياسر قطامش وتحدث مع المؤلف وأخبره أن الصحفي الراحل له ابن على قيد الحياة يُدعَي ثابت الطناحي، فتواصل معه وإذا به يكتشف أرشيفاً غزيراً تركه الطناحي ولم يظهر للنور!

هكذا قرر أبو الحسن الجمال جمع هذا التراث من كافة مصادره، من مكتبة ابنه ومن دار الهلال التي قضي بها الطناحي أربعين عاماً من عمره، ثم من التراث المنشور للطناحي في دار الكتب. يقول الجمّال عن الطناحي وتراثه الغزير: (حاور الطناحي أعلام العصر من السياسيين وكبار الكتاب ومعظم رموز مصر والعالم العربي، وقد توفر لطاهر الطناحي المنابر والمنافذ للنشر/ فقد كان ينشر في كبري الصحف والمجلات منها مجلات دار الهلال مثل الهلال والمصور وكل شيء والعالم، والدنيا، والمصور، والاثنين والدنيا، ثم في مجلات أخري مثل الرسالة لأحمد حسن الزيات، والثقافة لأحمد أمين، وجريدة دمياط، وجريدة البلاغ، ومجلة العربي الكويتية ومجلات الأديب والآداب التي تصدر في بيروت، ومنبر الإسلام في مصر وغيرها).

معنى ذلك أن التراث المقروء والمسموع والمرئي من صور ولقاءات ومقالات ومؤلفات أدبية لهذا الصحفي الكبير هو تراث غزير ضخم يستحق إعادة عرضه واكتشافه وتقديمه لجمهور القراء.

هكذا جاءت فكرة جمع بعض هذا التراث الصحفي الثري الدسم في كتاب نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان: (من تراث طاهر الطناحي). جاء الكتاب في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وتم تقسيمه لأربعة محاور: المحور الأول منه شمل حوارات الطناحي مع أعلام العصر في السياسة والأدب والفن وهي حوارات متعددة ضمت الكثير من الأسرار والمعلومات غير المألوفة. أما المحور الثاني فقد تناول طرفاً من تراجم الطناحي عن أعلام العصر والتي جمعها في كتبه: "ساعات من حياتي"، و" ألحان الغروب"، و"الساعات الأخيرة" و"أطياف من حياة مي"، و"حافظ وشوقي" و"حديقة الأدباء"و"خليل مطران".

ثم المحور الثالث من الكتاب والذي سرد فصولاً أدبية وتاريخية ودراسات نقدية وفكرية للطناحي باعتباره شاهداً على عصره كأديب وصحفي ومحاور وأحد الذين وضعوا نصب أعينهم مهمة تسليط الضوء على معاصريه من الأدباء والسياسيين والفنانين كمحاور وكاتب للسيرة الغيرية وصاحب رأي في هذه الحقبة الثرية الحافلة بالأحداث والمواقف والشخصيات..وقد عاش الطناحي فى النصف الأول من القرن العشرين، بين عامي 1902 وعام 1967.

أما المحور الرابع من الكتاب الدسم فقد اهتم باستعراض الإنتاج الأدبي للطناحي في مجال القصة القصيرة، وهو المجال الذي اقتحمه كثير من صحفيي الجيل الأول والثاني؛ من واقع احتكاكهم بالحياة ووقائعها اليومية، ومن معايشتهم للأجواء الأدبية شديدة الحيوية آنذاك، والتي تحولت في بعض منحنياتها لمعارك أدبية بين مدارس الأدب المختلفة.

الحق أن الذي يراجع صفحات هذا الكتاب وما حواه من إنتاج صحفي واحد من بين عشرات الصحفيين الرائعين القدامي والحاليين لابد أن يتعجب ويندهش ويتساءل: أين كان كل هذا؟ وهل هناك قعر لهذا البئر السحيق الذي توارت فيه مثل هذه الكنوز الصحفية والأدبية؟! ولماذا لا نجد أمثال الكاتب أبو الحسن الجمال الغيور على هذا التراث لإعادة اكتشافه؟

ثم هناك أمر لابد من الإشارة إليه والتأكيد على مغزاه.. أن هيئة الكتاب بات لها اتجاه واضح رائع لمد الخيوط نحو الجذور لوصلها بالحاضر. وأن ثمة رغبة صادقة لإحداث حالة من التغيير النوعي في المحتوي من خلال اكتشاف كنوز التراث في مختلف مجالات الفكر والأدب والثقافة.

وفى ظل ارتفاع أسعار الطباعة والنشر الورقي، وبالرغم من هبوط الخط البياني للقراءة الورقية لا في مصر وحدها بل في كل الدنيا، إلا أن الهيئة ظلت حريصة على إتحاف المكتبة المصرية والعربية بمائدة متنوعة من المؤلفات رخيصة الثمن عالية الجودة ثمينة المحتوي، تلك المؤلفات التي تبرز حجم القوة الناعمة في مصر وضخامة ما تمتلكه من تراث فكري هائل لا ينضب.

البعض قد يصنف كتاب (من تراث طاهر الطناحي) كأحد الكتب المتخصصة في مجال الصحافة، وأن قراء الكتاب هم الأدباء والصحفيون، إلا أنني أؤكد أن مختلف الفئات المثقفة سوف يندهشون من قراءتهم لهذا الكتاب، وسوف يعدونه إضافة مهمة لمكتبتهم الخاصة.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم