دراسات وبحوث

علي أسعد وطفة: عندما تكون الأنثروبولوجيا عدواً للمرأة!

"كل ما في المرأة لغز، ولغزها كلمة واحدة هي "الأمومة".. نيتشه

ويقول المثل الفرنسي: "تفضل المرأة أن تكون جميلة أكثر من أن تكون ذكية لأنها تعلم أن الرجل يرى بعينيه أكثر مما يفكر بعقله"  

***

تشكّل الأدبيّات التاريخيّة والاجتماعيّة الّتي كتبت عن وضعيّة المرأة تراثاً إنسانيّاً لا تستنفد أهمّيّته، ولا ينضب معين غزارته. وفي خضمّ هذه الأدبيّات يلاحظ المتتبّع تجانس الأفكار والتصوّرات الخاصّة بوضعيّة المرأة، ولا سيّما ما يتعلّق بالوضعيّة التاريخيّة منها، حيث تتكرّر الأفكار في صلب الأبحاث والدراسات النسويّة الجارية، ويشعر المتابع لقضيّة المرأة أنّه لا يحتاج إلى المزيد من الأفكار كلّما توغّل في قراءة ما كتب وما يكتب عنها، حيث تبدو الأفكار والتصوّرات وكأنّها تكرار لما سبق للمرء أن تناوله بالقراءة وتداوله بالتفكير.

لقد شكّلت قضيّة المرأة نقطة تقاطع ميادين علميّة ومعرفيّة مختلفة في مجال العلوم الإنسانيّة ولاسيّما في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. وقد أسهمت الأنثروبولوجيا الثقافيّة في رصد هذه القضيّة، وفي تحليل معطياتها، ودراسة أحوالها، على هدي مناهج علميّة رصينة ومتكاملة (1). وقد قدّر للأبحاث الأنثروبولوجيّة أن تسجّل حضورها المميّز في مباحث المرأة، وأن يكون لها قصب السبق أحياناً في التصدّي لبعض المسائل الجوهريّة الّتي تلامس حياة المرأة، وترسم لها مصيرها في غمرات النهوض الاجتماعيّ الّذي شهدته الإنسانيّة، ولا سيّما في القرنين التاسع عشر والعشرين. وممّا لا شكّ فيه أنّ الخلاصات الّتي توصّلت إليها الأعمال الأنثروبولوجيّة تشكّل اليوم ركناً أساسيّاً ومركزيّاً في اجتماعيّات المرأة وأدبيّاتها. ومع ذلك كلّه يتوجّب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ معطيات البحث الأنثروبولوجيّ قد شكّلت منطلقاً أيديولوجيّاً لأنصار تحرّر المرأة حيناً وأعداء تحرّرها حيناً آخر. وهذا يعني أنّ الأنثروبولوجيا لم تستطع في أفضل حالاتها أن تنفصل كلّيّاً عن السياق الأيديولوجيّ الّذي ألهب في كثير من الأحيان الاتّجاهات العلميّة في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع.

تتجسّد قضيّة المرأة المركزيّة في وضعيّة الاختلاف والتجانس بين المرأة والرجل وما يترتّب على هذا التباين والتجانس من إشكاليّات الموقع الاجتماعيّ لكلّ جنس في سياق نظرة كلّ من الجنسين إلى الجنس الآخر. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة المركزيّة الّتي طرحت وما زالت تطرح نفسها بإلحاح هي: هل تعود وضعيّة القهر الّتي تحيق بالمرأة إلى الظروف التاريخيّة الاجتماعيّة؟ أم أنّها وضعيّة تعود إلى شروط وجودها البيولوجيّة الّتي رسمتها لها الطبيعة؟

وفي معرض التحدّي الّذي يفرضه هذا التساؤل يحاول الأنثروبولوجيّون أن يقدّموا إجابات متباينة متنافرة وأغلبهم يميل إلى الاعتقاد بأنّ دونيّة المرأة مسألة تفرضها شروط حياتها البيولوجيّة والوظيفيّة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى آراء كلّ من سـيزار لومبروزو(Cesar Lombroso)2 وكيليمو فيريرو (Guglielmo Ferrero) 3 اللّذين يدينان كلّ محاولة لتفسير دونيّة المرأة كنتاج لشروط وجودها التاريخيّـة الثقافيّة.

