قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسّعة لقصة زياد خداش "سعلةُ أبٍ غائب"
تحتفي قصة «سعلةُ أبٍ غائب» للكاتب والقاص الفلسطيني زياد خداش بلغةٍ رقيقةٍ ولحظةٍ بسيطةٍ ظاهرياً لتفتح أمام القارئ أفقاً واسعاً من الدلالات: الاغتراب، الذاكرة، الحضور/الغياب، ووزن الحنين في الوعى اليومي. تبدو السعلة كَعَلَمٍ صِغيرٍ يحمل طيفاً من الحضور المفقود، وكرمزٍ يجسّد علاقة الأجيال بالموت والغياب وبالآباء بوصفهم غياباً يحفر حركات الجسد واليوميات. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك بناء النص وظلاله الجمالية والفكرية والنفسية والاجتماعية وفق محاور نقدية منهجية، وربطه بإمكاناته الدلالية والمعرفية.
أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية:
1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب
اللغة في النص مشحونة ببساطةٍ قابلةٍ للاشتغال: جمل قصيرة، تواتر سردي متوازن، واستخدام طفيفٍ للانزياحات البلاغية التي لا تجهد القارئ بل تقوده نحو عمق الشعور. تركيب الجمل يميل إلى التكرار الدالّ (مثل «لا لا، مش هاي عمو») الذي يستدعي الموسيقى الكلامية ويجعل من العبارة طقساً صوتيّاً ذا معانٍ. يعمد الراوي إلى السرد الحافّ بالملاحظة اليومية بدلاً من استرسالٍ فلسفي؛ هذا الأسلوب يعزّز واقعية المشهد ويجعل انفعال المتلقي أقرب.
2. فصاحة اللفظ وملاءمته للموضوع:
الاختيار اللفظي بسيط ووافٍ: «سعلة»، «الطفلة الضرير»، «المدرسة»، «العمو» — كلمات شائعة تشتغل بتكثيف دلالي. هذا التناسب بين اللفظ والموضوع يمنح السرد قدرة على حمل تأويلات معتمدة على التداول العامي (الخطاب الشعبي/اليومي) مما يرسّخ مصداقيته الاجتماعية ويمنحه طابعاً إنسانياً دافئاً.
3. الإيقاع والمعمار الصوتي:
الإيقاع الداخلي للنص ينبني على تكرار جمل قصيرة وعبارات توقيفية (التقطعات، الاسترجاع المتكرر للمقطع «بدّي زي الأولى»)، ما يمنح السرد نغمة إيقاعية تشبه الهتاف أو النشيد الباطن. الصوتٌ السردي يقفز بين التذكّر والحدث الحاضر، فيخلق موسيقى داخلية تعتمد على صدى الكلام المتبادل بين الراوي والطفلة ومونولوجه الداخلي.
ثانيًا: الأسس الجمالية والفنية.
1. البنية الفنية للنص:
الهيكل السردي بسيط لكنه محكم: مشاهد متقطعة (اللقاء الأول، اللقاؤ اللاحق، سجال السعال في الصف)، وسرد يمتدّ عبر زمنين: زمن الحاضر والزمن التذكاري. الشخصيّة السردية ليست موضع تحليلٍ طويل؛ بل تُعرض انفعالاته وانشغالاته البسيطة المتولّدة عن حدثٍ صغير يتحوّل إلى مشتركٍ ذهني. التوتر الدرامي يتولد من تضادّ رغبة الطفلة في سعال «الراحل» ورغبة الراوي المقيمة في محاكاة ذلك، فتصير السعلة محور فعل وابتلاء.
2. الرؤية الفنية:
يبني خداش نصّه من منظار متسامع مع التفاصيل الصغيرة، مطموسٍ عن البلاغة الرنانة، معتمداً على «اللمح» لا «الشرح». هذه الرؤية تجعل من الحدث اليومي منفذاً لأفكار أوسع عن الوجود والذاكرة والغياب. الحوار السردي والعبارات المتكررة تعمل كآلية لتكثيف المعنى بدلًا من التوجيه المباشر.
3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:
الانزياح الجمالي في قصة زياد خداش يكمن في منح «السعلة»، وهي فعل جسدي تلقائي، صفةُ علامةٍ تاريخية ومعرفية. هذا النقل الاستعاري يعيد تشكيل الرمز: من عطية جسدية إلى مفتاح ذاكرة، ومن سلوك عابر إلى مرجعٍ للهوية. قدرة النص على صناعة الدهشة تنبع من إبقاءه على بساطة السرد مع ضخّ أوهام دلالة واسعة تحت سطح الكلمات.
