قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لقصيدة الشاعر حسن عامر "نسيتُ شيئًا ولا أنوي تذكُّرَهُ!"

تُمثّل هذه قصيدة «نسيتُ شيئًا، ولا أنوي تذكُّرَهُ!»، نموذجاً لقصيدة الذات المأزومة في الشعر العربي المعاصر، حيث يتحوّل النسيان من فعل عابر إلى موقف وجودي واعٍ، ويغدو الصمت، واللا مبالاة، والانسحاب، أدوات مقاومة ضد فائض الأسئلة، وضجيج المعنى، واستنزاف الذات. العنوان نفسه ليس إخباراً، بل إعلان قطيعة مع الذاكرة بوصفها عبئاً أخلاقياً ووجدانياً.

أولًا: الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب:

تتسم القصيدة بسلامة لغوية رفيعة، وانضباط نحوي دقيق، مع اعتماد التراكيب المركّبة ذات النفس الكلاسيكي، وهو ما يضع النص في منطقة وسطى بين القصيدة العمودية الحديثة والقصيدة التأملية المعاصرة.

- الأسلوب يقوم على:

١- الجملة الخبرية ذات الحمولة الفلسفية

٢- الاستفهام الإنكاري

٣- لشرط والتعليل

مثل:

" وأيُّ حرفٍ – تُرى – يُبدِي تأثُّرَهُ؟!"

وهو استفهام يتجاوز البلاغة إلى التشكيك في قدرة اللغة ذاتها على المواساة.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:المفردات منتقاة بعناية عالية، تنتمي إلى حقل:

١- الوعي (المعنى، السؤال، التفسير)

٢- الألم (اليأس، الحزن، الاحتراق)

٣- العزلة (الصمت، الوحدة، الابتعاد)

يتحقق توازن دقيق بين اللفظ والمعنى؛ فلا إسراف في المجاز، ولا جفاف في التقرير. اللغة هنا تفكّر بقدر ما تُحسّ.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

القصيدة مكتوبة على بحر خليلي محافظ نسبياً، مع قافية موحّدة (ـهُ) تُنتج أثراً صوتياً يوحي بالانغلاق والدوران حول الذات.

الموسيقى الداخلية تتجلّى في:

١- التكرار الدلالي: (سَلْني – لا – ليس – وحدي)

٢- الجرس الحزين لحروف الهاء والراء والنون

٣- الوقفات النفسية داخل السطر الشعري

٤- القافية الواحدة تُحاكي نفسيًا فكرة الدوران في حلقة اليأس.

ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص:

القصيدة مبنية على سرد داخلي تأملي، بلا أحداث خارجية تقريبًا. الزمن نفسي لا تاريخي، والشخصية الوحيدة هي الـ«أنا» المتشظية.

البنية تقوم على:

١- إعلان النسيان

٢- مساءلة اللغة

٣- تفكيك السؤال

٤- تمجيد الصمت

٥- الانسحاب من العالم

2. الرؤية الفنية:

رؤية الشاعر للعالم رؤية شكّية – عدمية جزئياً؛ العالم فاقد للمعنى، واللغة عاجزة، والسؤال عبء، والانتظار وهم.

ينسجم الشكل (قصيدة متماسكة الإيقاع، منغلقة نسبياً) مع المضمون (انسحاب، عزلة، اكتفاء بالذات).

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي؛

يتجلّى الانزياح في صور غير مألوفة مثل:

" أنا نبيٌّ محا الطوفانُ قريتهُ"

وهي صورة تجمع بين:

١- النبوّة (المعنى)

٢- الطوفان (الخراب)

٣- فقدان الجماعة (القرية)

كما أن:

" قلبي بيتُ عائلةٍ من اليتامى"

صورة عالية الكثافة الرمزية، تُنتج الدهشة لا بالغرابة بل بالصدق الوجداني.

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري للنص:

القصيدة تطرح أسئلة وجودية عميقة:

١- هل الذاكرة خلاص أم عبء؟

٢- هل الصمت أصدق من الكلام؟

٣- هل السؤال ضرورة أم فخّ؟

٤- النسيان هنا اختيار أخلاقي لا عجز.

2. الأفق المعرفي:

يتقاطع النص مع:

١- الفلسفة الوجودية (كامو، سيوران)

٢- شعرية الشك عند أبي العلاء

٣- النزعة التأملية الحديثة

3. البنية العميقة (الهيرمينوطيقا):

في العمق، القصيدة ليست عن النسيان، بل عن:

١-رفض التورّط في زيف المعنى

٢- تفكيك سلطة اللغة

٣- الانسحاب من لعبة التفسير

" أما السؤال فقد طوَّحتُهُ بيدي"

هنا يتم إعدام السؤال بوصفه سلطة معرفية قاهرة.

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص:

القصيدة ابنة زمن عربي مثقل:

١- بالخيبات

٢- بانهيار السرديات الكبرى

٣- بتآكل المعنى الأخلاقي

2. تطوّر النوع الأدبي:

تنتمي القصيدة إلى الشعر التأملي الحديث الذي يستثمر الشكل الكلاسيكي ليقول رؤية حديثة.