هذا ويعدّ كتاب لامبروزمو وهو بعنـوان "المرأة المنحرفة والمرأة الطبيعيّة"(4) من أشهر الكتب الّتي تناولت قضيّة المرأة ذيوعاً وصيتاً وشهرة، حيث تناول فيه وضـع المرأة الطبيعيّة وسماتها وعيوبها وخصائصها الفيزيائيّة والنفسـيّة والأخلاقيّة وقدراتها العقليّـة ثـمّ ميولهـا وواجباتهـا.

 لقد ظهر كتاب لامبروزو "المرأة المجرمة" (The Female Offender)5 في عام 1893، وذلك بعد ثلاثين عاماً من تحقيق الوحدة الإيطاليّة. ويمثّل هذا الكتاب نقطـة البدايـة لما سيطلق عليه في النصف الثـاني مـن القـرن التاسع عشر المسألة النسائيّة. لقد كان الكتاب في واقع الأمر خلاصة اكثر من عشـرين عامـاً من المجـادلات والطروحـات والأبحاث والمساجلات الّتي تناولت مصير المرأة ودورها المعاصر في إطار الحياة الاجتماعيّة. ولقد صنّف هذا الكتاب على أنه الحلقـة النهائيّـة الّتـي أقفلت النقاش حول مسألة المرأة، وذلـك لأنّه انطلـق مـن المنـاهج العلميّة الّتي اعتمدها كتاب محاطون بهالـة مـن النفـوذ والخـطورة والأهمّيّة.

لقد عمل كتاب لامبروزو عـلى إسكات الاحتجاجات النسائيّة، وطالب بضرورة إصدار التشريعات المعادية لها. ومع أنّ هذا الكتاب كان يدفع الجدل، ويفتح سجلّاً جديداً لمناقشـات حاميـة امتدّت حـتّى القرن اللاحق، إلّا أنّه قد شكّل منطلقاً فكريّاً للأيديولوجيّات المعادية للمرأة وهي الأيديولوجيّات الّتي تجسّدت فـي المرحلة اللاحقة من بداية القرن العشرين، وذلك في صـورة النازيّـة والفاشيّة.

يقرّر لامـبروزو في كتابه هذا شرعيّة اضطهـاد المرأة، ويصدر حكمه العلميّ عليها، وحكمه هذا، كما يعتقد، يقوم على أسس علميّة تجريبيّة لا تدحض، وهو أنّ المرأة إنسان لم يكتمل نموّه بعد. ولم تكن رؤية لامبروزو هذه جديدة في الساحة الأنثروبولوجيّة ، فنظريّته هذه، على الرغم من الصدى الّذي تركته، كـانت صـدى لنظريّة الأنثروبولوجيّ والفيلسوف المعروف جـيوسيب سـيرجيGiuseppe Sergi) )6.

لقد واجهت هذه الأنثروبولوجيّة المعادية للنساء تحدّيات نقديّة على أيدي مفكّرين من مشارب متنوّعة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى الانتقادات الّتي نهض بها الوضعيّيّون الاشـتراكيّون. ومع ذلك يمكن القول بأنّ غالبيّة الأنثروبولوجيّين الإيطاليّين يتّفقون جـميعهم تقريبـاً مع لامبروزو وسيرجي في موقفهم المتشدّد من المرأة، فالمرأة كما يؤكّد هؤلاء المفكّرون أقرب إلى الطبيعة من الرجل، وأنّ دونيّة المرأة تعود إلى أسباب طبيعيّة بالدرجة الأولى وهي قلّما تعود إلى شروط اجتماعيّة ثقافيّة.

ويصعب على الباحث أن يسـتعرض مخـتلف الطروحـات العلميّة حول المرأة، والّتي بدأت تنطلق بغزارة منـذ عـام 1870 حـتّى العقـد الأوّل من القرن العشرين. وسجّلت هذه الطروحات المختلفة حضورها في صفحـات الدوريّـات والمجلّات العلميّة الصادرة في تلك المرحلة.

ومن فيض النظريّات الّتي نهضت في هذه المرحلة يمكن الإشارة إلى الجهود الفكريّة لكلّ من جيوسيب سيرجي Guissepp Sergie وباولو مانتكازا (Peolo Mantegazza) (7) وهمـا مـن كبـار الاختصاصيين في مجال الأنثروبولوجيا الثقافيّة في القرن العشرين.