ثالثًا: الأسس الفكرية والفلسفية:
1. الموقف الفكري للنص:
قصة «سعلة أبٍ غائب» تطرح سؤالًا وجودياً هشّاً: كيف يعالج الإنسان غياب من أحبه؟ وكيف تستحضر الذاكرة غياباً متلبّساً بأفعالٍ صغيرة؟ النص لا يقدم إجابات، بل يقيم حالةً معرفية حيث يصبح الحاضر معرضاً لتمثّلات الماضي التي تخترق الفعل اليومي.
2. الأفق المعرفي والمرجعيات:
يمكن القراءة ضمن سياق أدب الذاكرة والغياب في السرد الفلسطيني والعربي عموماً، حيث تصبح الأشياء الصغيرة مماثلاتٍ لندوبٍ تاريخية. النص يشترك مع تقاليد الذاكرة الأدبية في إضاءة تفاصيل يومية لتجسيد غياب أكبر؛ لكنه يلفّها بلغة حميمية لا تصعد إلى الخطاب السياسي المباشر.
3. هيرمينوطيقا النص:
السعلة هنا علامة متعددة الطبقات: تذكّر، شوق، عبء، وأحيانًا محاكاة فاشلة. بطبقاتها المتراكبة، تكشف عن شبكة من المعاني التي تتقاطع مع أزمات الهوية والذاكرة الفردية والجماعية، وتدعو إلى قراءات تأويلية تراعي التداخل بين الجسد والرمز.
رابعًا: الأسس التاريخية والثقافية:
النص يستند إلى بيئة يومية محددة: مدرسة، شارع، صوت طفل. إن انتماء الكاتب إلى فضاءٍ فلسطيني يضفي احتمالًا لقراءة السرد كقراءة عن غياب الأب (أو الرموز الأبوية) في سياق تاريخي واسع: الهجرة، الاحتلال، الحرب أو التشرّد. لكن النص يحرص على الاحتفاظ بعموميته الإنسانية، فلا يربط السعال مباشرة بموقف تاريخي محدد بل يجعله علامة على الحضور/الغياب العام.
خامسًا: الأسس النفسية:
1. البنية الشعورية:
النص يمسك بملامح الشعور الخفي: قليلٌ من الحزن، الكثير من الحيرة والحنين. إحساس الراوي بالقصور (محاولة السعال التي لا تشبه «الأصل») يعكس شعورًا بالعجز أمام تجارب الآخرين وبقيمة «التقليد» كوسيلة لاستعادة حضور مفقود.
2. تحليل الشخصية السردية:
الراوي يبدو شخصية متأملة، متأثرة، وربما مذنبة أو مشتتة. تفاعله مع الطفلة يكشف عن رغبة في ملء فراغٍ أو إثبات حضور. الطفلة بوصفها «الضريرة» تتحول إلى مرآةٍ «بريئة» لغياب الأب، ولغة طلبها «بدّي زي الأولى» توحي برغبة في استعادة ذاكرة عاطفية لا تحتمل الردّ الوظيفي.
3. النبرة النفسية:
تسودها الحسرة والحنين، مع مسحة من المضحك/المحرج في محاولات الراوي السخيفة لاجتذاب «صدى السعال»، ما يخفف وطأة النص ويمنحه إنسانية متألمة.
سادسًا: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية
النص يرصد تداخل الأدوار الاجتماعية (الشارع، المدرسة، المارة) مع المظاهر الفردية. حضور الطفلة في الفضاء العام كجسد يطالب «الاعتراف» بحقائق عائلية (صدى الأب الغائب) يفضح مدى تداخل الفردي والاجتماعي: الألم الخاص يصبح مطلبًا عامًا، والذكريات تصبح امتدادًا لعلاقات اجتماعية مبتورة أو مشتتة.
سابعًا: الأسس السيميائية
الرموز الأساسية: «السعلة» (علامة-مفتاح)، «الطفلة الضرير» (براءة، رؤية داخلية للغياب)، «المدرسة» (مكان التعلم/التواصل مع المجتمع)، وعبارة «بدّي زي الأولى» كلفظ طقسي يحيل إلى صورة مفقودة. تحليل هذه العلامات يبيّن أن النص يبني نظاماً رمزياً يربط الجسد بالذاكرة، الصوت بالهوية، والنداء بالاستدعاء.
