علوم والذكاء الاصطناعي
زهير الخويلدي: مقاربة استشرافية حول تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

بين التوظيف الرأسمالي الاقتصادي والبديل الاشتراكي الإنساني
(سيكون ابتكار الذكاء الاصطناعي أعظم حدث في تاريخ البشرية. ولكنه قد يكون الحدث الأعظم أيضًا)... ستيفن هوكينج
مقدمة: في عصرنا الحالي، حيث يتسارع تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بوتيرة غير مسبوقة، يبرز تساؤل أساسي حول طبيعة توظيف هذه التكنولوجيا: هل هي أداة لتعزيز الاستغلال الرأسمالي، أم يمكن تحويلها إلى وسيلة لتحقيق عدالة اجتماعية وإنسانية؟ هذه الدراسة الأكاديمية الاستشرافية تهدف إلى استكشاف هذا الثنائي من منظور نقدي، مستندة إلى النظريات الاقتصادية السياسية، خاصة التحليل الماركسي، مع التركيز على التأثيرات المستقبلية حتى عام 2030 وما بعده. سنقارن بين نموذج التوظيف الرأسمالي، الذي يركز على الربحية والتراكم الرأسمالي، والبديل الاشتراكي الإنساني، الذي يعيد توجيه التكنولوجيا نحو الاحتياجات الجماعية. المنهج المعتمد هنا تحليلي استشرافي، يجمع بين البيانات التاريخية والحالية من مصادر أكاديمية وتقارير عالمية، مع الاستناد إلى نماذج تنبؤية مثل تقارير صندوق النقد الدولي ودراسات ماركسية حديثة. الهدف ليس التنبؤ المطلق، بل استكشاف السيناريوهات المحتملة لتشجيع النقاش حول مستقبل العمل والاقتصاد. في الواقع"يطرح الذكاء الاصطناعي سؤالاً جوهرياً: هل نريد أن نصنع آلات تفكر مثلنا، أم أن نصبح آلات بلا مشاعر؟"، فكيف يتم توظيف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟ وماهي حدود هذا التوظيف؟
1. التوظيف الرأسمالي الاقتصادي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي
""لعلّ الذكاء الاصطناعي هو أهمّ ما ابتكرته البشرية على الإطلاق. أراه أعمق من اكتشاف النار أو الكهرباء."
في النموذج الرأسمالي، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كـ"تكنولوجيا عامة" تعزز الإنتاجية والربحية، لكنها في الوقت نفسه تعمق التناقضات الرأسمالية. يعتمد هذا النموذج على استخراج البيانات كسلعة أساسية، مما يؤدي إلى تركيز السلطة في يد شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل وأمازون ومايكروسوفت. التأثيرات الرئيسية:
البطالة التكنولوجية: يتوقع أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على 40% من الوظائف العالمية، مع استبدال المهام الروتينية في الاقتصادات المتقدمة بنسبة أعلى (حوالي 60%)، بينما يعزز الإنتاجية في الأسواق الناشئة بنسبة 26-40%. هذا يعمق عدم المساواة، حيث يفقد العمال المهارات المنخفضة وظائفهم دون تعويض كافٍ، مما يؤدي إلى "بطالة هيكلية" تشبه "الثقب الأسود الرأسمالي".
تركيز الثروة: يعتمد الذكاء الاصطناعي على بيانات هائلة، مما يعزز احتكار الشركات الكبرى، حيث يصل استثمارها في البحث والتطوير إلى مئات المليارات دولارًا سنويًا. يُوصف الذكاء الاصطناعي كأداة توسع الرأسمالية عبر "التفرد التكنولوجي"، مما يحول العمال إلى "نيو-بروليتاريا" من مزودي البيانات.
التأثير البيئي: يستهلك تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي طاقة هائلة، مساهمًا في تغير المناخ، حيث يُقدر أن مركز بيانات واحد ينتج انبعاثات كربونية تعادل 5 سيارات في العمر الافتراضي. هذا يعكس التناقض الرأسمالي: الابتكار للربح على حساب الكوكب.
الجانب: التأثير الرأسمالي،
الأمثلة: الوظائف: استبدال 40% من المهام الروتينية
روبوتات في التصنيع، خوارزميات في الخدمات المالية
الثروة: تركيز في 1% من الشركات
شركات التكنولوجيات الكبرى تسيطر على 70% من السوق العالمي
البيئة: زيادة الانبعاثات بنسبة 8-10% بحلول 2030
تدريب جي بي تي-4 يستهلك طاقة تعادل 1000 منزل أمريكي
2. البديل الاشتراكي الإنساني: إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو التحرر
""ما نحتاجه جميعًا هو ضمان استخدامنا للذكاء الاصطناعي بطريقة تُفيد البشرية، لا على حسابها."