يجتهد سيرجي في نفي الخاصّة العبقريّة عند المرأة، فالمرأة لا يمكنها أن تصل إلى مستوى العبقريّة فالعبقريّة خاصّة ذكوريّة، وينطلق لتأكيد رأيه هذا من المنظور التطوّريّ، أو من نظريّة الاصطفاء الطبيعيّ الّـتي غالباً ما يركن إليها في محاولة تأكيد دونيّـة المرأة. لقد وجدت المرأة نفسها في سياق تطوّرها التاريخيّ، وتحت إكراهات تكيّفها مع وظائفها الطبيعيّة المعروفة، محرومة من تطوّر الإمكانيّات النفسيّة والعقليّة الأخرى غير الضروريّة لأداء وظائفها الطبيعيّة، ومثل هذه الإمكانيّات كانت ضروريّة جدّاً من أجل الوصول بالمرأة إلى منتهى النضـج النفسيّ والعقليّ وذلك في صيرورات النضال من أجل الوجود. ومع ذلك فالمرأة، كما يعتقد سيرجي، تشكّل ينبـوع العبقريّـة وحاملاً لها، أي بوصفها أداة لتحويلها وراثيّاً، أي أنّها حامل لسمة العبقريّة ومورّثة لها، لكن لا يمكن لهذه العبقريّة أن تنهض وتتفجّر إلّا فـي الرجـل . وبعبارة أخرى المرأة كما تبدو له ناقلة للعبقريّة، لكنّ هذه العبقريّة لا تعطي ثمارها في المرأة ولا تزدهر فيها، فالعبقريّة جوهر الرجل، وبعد من أبعاده الإنسانيّة.

 ومن هذا المبدأ ينطلق سيرجي للاعتقاد بأنّ المرأة العبقريّـة ليسـت امرأة طبيعيّة، فالعبقريّة ليست من خصائص النساء، وليست وظيفة من وظائف المرأة. والخلاصة الّتي يريد أن يصـل إليها سـيرجي هـي أنّ الظـروف الاجتماعيّـة لـم تقلّل أبداً من أهمّيّة الخصــائص العقليّة للمرأة، فدونيّة المرأة ذات طابع بيولوجـيّ أو طبيعيّ تفرضها طبيعة المرأة وخصائصها البيولوجيّة.

 لقد خـصّص، بـاولو مانتوكـازا (Paolo Mantegazza)، وهـو طبيـب ورحالة وأنتروبولوجي معروف، عدداً من مقالاته وكتاباته لدراسة مسألة المرأة. ويعدّ كتابـه علـم نفس المرأة (Psychologie de la femme) من أكثر أعماله أهمّيّة وهـو الكتـاب الّـذي ظهر في العام نفسه الّذي ظهر فيه كتاب المرأة المنحرفة. وفي هذا الكتاب يتناول باولو الجوانب السـيكولوجيّة للمرأة وفقاً للمنطق الوضعيّ، ويشمل ذلك جوانبهـا الفيزيائيّـة والعقليّة.

 ويتميّز باولو بأنّه أقل ميلاً إلى التشدّد في موقفه من المرأة، وذلك بالقياس إلى مفكّري عصره. وما يتميّز به عن غيره أنه كان يستبعد الحتميّة البيولوجيّة الّتي يؤكدها كلّ مـن سـيرجي ولامـبروزو فـي إدانتهم للمرأة. فدونيّـة المرأة كمـا يعتقــد مانتوكازا نتاج لحركة التاريخ والمعايير الاجتماعيّة ومرهونة بشروط وجودها الاجتماعيّ والثقافيّ والإنسانيّ على حدّ سواء، ولا سيّما طابع ومضمون السلطة الذكوريّة الأبويّة السائدة.

 وعلى الرغم من ذلك كلّه، فإنه باولو يعود ليقع في مطبّ الرؤيـة الضيّقـة الّتي تقـوده إلى دائـرة التطوّريّـة، وإلى أحكامها حـول السـمات الأنثويّة السلبيّة، وذلك حين يذهب إلى التأكيد على أهمّيّة الأسباب الطبيعيّة في تعزيز مبدأ دونيّة المرأة.

ويتجسّد موقف باولو حين يتناول مكان المرأة في عالم المعرفة العلميّة، حيث يبرز المكان الثانويّ الّذي حقّقته المرأة في هذا الميدان، وهو بالتالي يبرّر هذا القصور على نحو طبيعيّ يرى أنّ ما تهدره الطبيعة في جانب تقتصده في جانب آخر، فإنجاب المرأة للرجال عمل كبير وشاقّ وخلّاق، وهذا ما يضعف من إمكانيّة المرأة في مجال النبوغ والعبقريّة والإبداع.

