تجديد وتنوير
سالم الشمري: سؤال العقل ازاء البنية الفكرية المتوارثة
تزايدت الاسئلة القلقة في راهن الجماعات الدينية المتطرفة حول امكانية اعادة قراءة النص الديني قراءة عقلانية خارج الاطر التقليدية التي اختزلت الدين من وسطيته المرنة المتسامحة الحاثة على التفكير والتدبر والتامل والتساؤل الى غلو متطرف حافل بالتحريم والترهيب وقمع الرأي وتكفير الأخر وتحويله الى وثن.. خارج الاطر التي صيرت القبلي والطائفي والسياسي والتاريخي، واحيانا الفوضوي دينا اثناء اتساع رقعة المنظومة الفقهية الحربية الصدامية واختصار الدين بالجهاد الدموي التكفيري وتجريد الاسلام من دعوة الانماء والتغيير بالسبل الاصلاحية السلمية الحضارية، ماساهم في ضخ المزيد من حركات التطرف الديني والدفع بها نحو المشهد السياسي وتنامي ظاهرة الارهاب محليا ودوليا.
ان هذا قد ولد اعتقادا متزايدا بتضاد المنظومة الفكرية المتوارثة مع قيم الاعتدال والتسامح في الدلالة والاستحقاق، بحيث تبدو عملية اعادة نقل الموروث الديني وخاصة بشكله التفسيري مطابقة لخصوصية كل فرقة او مشرعنة لها على ضوء انقسام الاسلام الى مذاهب وتشظي المذاهب الى تيارات واحزاب وجماعات. واذا كانت الخصوصية في معناها الطائفي الضيق تتطلب ثقافة ضغائنية قائمة على التجميع بدلا من ثقافة الابتكار والتجديد، فمن الطبيعي ان يتجه التفكير بهذه الفرق والجماعات الى التفتيش والبحث عن اصول مطابقة لخصوصيتها حتى لو اقتضى الامر اختراعها او تلفيقها.
ثقافة التجميع والنقل والمطابقة، هي نقيض ثقافة الاختلاف الناهضة بالمسائلة والتمحيص، واذا كانت الاولى تقوم على الاقتباس والنقل الاعمى، فأن ذلك قد ادى الى الامتثال السالب لماضي حافل بالانقسامات مما اوجد بدوره انساق تفكير في حياتنا لايمكن تجاوزها او التحرر منها فضلا عن التنبه لها.
يمكن القول ان الصراعات الدينية، بما فيها تلك التي داخل المذهب الواحد ذاته، قد دفعت بالشذاذ الظلاميين المملوئين حقدا وبغضا وجهلا والفارغين فكرا وثقافة ورحمة ليكونوا في صدارة المشهد الديني يقودون عريدة الكراهية يساندهم في ذلك ظلامية مجتمعات جاثمة على ركبتيها في احقاد الماضي السحيق ومشبعة حد التقيؤ بتقاليد وطقوس طائفية ساهمت في تجفيف الوعي الديني وصناعة اجيال من الرعاع بأمتياز.. مجتمعات امة ترفض التواجد في السياق الثقافي الحضاري المنفتح، وتصر على التواجد في السياق التاريخي الضغائني المنغلق، ما جعل الخلافات المذهبية تهبط بهذه المجتمعات الى الحضيض، فتحول التاريخ والواقع معا الى عبث ولكن بأسى شديد.
ثمة في تاريخ الاديان - كل الاديان – ما يجعل الفارق واسعا بين مضمون الدين ومظاهر الدين، حيث يلعب السياقان الزمكاني والاركيولوجي دورا في بلورة وانتاج المفاهيم التي من شأنها اشتقاق عدة اديان من دين واحد، ومن خلال هذا الاشتقاق تتنامى المفاهيم الصراعية والانتقامية التي تتكفل من جهة بنحت الخصوصية والمضي بالتمايز الى تخوم وهم التفوق ومن ثم الانكفاء الشديد على هذه الخصوصية عن طريق تضييق الدين واعادة انتاج الموروث وفق مايمليه وهم التمايز وتدعيم الخصوصية او حفظها. ومن جهة اخرى يجري تطويع هذا الموروث ليكون مطابقا مع التمايز الذي يوازي بدوره بين التعالي بهذه الخصوصية وبين الاخلاص لها عبر الانسياق وراء انحيازات ضيقة غالبا ماتتسم بأحاديتها وتماسكها وانغلاقها وتيبسها، وقد اسس هذا الانغلاق ويؤسس علائقيا لاّلية لاواعية وسلوكية تعملان على منع الاختلاف والتنوع والمغايرة، وبالتالي عدم الانفتاح رغم التغيرات والتحولات الجذرية في الحياة.