ثامناً: الأسس المنهجية
يمكن تطبيق مناهج متعدّدة على القصة: منهج هيرمينوطيقي للكشف عن طبقات الدلالة، منهج سيميائي لتحليل العلامات، ومنهج نفساني لفهم دوافع الراوي. الدراسة هنا اعتمدت مقاربة تكاملية تضع النص في تقاطعات لغوية ونفسية وثقافية؛ ومن المنهجية المقترحة التزام الصرامة النصية وعدم القفز إلى استنتاجات تاريخية غير مفسّرة.
تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا
قيمة النص تكمن في قدرته على تحويل فعل يومي بسيط إلى منظومة دلالية إنسانية عامة: عنف الطفل في طلبه لسعال الأب الغائب ليس مجرد لفتة طفولية، بل نداء لإعادة ترتيب وجود، ونجاح النص في فتح مساحة واسعة من التعاطف يجعله عملًا إنسانياً بامتياز: يحضّ القارئ على التفكير في طرق الذاكرة الحيّة وكيف تتجسد في الأصوات والأجساد.
خاتمة:
تُعدّ «سعلةُ أبٍ غائب» نموذجًا مكثّفًا لقصة قصيرة تنجو من بساطتها الظاهرة بفضل قدرة الكاتب زياد خداش على نسج دلالات عميقة من حدث عابر. حيث يمكنني اقتراح التالي:
1. قراءة مقارنة مع نصوص تتناول الغياب الأبوي في السرد الفلسطيني والعربي لاستخراج مشترك سماتيّ ودلاليّ.
2. توظيف تحليل سيميائي معزّز بمقابلات ميدانية إن أمكن، لفهم كيف يتشكل معنى «الصوت» في الذاكرة الشعبية الفلسطينية.
3. دراسة أثر البساطة اللغوية في تكثيف المعنى: كيف يسمح التقشف اللفظي بامتداد الدلالة.
4. بحث في الوظيفة الأخلاقية للنصوص القصيرة التي تحول لحظات يومية إلى فسحات تأملية في الوجود.
تنجح قصة زياد خداش إذًا في أن تجعل من «سعلة» ما يشبه تاريخًا مختزلًا: ذاكرةٌ صغيرة، لكنها كافية لتخلق زلزالًا داخليًا يحرك مسارات الألفة والغربة داخل النفس. وهذه هي حرفة القاصّ الحقيقي: أن يرى في الأجزاء الصغيرة خريطةً للعالم، وأن يجعل القارئ يقف عند نقطة واحدة طويلاً لعلّه يرى ما لم يره قبلها.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..........................
زياد خداش: سعلةُ أبٍ غائب
"البنت الصغيرة جدّاً، البنت الضريرة، تهمُّ بدخول مدرستها، بطيئة، مبتسمة. أمشي أنا باتّجاه مدرستي، وحين حاذيتها، صدرت عنّي سعلة سريعة وعنيفة، سمعتها تقول بصوت صغير: “ياه، كم تشبه هذه السعلة سعلة المرحوم أبي، أرجوك، اسعل مرّةً أخرى يا عمو”.
ابتسمت، حاولت أن أعيدها، لكنني لم أنجح؛ فالسعال ليس فعلاً إراديّاً كما نعرف، افتعلتُ سعلة سريعة، لكنها رفضتها قائلةً: “لا لا لا، مش هاي يا عمو، بدّي زي الأولى، أرجوك زي الأولى”.
مشت باتّجاهي وهي تنظر إليَّ محاولةً توقّع اتّجاه وجهي، اعتذرت منها بارتباك، ومشيت. صرت كلّما تهيّأت لسعال حقيقي في أيّ مكان، أتذكّر ملاكي الضرير وأتحسّر؛ لأنني لستُ أمامَها.
في صباح آخر، رأيتها تخطو باتّجاه بوّابة مدرستها ببطءٍ جريحٍ وناعم، بطء مليء بالنداءات، بطء يمسك بيد ابتسامةٍ غريبة، فحواها اعتذارات للشارع؛ لأنها مشت عليه، وللمارة؛ لأنها شوّشت طريقهم، ولسائقي السيارات؛ لأنها أبطأت حركتهم، وللهواء؛ لأنها قضمت منه جرعتين أو ثلاثاً، وللوجود؛ لأنها شقّت فيه حيّزاً لأنفاسها وحضورها الجسدي.
مرّةً داهمتني في الصف نوبة سعال شديدة، ركضتُ بسرعة باتّجاه مدرستها، وهناك أمام مدرّسيها وزملائها نزفتُ كلّ مقدرتي الطبيعية وغير الطبيعية على السعال. وكانت الدنيا كلّها تصرخ في أذني: لا لا، مش هاي، مش هاي عمو، لا لا، مش هاي عمو، مش هاي، بدّي زي الأولى. بدّي زي الأولى."