ومن هذا المنطلق يعتقد بأنّه يجب على المرأة أن تكـتفي بـدور هامشـيّ وثانويّ فـي مجـال الحياة الثقافيّة، ولها بالمقابل أن تزدهـي بوظائفهـا البيولوجيّـة، وأن تنادي بإعادة الاعتبار الاجتماعيّ لهذه الوظائف الإنسانيّة الخطرة. ومن هذا المنطلق يعلن باولو: أنّـه يجـب عـلى المرأة أن تبقـى فـي المنزل، ويجب إقناعها بالتنازل عن أيّ طموح عقليّ وأن تتخـلّى عـن الرغبة في استطلاع آفاق بعيدة.

 وعلى خلاف ذلك يتمايز مانتوكازو عن كلّ من لامبروزو وسيرجي رافضاً الفكرة الّتي تقول إن تطوّر المرأة توقّف في مرحلة دنيا من مراحل التطوّر وذلك بالنسبة للرجل، وأن هذه المرحلـة هـي أقرب إلى الأسلاف البدائيّين. وعـلى خـلاف ذلـك، فهو يدرك جانباً آخر لا يقلّ أهمّيّة وهو: إسراف الرجال في اسـتخدام السلطة. " فالرجل لا يكتفي أن يأخذ المكان الأوّل تحت الشمس، بل يريـد أن يبرهن أنّ المرأة تأخذ مكاناً وسطاً بينه وبين القرود. وهذا ما يعطيه الحقّ في استبعادها.

 ويعمل مانتوكازا فـي مرحلـة لاحقـة على تطـوير أفكـاره حـول المرأة، ويتجلّى هذا فـي كتابـه الأخير حـول مسألة المرأة وذلك عام 1906. يبدأ مانتوكازا بالاعتراف أنّ هناك مشاعر قوميّة تعين إعطاء رؤية موضوعيّة حول المرأة. فالمسألة ذات طابع اجتماعيّ ويضاف إلى ذلك أنّها ليست مسألة علميّة، بل مسألة ترتبط بالعواطف والانفعالات والحياة الثقافيّة في المجتمع، ومن هنا تتصلّب قضيّة المرأة، وتبدو عصيّة على الحلّ.

ويتعرّض مانتوكازا، في مسار آخر من نظريّته، لمسألة الاختلاف بين الجنسين وهو في سياق يعتقد بأنّه يمكن لكلّ جنس أن يطوّر طاقاته وإمكانيّاته بعيداً عن تصوّرات تقسيم هذه الطاقـات طبقيّاً إلى طاقات عليا ودنيـا. فالمسألة لا تعني ولا يمكن أن تعني اعترافاً بالمرأة كآخر، ومـع ذلـك فإنّهـا الفرصة للخروج وبطريقة متوازنة وراشدة من المعضلة الّتـي يعانيها الأنتروبولوجيّون كلّما قاربوا السمات الخاصّة بالمرأة.

 والمسألة الّتي تطرح نفسها هنا وبإلحاح هي: ما المكـان الّذي تحتلّه مسألة اختلاف المرأة عن الرجل في إطار الاستراتيجيّة المعرفيّـة والعقائديّة الخاصّـة بـالعلوم الإنسانيّة فـي النصـف الثـاني مـن القرن التاسع عشر؟ وهنا لا بدّ لنا ومن جديد من العودة إلى الأنثروبولوجيا اللامبروزيّة الّتي انطلقنا منها.

يمثّل عصر الوضعيّة (Positivisme) مرحلة من مراحل الدرب الطويل الّذي طرقتـه العلوم الإنسانيّة في البحث عن وعي نقديّ يتّصف بالشموليّة ويستحوذ على خاصّيّته العلميّة والموضوعيّة. لقد عـرفت الفـروع الأنثروبولوجيّة فـي القـرن التاسـع عشـر تناقضات صارخة، وترتّب عليها أن تعالج حشداً من الموضوعات والقضايا أبرزها موضوعات: المجتمعات البدائيّة، والجريمة والجنون والمرأة والأطفال، وهي موضوعات بالغة التنـافر، إذ لا يوجد مـا يربط بين هذه الموضوعات على نحو منطقيّ والرابط الوحيد بيـن هـذه الموضوعات هـو أنّها موضوعـات مباينـة للمعـايير الطبيعيّـة للوجود.