يُقدم النموذج الاشتراكي بديلاً يعيد توجيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الاحتياجات الجماعية، مستوحى من النظرية الماركسية التي ترى في التكنولوجيا قوة إنتاجية اجتماعية. هنا، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة للديمقراطية الاقتصادية، حيث يُدار كممتلكات عامة لتقليل الاستغلال وتعزيز المساواة.
الركائز الرئيسية:
التخطيط الديمقراطي: في اقتصاد اشتراكي، يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الاحتياجات الاجتماعية بدلاً من الطلب السوقي، مما يقلل من الإفراط في الإنتاج ويحقق كفاءة بيئية. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تنظيم الإنتاج لمواجهة تغير المناخ، كما في نموذج "التخطيط الاقتصادي الواعي" الذي يتجاوز الفوضى الرأسمالية.
التوزيع العادل: يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى "نهاية العمل المأجور"، حيث يُعاد توزيع الثروة عبر دخل أساسي عالمي أو ملكية جماعية للإنتاج الآلي، مما يحرر البشر للإبداع والرعاية الاجتماعية. يرى البعض في ذلك "مشروع تحرري" يعتمد على تقنيات مفتوحة المصدر لتجنب السيطرة الرأسمالية.
التحديات والحلول:
يتطلب هذا النموذج تعاونًا دوليًا، كما في تجارب الصين حيث يُدمج الذكاء الاصطناعي في اقتصاد "سوق اشتراكي" لتعزيز التنمية الجماعية، مقابل الغرب الذي يركز على التنافس الجيوسياسي.
الجانب: البديل الاشتراكي
الأمثلة: الوظائف: تحويل إلى عمل إبداعي، تقليل ساعات العمل
الذكاء الاصطناعي في التعليم والرعاية الصحية للجميع
الثروة: توزيع جماعي عبر الذكاء الاصطناعي
نماذج تعاونية مفتوحة المصدر
البيئة: تخطيط مستدام
الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالكوارث وتقليل الإهدار
"الذكاء الاصطناعي التوليدي تقنية قوية تتطلب دراسة متأنية وتنظيماً دقيقاً لضمان استخدامها لصالح المجتمع."
3. المقاربة الاستشرافية: سيناريوهات المستقبل
"سيُغيّر الذكاء الاصطناعي عالمنا أكثر من أي شيء رأيناه من قبل."
بناءً على الاتجاهات الحالية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات استشرافية حتى 2040:
السيناريو الرأسمالي الهيمني:
تسيطر شركات التكنولوجيا الكبرى على الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى بطالة جماعية (50% من الوظائف) وازدياد عدم المساواة، مع صراعات جيوسياسية حول الموارد (مثل رقائق الذكاء الاصطناعي). هذا يعمق الأزمات البيئية والاجتماعية، كما يحذر الباحثون من "سقوط معدل الربح".
السيناريو الاشتراكي التحرري:
يُعاد توجيه الذكاء الاصطناعي عبر حركات يسارية عالمية، مما يؤدي إلى اقتصاد ما بعد الندرة حيث يُدار الإنتاج جماعيًا. يقلل هذا من ساعات العمل إلى 20 ساعة أسبوعيًا، ويحقق عدالة بيئية، كما في اقتراحات "اليسار التقدمي" للذكاء الاصطناعي كأداة تحرر.
السيناريو الهجين:
مزيج من الاثنين، حيث يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى اقتصاد غير نقدي يعتمد على الموارد المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مع عناصر اشتراكية في الديمقراطية الرقمية. هذا يتطلب تنظيمًا دوليًا لتجنب الانهيار.
هذه السيناريوهات تعتمد على عوامل مثل السياسات الحكومية والحركات الاجتماعية؛ فالذكاء الاصطناعي ليس محايدًا، بل يُشكل حسب السلطة المهيمنة.
"الذكاء الاصطناعي التوليدي هو أقوى أداة إبداعية على الإطلاق. لديه القدرة على إطلاق العنان لعصر جديد من الابتكار البشري".
خاتمة
"مع الذكاء الاصطناعي، ما يميزنا لم يعد ما نعرفه، بل ما نتخيله."
تُظهر هذه المقاربة الاستشرافية أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ليست قدرًا محتومًا، بل خيارًا سياسيًا. التوظيف الرأسمالي يعمق الاستغلال ويهدد الاستقرار، بينما يوفر البديل الاشتراكي الإنساني فرصة لتحقيق مجتمع عادل ومستدام. لتحقيق الأخير، يجب على الحركات اليسارية بناء تحالفات عالمية لتطوير تقنيات مفتوحة وديمقراطية. في النهاية، المستقبل ليس للآلات، بل للبشر الذين يوجهونها نحو التحرر. فكيف يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في التحرر الوطني والتنمية المستدامة؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي