قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسَّعة لقصيدة "امرأةٌ من نور الجزائر" لناديا نواصر

تُقدّم قصيدة «امرأةٌ من نور الجزائر» نموذجًا غنيًّا للتعبير الشعري الذي يزاوج بين الخطاب الوطني والحنين الأنثوي، ويحول تجربة المرأة إلى رمزٍ مركزيّ في بناء الذاكرة الوطنية. تنطوي القصيدة على طبقات دلالية متعددة تتلاقى فيها اللغة والبلاغة مع البنية التاريخية والثقافية والعاطفية لتنتج خطابًا يجمع بين التكريم والاحتفاء والنشيد. تليها هنا قراءة نقدية منظمة وفق المحاور التسعة المطلوبة، مع الاستئناس بأمثلة نصية.

أولاً - الأسس اللغوية والبلاغية:

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب

اللغة في النص سليمة نحوياً ومتماسكة تركيبياً، لكنها شعريّة في حرية تركيبها وانزياحاتها التصويرية. يعتمد الخطاب أسلوب الجملة الإخبارية والمقطعية التماسّية، مع تكرار الجمل الانشائية في مواضع التوكيد. البنية تفضّل الاختزال المكثّف على التفصيل السردي، ما يمنح النص قوة دلالية وإيقاعًا خطابيًا مناسبًا للنشيد.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

اختيار الألفاظ يميل إلى المبالغة المكرّسة (زهرة، صبرٌ مسكوبٌ في ذهب، صدرُ قارة للشهداء)، فيخدم وظيفة التمجيد. ثمة توازن عامّ بين اللفظ والمعنى: الألفاظ القوية تتوافق مع المشهد التاريخي والوجداني الموضوعي للنص. تُستخدم ألفاظ التراث (حفيدة الأمير، جميلة بوحيرد) كحججٍ منطقية وجمالية لإضفاء شرعية تاريخية.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي:

النص مكتوب بنثرٍ شعريٍ خطابي لكنه يحافظ على موسيقى داخلية عبر:

١- التكرار الاستعادي: «يا امرأةَ الجزائر…»، «يا…»، «أنتِ…»؛

٢- التوازي البنيوي: «ابنةُ المناضل، أختُ الشهيد، أمُّ الأسير، زوجةُ الجريح»؛

٣- الترانيم الحروفية: تردد الحروف الشمسية والهمسية يعطي وقعًا مناسبًا للخطاب الاحتفالي.

القافية ليست تقليدية، لكن الإيقاع العام يصلح للإلقاء المسرحي والخَطابي.

ثانيًا - الأسس الجمالية والفنية:

1. البنية الفنية للنص:

البنية تقرأ كنصّ سيريّ/وصفيّ يتمحور حول شخصية محورية (المرأة) وتستعمل إطرًا تاريخية ورمزية. النص يجمع بين الحديث عن الدور الفردي والوظيفة الجماعية؛ يمتاز بتركيب مركزي: تقديم - تصعيد - تتويج/ختام. الزمن شعريّ متحوّل: زمن تاريخي (الذاكرة والثورة) يتداخل مع زمن حاضرٍ نابض.

2. الرؤية الفنية:

الرؤية فخرية-حنينية: ترى المرأة مؤسِّسًا معاشيًا وروحيًا للوطن. هناك انسجام واضح بين الشكل (النثر الشعري المكثف) والمضمون (التمجيد والذاكرة)؛ فالأسلوب الإيجازي يناسب البُعد الأسطوري الذي تمنحه الشاعرة للأنثى.

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

القصيدة تنتج دهشة عبر مزج الصور المتناقضة: «زهرة في قلب الصخر»، «صدر قارة للشهداء»، وبتوظيف السرد الجزئي (الأسيرة، الشهيد، الجريح). الانزياح هنا ليس مجرّد تجنّي لفظي بل عملية تشكّل رؤيوية تُعيد تركيب الواقع الشعوري.

ثالثًا - الأسس الفكرية والفلسفية:

1. الموقف الفكري للنص.

النص يحمل موقفًا تأويليًا للمرأة كشكل من أشكال الكينونة الوطنية: السؤال عن الحرية، التضحية، والمسؤولية الأخلاقية يتقاطع مع مشروع التذكّر والتحرير. ثمة إيمانٍ بالقوة الفاعلة للأنثى كقيمة أخلاقية وبناء حضاري.

2. الأفق المعرفي:

النص ينسج علائق مع المرجعيات التاريخية (الأمير عبد القادر، جميلة بوحيرد، بن مهيدي، فاطمة نسومر) ومع الذاكرة الثورية، وفي الوقت نفسه يستفيد من صور معرفية حداثية (المواطنة، ثقافة الفعل، عقلية المقاومة) ما يجعله معبرًا عن لقاء التراث بالحداثة.

3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا)؛

القصيدة تُفضي إلى بنية معجمية رمزية تُعيد تعريف المرأة كـ«لغة الوطن»؛ قراءة هيرمينوطيقية تكشف طبقات: السطح (التمجيد)، الأوسط (الدور الاجتماعي الأسري والوطني)، والعمق (الأنثى كمبدأٍ خلّاق ومردّ إلى أصل تاريخي ومعنوي).

رابعاً - الأسس التاريخية والثقافية:

1. سياق النص:

القصيدة تستند إلى ذاكرة الاستعمار والمقاومة الجزائرية، وتُكتب في سياق احتفاليّ أو تأمّليّ بمآثر التحرر، ما يمنحها وظيفة تأريخية-تذكيرية.

2. تطوّر النوع الأدبي:

تقع القصيدة ضمن تيار النثر الشعري الوطني المعاصر الذي يمزج بين السرد والخطاب الشعري؛ تمثّل استمرارية لتقاليد النشيد الوطني والقصيدة الملحمية المصغّرة، مع إيقاع حداثيّ.

3. ارتباط النص بالتراث:

الاستدعاءات التاريخية والأسطورية (الأمير، جميلة…) تربط النص بالتراث المقاوم، بينما الصور الطقسية والدينية (الدعاء، الفجر) تكرّس تواصلاً بين الوعي الشعبي والتراث الرمزي.

خامساً - الأسس النفسية:

1. البنية الشعورية:

تسيطر على النص مشاعر الفخر، الحنين، الحزن الخفي، والفخر التكريمي؛ ثمة توازن بين العاطفة الفردية والوجدان الجمعي.

2. تحليل الشخصية:

المرأة هنا ليست شخصية منفردة بل تجريد لأدوار متعددة: ابنة، أخت، أم، زوجة - وهذا يمنحها تعقيدًا نفسياً ومآزقيًا: الحزن على الفقد، القوة عند المواجهة، الصبر كمناعة.

3. النبرة النفسية:

النبرة تجمع الحزم بالحنان: حنين محافظ، قوة لا تهدأ، وصوت احتجاجٍ متيقّن.

سادساً - الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية:

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي:

القصيدة تعكس مشروعًا اجتماعيًا يقدّر دور المرأة في إعادة بناء المجتمع، وتستدعي قضايا الهوية والكرامة والطبقات (الكادح، المجهد).

2. الخطاب الاجتماعي داخل النص:

النص يندد ضمنًا بالاحتقار أو التقصير تجاه المرأة ويطالب باعتراف اجتماعي وتاريخي بمساهمتها.

3. الكاتب كفاعل اجتماعي:

الشاعرة تؤدي دورَ المثقف/المؤرّخ العاطفي: تذكّر، تؤرّخ، تحيّي، وتؤسّس خطابًا هجريًا للنهوض.

سابعاً - الأسس السيميائية:

1. العلامات والرموز؛

الزهرة، الصخر، النخلة، الفجر، الخبز، السلال - كلها علامات ذات دلالة مزدوجة: شخصية ووطنية. المرأة رمز للحياة والذاكرة والجيش الأخلاقي.

2. شبكات الدلالات:

تتبدّى ثنائية متكررة: حياة/موت، صبر/انتصار، خصوصي/عام، حضور/غياب. هذه الشبكات تُسهم في قراءة متعددة المستويات.

3. النظام الرمزي العام:

النظام يقدّم المرأة كخزان رمزيّ للتاريخ والكرامة ومركزًا لبناء المستقبل.

ثامناً - الأسس المنهجية:

1. الصرامة المنهجية:

هذه القراءة اعتمدت مقاربة متعددة المسالك: لسانية-أسلوبية، سيميائية، تاريخية-رمزية ونفسية، مع مراعاة التماسك والتحفّظ على التأويلات غير المدعومة نصيًا.

2. التوثيق العلمي:

الاستشهاد بالنص مقتبس ومؤطَّر؛ وإشارات الشخصيات التاريخية توضح التأطير المرجعي. في دراسة مطولة يمكن إضافة مراجع تاريخية وأدبية عن الذاكرة الجزائرية ودور المرأة.

3. الموضوعية النقدية؛

التحليل يلتزم النص ومناعه الداخلي دون الانجراف إلى التمجيد غير المدعوم أو التجريح.

تاسعاً - الأسس الإنسانية والجمالية العليا:

1. قيم الحرية والجمال:

القصيدة تحتفي بالحرية وتؤسّس لجمالية جديدة ترى في التضحية والمقاومة مصدرًا للجمال الأخلاقي والوجداني.

2. الانفتاح على التأويلات؛

النص مفتوح لقراءات تاريخية، نسوية، سيميائية وحتى سياسية، ما يجعله غنياً بالامكانية التأويلية.

3. البعد الإنساني الشامل:

تمرّ القصيدة من الخاص (دور المرأة في الأسرة) إلى العام (بناء الوطن)، فتلامس وجدانًا واسعًا وتستشعر قيمة الانسان وكرامته في سياق تحرري.