لقد شكّلت مسألة تفسير الاختلاف بين المرأة والرجـل النقطـة العقديّة للأنثروبولوجيا التطوّريّة. ومـن الصعـب جـدّاً إيجاد التفسير المناسب لهذه المسألة. لقد ترتّب على الأنثروبولوجيّة التطوّريّة أن تواجه هذا التحدّي المعرفيّ، وأن تعمل على تطريق منهج جديد يمكن من تفسير هذا الاختلاف وتصنيـفه في الوقت نفسه. وقد أملت هذه الإشكاليّة وقوع الأنثروبولوجيّة التطوّريّة في فخّ التصنيف، وذلك لعدم القدرة على التفسير. ويتمثّل هذا المنهج في إجراء سلسلة من المقارنات بين الثنائيّات المعروفة مثل التقابل ن بيـن ثنائيّـات: المجهول والمعلوم، الطبيعيّ واللاطبيعيّ، الاستثنائيّ والعاديّ.

فالمتوحّش، كما يرى لامبروزو، كائن توقّف تطوّره في درجة دنيا مـن سلّم التطوّر، ولا يمكن لنا أن ننكر وجـود طاقـات عقليّة كافية تمكّنه من الوصول إلى الحضارة نظريّاً، فهو من وجهة نظر واقعيّة يسير على درب الحضارة ببطء شديد إلى درجة يبدو فيها وكأنّه لا يتحرّك أبداً. ويسـتطيع المتوحّـش أن يتسـلّق سـلّم الحضـارة عندما يحظى بعناية قوّة تدفعه تدريجيّاً وبصعوبة إلى هـذا المستوى الحضاريّ.

 ولكنّ المرأة ليس لها هـذه الإمكانيّة، طبعاً إمكانيّة التطوّر بدفع خارجيّ، فعمليّـات التطـوّر لـم تعدها إلّا لأداء هدف واحد هو: الحفاظ على النوع. وهذا يعني أنّ دونيّة المرأة قائمة في بنيتها البيولوجيّة، فهي كائن وظيفيّ وخاصّة فيما يتعلّق بواجباتها البيولوجيّة والإنجابيّة. ومن هنا يأتي الحـكم عليهـا بـدون رجعة: إنّ اختلاف المرأة الطبيعيّ عن الرجل يقودها إلى مواقع دونيّتها. وذلك لا يعني، كما رأينا سابقاً، أنّ الفكر الأنتروبولوجـيّ لا يعتقد بإمكانيّة تحسين شروط المرأة. فحالهـا كحـال المجـرم أو المتوحّـش كلاهمـا يحتاج إلى القيادة والتوجيه، وإلى الحماية والرعايـة الإنسانيّة الدافئة الّتي تبدو ضروريّة لتخفيف عناء عبوديّتهـا وشدّته.

 إنّ حماسة العلماء للحكم على المرأة بالخضوع لهيمنة الرجل لم يؤدّ إلى بناء وعي نظريّ كامل خاصّ. بالاختلاف بين المرأة والرجـل، إذ ليس من الفطنة أن يضع المرء نفسه في دائرة علميّة وضعيّة.

فالنسـاء يوجدن فـي داخل المجتمع، وهنّ يعشن إلى جوار الرجال. وهنا لا يمكن الفصل بين وجود المرأة والرجل أو بين قدريهمـا أو سـيرة حياتهمـا، وذلـك منـذ الولادة حتّى الموت. ومن ثم فإن أيّ تحسين في شروط حياة المرأة لا يخلّ بالتوازن الراسخ، بل يؤدّي إلى فتح ثغرة في علاقـات السـلطة القائمـة قد تهدّد موقع الرجل. وذلك عندما تسيطر على شـروط وجودهـا. ومن هنا نجد بأنّ الرجال يستخدمون الوسائل كلها من أجل المحافظة على امتيازاتهم.

ومن أجل المحافظة يستخدم الرجال الحجـج العلميّـة الأكـثر صلابـة ومقاومة للدحض وأبرزها هذه الّتي تقول: بأنّ دونيّة المرأة لا تعود إلى شـروط تاريخيّـة، ولكنّهـا مسجّلة في بنيتها البيولوجيّة وهي دونيّة لم تفرض من قبل الرجل، بـل أمّلتها الطبيعة. فالطبيعة محكومة بقانونيّاتها وهـي القانونيّـات الّتي تكتشف عن طريق العلوم الحديثة. فالطبيعـة الّتـي وهبـت المرأة دورها في أن تكون أنثى الرجل وأمّ الرجل، وهي في الوقت ذاته تشير إلى خـطورة أن تكون مكافئة للرجـل فـي إدارة الاقتصاد والسياسة والتشريع.