هذه الوظيفة اللاواعية التي يغذيها النقل الجماعي الموصد للتراث، اوجد وضعا مختلطا للدين تداخل فيه التاريخي بالسياسي والاسطوري بالخرافي والقبلي بالضغائني والتكفيري بالاستئصالي، حتى مهد ذلك لاستبدال السماوي بالارضي، الامر الذي رهن التفكير بما يمليه هذا التداخل،بحيث تمت الاطاحة بالعقل تحت شعار العقل فتسيد وعي التسليم وتهمش وعي التقويم وتحولت مسألة العقل والنص الى شعار، واحيانا هراوة اذا تطلب الامر ذلك في خضم الجدل الذي لايتوقف حول الثابت والمتغير.
خذ مثلا.. تعدد التصورات العقدية داخل الدين الواحد، فهي لم تتأسس على التجديد، ولاهي نتاجا لتحديث قراءة النص، فضلا عن انها ليست تصورات مؤسسة ولاناظرة لاولوية العقل وما تستدعيه هذه الاولوية بدورها من تحول في النص، اي تحول في فهم النص، بقدر ماكانت هذه التصورات تنظيرا لمشاريع تجزيئية عن طريق تسييس الدين وتديين التاريخ يقودها في ذلك ضرب من العصاب الذي لايعبر عن البعد الانتمائي بقدر مايعبر عن البعد القيمي التعصبي السائد الذي يقدم الانا على الحق والسيف على الكلمة والصراع على الحوار، حتى صار التوسل بالعنف عبر تطويع التصوص رغم انف الدين.. وسيلة لترسيخ الوجود الطائفي او السلطوي والتعالي بالخصوصية المذهبية والتماهي مع مشاعر التفوق والادعاء بنقاء الفرقة او الطائفة. واذا كان العنف كمدلول تاريخي يشكل اساسا لتكوين الاثنيات، فأن العنف السائد في الشرق الاسلامي يندرج في اطار استغلال المعطى الديني لصالح المعطى السياسي، ولاجل تبرير العنف وتديينه وجعله عبادة جهادية فقد تكفلت نصوص لاتدعو للقتل فحسب بل للابادة الجماعية احيانا وهي نصوص دموية متوثبة وكثيرة في الفقه والتراث عموما، وفي هذا السياق لعب حديث الثلاث وسبعين فرقة (الفرقة الناجية) دورا اساسيا في تعميق التمذهب والطائفية وسفك الدماء، وقد فعل هذا الحديث التناحري فعله عبر التاريخ ودونك ضحاياه وهم بالملايين مع انه حديث ملفق اساسا بشهادة اهل الخبرة والاختصاص وبأتفاق علماء الدين العقلاء الاصلاحيين من مختلف المذاهب.. انه حديث حافل بالهلاك وهو ابعد مايكون عن النجاة والناجية والناجين.
ان ادعاء كل جماعة بوصفها الفرقة الناجية، قد ساهم في شرعنة الضدية الضغائنية ورفع اسها الى مرتبة الالغاء والتكفير وحتى الابادة.. اي الغاء المجتمع العام (الامة) لصالح المجتمع الخاص (المذهب او الفرقة) وترتب على الحديث المشبوه الملفق السابق ان كل جماعة لاترى في الاخرى سوى زنادقة او عاصين ومرتدين، وقالوا روافض ونواصب، ماتسبب في سلسلة من جرائم الابادة الجماعية على طول تاريخ الامة التي تزعم الوسطية وتدعي الاعتدال.
ان شقاء الوعي الديني يدفعني الى التساؤل عما يمكن ان تؤديه البنية الفكرية المتوارثة في ظل التشويه الواسع للدين من على منابره وخلال فتاويه ووعاظه. واكاد ان اجزم ان هذا السؤال هو في صميم وعي المثقفين والمفكرين المتنورين وفي ضمير المتدينين الصادقين، وذلك لاستحالة تحقيق وعي وانفتاح اجتماعي ايجابي متسامح دون تغيير ثقافي اساسي يطال الدين مضمونا وموقعا. واذا كان هناك ثمة ما يمنع تداول هذا السؤال على النطاق العام، فأن طرحنا العلني له هنا تستدعيه الحاجة الملحة لوقف المجازر التي ترتكب باسم الدين وادعيائه، وتستدعيه ايضا الحاجة للاحتجاج ضد الوعاظ الفارغين من الثقافة ولربما الدين ايضا الذين يتربصون باي كلمة واعية لحشد ماامكن من رعاع يساندهم في ذلك ظلامية مجتمعات ترتع تحت سذاجة قاتلة قوامها الطاعة العمياء لوعاظ تسيدوا من خلال التطفل على الدين والمتاجره به والعزف على وتر الصراع وتعميق الشقاق.
سوف لن تكون (داعش) و(بوكو حرام) اخر الشضايا...
سالم مقبل الشمري - كاتب وباحث
ميشغان - أمريكا