خاتمة

تجسّد قصيدة «امرأةٌ من نور الجزائر» عملًا شعريًا ذا وظيفة تأريخية ومجتمعية وجمالية في آن. تحوّل المرأة فيها إلى سُلّة رموزٍ تذكرنا بأنّ البناء الوطني لم يكن إلا فعلًا مشتركًا لصانعات الحياة وصانعات النصر. لغويًا وبلاغيًا، تؤدي القصيدة مهمتها ببلاغة مكثّفة وإيقاع خطابي مناسب؛ فلسفيًا وإنسانيًا، تضع المرأة في مركز السؤال عن الحرية والكرامة؛ ثقافيًا وتاريخيًا، تؤسس وصياغةً لخطاب الذاكرة. تبقى إمكانات الدراسة أوسع: يمكن توظيف مناهج نسوية مقارنة، أو سوسيولوجية تاريخية، أو تحليل خطابي لإخراج مزيد من طبقات المعنى ودلالاتها الاجتماعية والسياسية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

امرأةٌ من نور الجزائر

ناديا نواصر

على جذور الوعي، في مفارق الصحو الأولى، نهضتِ أنتِ-يا امرأةً من لهب الثورة-شامخةً كآيةٍ واثقة، سامقةَ الهمة، تفيضين حضورًا يضاهي كبرياء الأرض حين تستعيد روحها. مددتِ للروح معابر يقينها، وللوطن دربَه نحو انتصاره الذي صُنع من عظام الرجال ومن صبر النساء.

*

يا امرأةَ الجزائر…

يا زهرةً نبتت في قلب الصخر، لا يثنيها بردٌ ولا تكسرها ريح؛ يا جمالًا يستيقظ من طهارة الروح، لا من بهر الزينة. أنتِ التي مشتِ على دروب القهر بقدمين من صبرٍ مسكوبٍ في ذهب، وحملتِ الحياة كما تحمل الجبالُ أسرارها. لم تنحني جبهتكِ إلا في سجدةٍ تعيد ترتيب الكون في صدرك، وتسكب على الدنيا ضوءًا يشبهك.

*

فيكِ تجتمع رقةُ الندى واحتدامُ الحطب حين يشتعل؛ فيك حياءٌ يخجل منه الفجر، وقوةٌ تقول للّيل: لن تهزمني. في يمناك خبز الأسرة، وفي يسراك قلب الوطن، وفي صدركِ أصوات أبناءٍ تربّوا على شرفٍ لا يُشترى، بل يولد من دعائك ودموعكِ الصامتة.

*

يا امرأةً حميتِ الدار من برد، وحميتِ الوطن من ضياع؛ وقفتِ كالنخلة، لا يكسركِ ثقلُ السنين ولا تُطفئكِ أبواب الظلم المغلقة. فيكِ من الجمال ما يُورق الصحراء، ومن الرفق ما يلين الحجر، ومن العفة ما يجعل الملائكة تبارك خطاكِ، ومن الصبر ما يبني وطنًا على كتفيكِ وحدك.

منذ أول دعاءٍ بين يدي الفجر كنتِ: حارسة البيت، صانعة الرجال، أمّ الأجيال، ونبض الجزائر الذي لا يخبو.

*

يا حفيدة الأمير عبد القادر…

يا من تحملين في نبضك دمَّ جميلة بوحيرد، وفي صبرك سكونَ العربي بن مهيدي، وفي غضبكِ صليلَ فاطمة نسومر. يا ابنة مناضلٍ، وأخت شهيدٍ، وأم أسيرٍ لم ينكسر، وزوجة جريحٍ ينهض على نورك، ويا أختًا حملت رحيل الأحبة كمن يحمل وطنًا كاملًا في صدره.

*

يا امرأةً زُيّنت بثقافتها ورجاحة عقلها، فكانت مدرسةً تُخرّج الوعي قبل الأبناء.

يا سيّدةً حين انتصرت الجزائر، رأى الناس في عينيك زهو بلدٍ نهض من رماده، ورأى الوطن فيك وجهه حين يستردّ حريته.

*

من رحم الأنثى الحرة مددتِ للعيش الكريم معابر الحياة، وكتبتِ بدم الروح ملحمة الجزائر على صخر التاريخ. نحَتِّ الثورة، صارعتِ الريح، واعتليتِ منابر الشرفاء، ورافقتِ الشهداء إلى وهج النصر.

*

كنتِ ماءَ المقهورين حين يظمأون، وسماءَ الثورة حين تجوع الأرض.

كنتِ رغيف السنابل، ونبض السنين العجاف، وكتف الكادحين المتعبين.

رفعتِ الوطن بذراعين من شمس، وفي علياء نضالك تعلّمت الجزائر أبجديتها الأولى… أبجدية الفتح.

*

من تربةٍ طاهرة بزغ دهشك، وامتلأت سلال الزمن عنبًا ونرجسًا ويقطينًا.

أكنتِ الوهج الحاسم؟ أم الولادة الكبرى للتاريخ؟

يوم تلاقح الوعي وعاد المخاض، أشرقت الفتوحات.

*

ومن حنجرتكِ خرج موكبُ الذين يحملون نشيد الثورة، ليقوم شجر الحرية… مزهوًّا، لا يُقهر.

***

في المثقف اليوم