لقد شهدت أوروبا فيما بعد مرحلة تحقيق الوحدة القوميّة موجـة إعادة النظر في البيئة التشريعيّة، ومن ثم فإن حركة التصنيع الّتي شملت البلاد والسيطرة على المدارس الّتي تحرّرت من رقبة الكنيسة كانت في أصل عمليّـات تمـدين المجتمع، وكـانت النسـاء عنصراً فاعلاً في إطار هذه الحركة.

 وظهرت حركة واسعة لإعادة النظر تشريعيّاً فـي مشـكلة الحـقوق المدنيّة والسياسيّة للمرأة. وخلال هـذه المرحلـة ظهـرت تشـريعات حكوميّة إصلاحيّة عملت على تحسين شروط حيـاة المرأة فـي الطبقـات الوسطى. وظهرت أيضاً مجـادلات برلمانيّـة واسـعة حـول مسألة دور المرأة وواجباتهـا فـي العائلـة والمجـتمع وحـول مسألة الطـلاق والاقـتراع العـامّ. ومـن خـلال النضال المحــامين والقــانونين والسياسيّين وبالطبع رجال العلم استطاعت المرأة أن تحقّق إنجازات إنسانيّة كبرى ومع ذلك فإنّ طموح المرأة ما زال يشهد اندفاعاته وانطلاقاته نحو آفاق بعيدة المدى.

 لقد بدأت الصناعة بامتصـاص أعداد كبـيرة مـن العـاملات المحكوم عليهنّ كأطفالهنّ بأجور وضيعة وشروط عمل لاإنسـانيّة. واستطاعت المرأة في الوقت نفسه أن تصل إلى التعليم العالي، وإلى ممارسة مهن اجتماعيّة راقية كشكل جديد لعمل المرأة الّتي تنتمي إلى البرجوازيّـة الصغـيرة والوسـطى. وكـان للمرأة ذات الانتمــاء البرجوازيّ المتوسّط أن تمتلك قدرها، وأن تتحرّك لبناء حركات نسائيّة منظّمة وفعّالة.

 وبدأت الحركات النسائيّة هذه تظهر في نهاية عام 1870 ، وتـأتي هذه الحركات استجابة لعدم الرضا ولعدم كفاءة المعايير الحكوميّـة المتّخذة لصالح المرأة. وتجسـيداً لـذلك ظهـرت المهـن المكتبيّـة والجامعيّة الخاصّة بالمرأة بين عامي 1873و 1874. ولقد اسـتطاعت النقابيّة الأولى الإيطاليّة آنا ماريّا موزوني Anna Maria Mozzoni أن تنظّم مجموعة كبيرة من التواقيع الّتي تنادي بحقّ المرأة في التصويت، وتلاحقت المحاولات الّتي نـاضلت من أجل المرأة.

ومنذ عام 1883 حتّى نهاية القرن كانت المناقشات تدور حـول حـقّ المرأة في الطلاق والتصويت. وكان يرافق ذلك مناقشات حامية حـول القوانين الخاصّة بعمل المرأة والأطفال. وخاصّة هذه الّتـي تتعلّـق بعمل المرأة البروليتـاريّ، والّتـي شـكّلت إحدى النقـاط الحاميـة للسياسة الاشتراكيّة كما تعلن آنّا كوليسيوف (Anna Kulisiaff). وبدأت فيما بعد ذلك تنمو الاتّجاهات النسائيّة المتطرّفة. وفي هذا السياق يلاحظ أنّ نضال المرأة كانت يشـتدّ كلّمـا اتّجـهت السياسـات القائمة نحو المحافظة وهي ظاهرة عملـت جـوانب الحيـاة السياسـيّة الإيطاليّة حتّى نهاية القرن.