3. الارتباط بالتراث:

تحضر إشارات:

١- نبوية

٢-لغوية

٣-أخلاقية

لكنها تُفكَّك ولا تُستعاد بوصفها يقيناً.

خامساً: الأسس النفسية

1. البنية الشعورية

القصيدة مشبعة بـ:

١- اليأس العميق

٢- الحزن الناضج

٣- العزلة المختارة

2. تحليل الشخصية:

الشخصية الشعرية:

١- حسّاسة

٢- واعية

٣- متصالحة مع وحدتها

٤- غير عدوانية رغم الألم

3. النبرة النفسية:

النبرة تجمع بين:

١- الحزن الهادئ

٢- الحكمة المُرّة

٣- اللامبالاة الدفاعية

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع.

القصيدة تعكس اغتراب المثقف العربي داخل مجتمعه.

2. الخطاب الاجتماعي

ثمّة نقد ضمني:

١- للضجيج.

٢- للخطاب الفارغ.

٣- للتأويل القسري

3. الشاعر كفاعل اجتماعي:

اختار الشاعر الانسحاب الواعي بدل الخطاب المباشر.

سابعًا: الأسس السيميائية

1. الرموز:

١- الماء: الذاكرة

٢- الاحتراق: الفناء الواعي

٣- الصمت: الحقيقة

٤- النافذة: المراقبة دون مشاركة

2. الثنائيات:

١- الكلام / الصمت

٢- السؤال / اليقين

٣- الحضور / الغياب

ثامناً: الأسس المنهجية

القصيدة قابلة للتحليل:

١- الأسلوبي

٢- النفسي

٣-التأويلي

وتتسم بانسجام داخلي يسمح بتعدد القراءات دون تفكك.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. القيم الإنسانية:

تحتفي القصيدة:

١- بالصدق الداخلي

٢- بحقّ الفرد في الانسحاب

٣- بكرامة الألم الصامت

2. الانفتاح التأويلي:

النص مفتوح، لا يفرض تأويلًا واحدًا.

3. البعد الإنساني الشامل

تتجاوز القصيدة سياقها المحلي لتلامس الإنسان المعاصر المرهق بالأسئلة.

- خاتمة:

تمثّل قصيدة «نسيتُ شيئًا، ولا أنوي تذكُّرَهُ!» نصًا ناضجًا في الشعر العربي المعاصر، يجمع بين الصياغة المحكمة، والرؤية الفلسفية، والعمق النفسي. إنها قصيدة لا تصرخ، بل تنسحب بكرامة، وتعلن أن الصمت – أحيانًا – هو أصدق أشكال القول.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

نسيتُ شيئًا، ولا أنوي تَذكُّرَهُ!

وقلتُ فليصدقِ المعنى، لأنكِرَهُ

*

وليبتعِدْ كلُّ شيءٍ مثلَ عادتِهِ

فقد قضيتُ من المشوارِ أكثَرَهُ

*

أنا نبيٌّ مَحَا الطوفانُ قريتَهُ

أمَّا كلامي..

فقد أحرقتُ دفتَرَهُ

*

ماذا تقولُ اللغاتُ الأمُّ عن تَعَبِي؟

وأيُّ حرفٍ -تُرَى- يُبدِي تأثُّرَهُ؟!

*

يأسي عميقٌ،

كأنَّ الأرضَ قد ذهَبَتْ إلى سوايَ،

ولا شيءٌ لأخسَرَهُ

*

أما السؤالُ فقد طوَّحتُهُ بِيَدِي

لا غايةٌ لانتظاري،

كي أفسِّرَهُ

*

ولا أسمِّي شرودي غيرَ نافذتي،

حتى أراقبَ شيطاني، فأحذَرَهُ

*

سَلْنِي عن الصمتِ،

أغلى ما أجودُ بِهِ،

ولو لمستُ وراءَ الشكلِ جوهَرَهُ

*

في اللا مبالاةِ ما في اليأسِ من سَعةٍ،

وفي الكلامِ خِصامٌ سَلَّ خِنجَرَهُ

*

سَلْنِي عن الحزنِ،

قلبي بيتُ عائلةٍ من اليتامى،

ظلامُ الخوفِ سوَّرَهُ

*

وحدي تمامًا،

وأصحابي قد ابتعدوا

كلٌّ له سببٌ عندي لأعذِرَهُ

*

أسامحُ المرءَ، حتى لو أرادَ دمي!

ما دامَ خلفَ حجابي ما تَصَوَّرَهُ

*

ليحدثِ الأمرُ دوني،

ليسَ لي شغفٌ بما يدورُ،

ومَنْ في الليلِ دبَّرَهُ

*

لي صورةٌ في كتابِ الماءِ أعرفُهَا

وموعدٌ لاحتراقي لنْ أؤخِّرَهُ

 

في المثقف اليوم