لقد استطاعت المقـولات الأنثروبولوجيّة، أن تتصـدّر عـدداً مـن الدوريّات العلميّة. وتمكّن الأنثروبولوجيّون من إعطاء مؤلّفاتهم مدّاً جماهيريّاً واسعاً وخاصّة هؤلاء الّذين لهم مكانة السيادة والسـلطة. وبالإضافة إلى ذلك استطاعوا أن يطرحوا ويرسـموا، تحـت غطاء الإضاءة العلميّة، صورة للمرأة لم تكن إلّا انعكاساً لصـورة نسـائيّة كانت سائدة سابقاً وخاصّة في ذهنيّة الرجل. لقد كرّست سـمات الضعـف، والهشاشـة، والسـلبيّة والعاطفيّـة الانفعاليّة، في صورة المرأة الّتي رسمها العلم مـن خـلال الآداب الراقية والآداب الشعبيّة كسمات أنثويّة. وذلك ليس كـلّ شـيء، ففـي القوّة الّتي تمتدّ في مساحة الخمسة عشـرة سـنة الأولى مـن القـرن العشرين، استطاعت هذه الخصائص الأنثروبولوجيّة المزعومة أن تضـع المرأة فـي سـجن قدرهـا الأكثر مأساويّة ودراميّة، وأن تحكم عليها بوصفهنّ ملائكة المنـازل، أو القاصرات إلى الأبد اللّواتي يترتّب عليهنّ أن ينجبن من أجل الوطن.

لقد لعبت الأنثروبولوجيا الثقافيّة التطوّريّة - ولا سيّما الإيطاليّة - دوراً معادياً للمرأة واستطاعت أن تجسّد مقولات الهيمنة الأبويّة الذكوريّة الّتي عرفتها المجتمعات الإنسانيّة عبر تاريخها الطويل، وكان قدر هذه الأنثروبولوجيّة أن تسقط في وحول العراك الأيديولوجيّ الدائر حول مسألة المرأة ودورها الإنسانيّ في الحياة الاجتماعيّة، وهي في تورّطها هذا غلب عليها الميل إلى تفسير دونيّة المرأة بسيرورة تطوّريّة، وأن تبرّر هذه الدونيّة الّتي تأخذ دوائر مغلقة. ومن هنا لعبت هذه الأنثروبولوجيا دوراً كابحاً لانطلاقة المرأة اجتماعيّاً وسياسيّاً. ومع ذلك فإنّها لعبت بالمقابل دوراً إيجابيّاً تمثّل في طرح مسألة المرأة وإيقاظ الوعي النسويّ؛ ومن ثمّ إنهاض المواقف المناصرة لوضعيّة التكافؤ الإنسانيّ بين المرأة والرجل.

ويبقى مع ذلك كلّه القول بأنّ استعراض أدبيّات هذه الأنثروبولوجيّة التطوّريّة يمثّل وقفة حيويّة مع حالة من العطاءات الفكريّة والتراثيّة الّتي تأخذ طابع الأهمّيّة والخصوصيّة في مستوياتها العلميّة والفكريّة. فالوقفة مع هذا التراث الأنثروبولوجيّ يضعنا في صورة تطوّر جانب من جوانب المعرفة الإنسانيّة وحقل من حقولها، ولا سيّما فيما يخصّ المرأة هذا من جهة، وهي من جهة ثانية تتيح لأنصار الحرّيّة النسويّة والمساواة أن يكونوا في صورة هذه الطروحات الّتي تدفع إلى حالة من التأمّل الفكريّ واستنهاض الطاقة في مسألة بالغة الأهمّيّة والخطورة. ولا بدّ لنا من الإشارة في هذا السياق أنّ المقالة الحاليّة تركّز على الوضعيّة الأوروبّيّة ممثّلة بالفكر الأنثروبولوجيّ الإيطاليّ بالدرجة الأولى، وقد لا ينسحب ذلك بصورة كلّيّة على مجمل العطاءات الأنثروبولوجيّة الّتي تجلّت في مناطق عديدة من العالم، وفي مراحل تاريخيّة مختلفة.

وأخيرا نقول في مجال الرد على العدوانية الأنثروبولوجية ضد المرأة: إن المرأة سر الوجود في أعظم تدفقاته الجمالية، وفن العطاء في أروع تجلياته الروحية، هي الحنان الذي تدفق في الكون روحا كونية فأصّل في أعماقنا جوهرنا الإنساني المضمخ بالمعاني السامية للوجود في أرقى دلالاته الإعجازية. إنها معجزة إلهية ارتسمت في صورة الأم والزوجة والأخت والابنة والحفيدة، إنها الوطن الذي فيه انبثقنا ومنه ترجلنا إلى الوجود، وهل هناك أعظم من المرأة لتي تعبق بكل معاني العطاء والسمو والنقاء، أليست هي هدية الله للإنسان والأرض والإنسانية. نعم هي عبق الوجود المتدفق بأريج الحياة المضمخ بسمو المعاني وعبق الدلالات، نعم هي هبة الله للإنسان والإنسانية، وآية من آيات خلقه العظيم في الكون.

***

ا. د. علي أسعد وطفة – كلية التربية – جامعة الكويت

......................

هوامش المقالة:

1- تتناول الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الظواهر الاجتماعية الإنسانية وفق مناهج محددة قوامها البحث الشمولي المتكامل في طبيعة الظاهرة وتناول الظاهرة المدروسة على نحو كلي عياني . وتتمثل أبرز خصائص البحث الأنثروبولوجي في تفاعل الباحث مع المجتمع الذي يدرسه بصورة كلية حيث يتوجب على الباحث أن يعيش في أحضان المجتمع الذي يريد دراسته وأن يتقن عادات وتقاليد هذا المجتمع ومن ثم يبدأ بدراسة خصائصه الاجتماعية والدينية والسياسية وغير ذلك ليقدم صورة شمولية متكاملة للمجتمع الذي يدرسه .

2- سيزار لامبروزو (Cesare Lombroso): عالم إيطالي يُعتبر أحد أبرز مؤسسي علم الجريمة الحديث. وُلد في 6 نوفمبر 1835 في فيرونا بإيطاليا وتوفي في 19 أكتوبر 1909 في تورينو. كان لامبروزو طبيبًا، أستاذًا في الطب الشرعي، وعالم أنثروبولوجيا، وقد أثرت أعماله بشكل كبير على دراسة الجريمة وعلم الإجرام في القرن التاسع عشر.

3- جوجليلمو فيريرو (Guglielmo Ferrero) (1871-1942) هو مفكر إيطالي وعالم اجتماع ومؤرخ شهير، اشتهر بأعماله في مجال علم الاجتماع التاريخي ودراساته حول الإمبراطوريات القديمة، وخاصة روما. كان أيضًا شريكًا ومساهمًا في بعض الأعمال العلمية مع سيزار لامبروزو، وخاصة تلك المتعلقة بعلم الجريمة.

4- آثرنا أن نترجم عنوان الكتاب على مبدأ التورية لما فيه من تحامل على المرأة وللأمانة العلمية نورد عنوان الكتاب كما ترجم إلى الفرنسية وفقا لامبروزمو هو بعنـوانLa femme criminelle la prostitée la naturelle . لقي هذا الكتاب نجاحـاُ كبـيرا فـي إيطاليا والبلـدان الأخرى ، حيث أعيدت طباعته عندما كان لومبروزو على قيـد في عام 1903 ، وطبع بعد وفاته أربع مـرات (1911 ،1915، ،1923 ،1927، وقد اكمل الكتاب ونقح من قبل ابنته غينا Gina ، وأعيدت طباعة الكتاب عند دار النشر التي طبعته عام 1893 . وقد ترجم ذلك الكتاب إلى الالمانية عام 1894 وإلى الإنكليزية عام 1895 وترجـم في الولايات المتحدة الأمريكية في نفس العام ، وإلى الفرنسية عـام 1896 .

5- Cesare Lombroso and Guglielmo Ferrero, The Female Offender, Trnalate: William Ferrero, D. Appleton and Com-pany, new York , 1895.

6- جيوسيب سيرجي:(Giuseppe Sergi) (1841–1936) عالم أنثروبولوجيا وعالم اجتماع إيطاليًا بارزًا، اشتُهر بأبحاثه حول الأعراق البشرية وتاريخ الحضارات. يُعتبر أحد المفكرين المؤثرين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث ركز على دراسة أصل الأعراق والعوامل الثقافية والاجتماعية المؤثرة على تطورها.

7- Paolo Mantegazza (1831–1910): كان طبيبًا، أنثروبولوجيًا، وكاتبًا إيطاليًا بارزًا، يُعتبر من الشخصيات الرائدة في العلوم الطبية والاجتماعية في القرن التاسع عشر. عُرف بأبحاثه المتعددة في مجالات الطب، الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، بالإضافة إلى أعماله الأدبية التي دمجت بين العلم والثقافة.

في المثقف اليوم