قراءات نقدية
سهيل الزهاوي: الألم والعشق والفناء والخلود.. مقاربة وطنية وفلسفية لومضة

يحيى السماوي
تُعدّ الومضة الشعرية فضاءً مكثّفًا تجمع بين الإيحاء والتكثيف، حيث تمتزج الأبعاد النفسية والوجدانية مع الأفقين الفلسفي والوطني، ضمن بنية نصية متماسكة وثراء سيميائي متقن. في نصوص الشاعر الكبير يحيى السماوي، يصبح الألم علامة وجودية تتخطى حدود الإحساس الفردي لتُظهر روحًا نابضة بالحياة، عميقة الالتصاق بالعالم المحيط بها. من رحم هذا الألم، يتولد العشق بوصفه قيمة أزلية مقاومة للفناء، تتجاوز حدود زوال الجسد وافتقاد العاشق والمعشوق.
أما من الناحية النصية، فتتجلى براعة السماوي في بناء نص تصاعدي يعتمد على آليات الانزياح الدلالي والرمزية الدقيقة، حيث تتداخل تأملات حول معنى الحياة والموت مع القيم الوطنية والانتماء والذاكرة الجماعية. من هنا، يتحول الوجدان الفردي إلى انعكاس لحالة جمعية مشتركة، بينما تصبح البنية السيميائية أداة فعالة لفك رموز النص واستيعاب أعماقه.
بهذه الطريقة يفتح النص الباب أمام قراءات متعددة وتأويلات متنوعة تنبثق من تكامل الأبعاد البنيوية والسيميائية والنفسية والفلسفية والوطنية فيه، مما يُضفي عليه طاقة دلالية قوية وقدرة على تجاوز زمنه الآني نحو أفق إنساني أوسع وأشمل.
نص الومضة
أنـا أتـألَّـم؟
إذنْ:
أنـا حـيٌّ أُرزق ..
*
مـسـاكـيـنُ الـمـوتـى
فـهـم لا يـتـألـمـون!
*
يموتُ العاشقُ والمعشوقُ
ويبقى العشق ..
تفسير الأبيات
1- أنا أتألّم؟ إذن: أنا حيٌّ أُرزق..
الألم هنا ليس مجرد تجربة جسدية، بل علامة على استمرار الحياة والقدرة على التفاعل. في البعد الوطني، يعني ذلك أن الإحساس بجراح الوطن دليل على الانتماء النابض، فالذي يتألم من أجل وطنه يثبت أنه ما زال حاضرًا في صفوف الأحياء الفاعلين.
2- مساكينُ الموتى فهم لا يتألمون!
تبدو كلمة مساكين للوهلة الأولى شفقة ظاهرية، لكنها تنطوي على مفارقة: الموتى حُرموا من الإحساس، وبالتالي من المشاركة في قضايا الوطن. ويمكن أن يُقصد بالموتى هنا من فقدوا الإحساس الوطني رغم بقائهم أحياء، أو الذين رحلوا بعد أن أدوا رسالتهم. في الحالتين، يتحوّل الألم إلى امتياز للأحياء، لأنه يثبت بقاء النبض والرسالة.
3- يموت العاشقُ والمعشوقُ ويبقى العشق
يصل النص إلى ذروته في تثبيت فكرة الخلود: العاشق (المناضل) قد يموت، والمعشوق (الوطن) قد يتعرض للتشويه أو الاحتلال، لكن العشق ذاته — أي الحب الوطني — يظل خالدًا، يتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. هكذا يصبح العشق قيمة أبدية تتجاوز حدود الأجساد والزمن..
المقاربة الفلسفية بين الومضة وفلسفة سارتر
تلتقي ومضة يحيى السماوي مع الفلسفة الوجودية عند سارتر في عدد من المحاور الجوهرية، مع بقاء خصوصية الرؤية الشعرية واضحة:
1- الألم والحياة
- في النص كما في الفلسفة السارترية، يُعدّ الألم علامة على الوجود الواعي وقدرة الإنسان على التفاعل مع ذاته والعالم.
- الألم عند السماوي يتجاوز الإحساس الفردي ليصبح دليلاً على حياة الانتماء الوطني وفاعليته.
2- الموت وانقطاع المعنى
- كلاهما يرى أن الموت يمثل توقف الفاعلية الإنسانية وانطفاء القدرة على المشاركة في صياغة المعنى.
- في النص، يُطرح الموت كحالة فقدان الإحساس، سواء بيولوجيًا أو معنويًا (فقدان الحس الوطني).
3- الخلود والمعنى بعد الموت
- يمنح الشاعر للعشق الوطني بعدًا خالدًا، إذ يبقى الحب للوطن حيًا ما دام هناك أحياء يتألمون ويحملون الرسالة.
- عند سارتر، استمرار الإنسان بعد موته مشروط بالأثر والمشروع الذي يتركه في العالم أو في وعي الآخرين، من دون افتراض خلود مطلق.
الفرق الجوهري
- الخلود في النص قيمة وجدانية جمعية مرتبطة بالأحياء وبالهوية الوطنية.
- أما في فلسفة سارتر، فهو مفهوم فردي يرتبط بامتداد الأثر في الآخرين، وليس بخلود عاطفي أو قيمي خارج إطار الزمن.
الربط بين النص والمنهجية التكاملية
تكشف القراءة التحليلية أنّ النص الشعري لا يُقارب على مستوى واحد، بل تتداخل فيه الأبعاد البنيوية، السيميائية، والنفسية، والرمزية–الوطنية، مما يجعل المنهجية التكاملية الأداة الأكثر فاعلية لفهمه.
1- البنية التصاعدية للمعنى
- يبدأ من تثبيت قيمة الحياة عبر الألم.
- يمرّ بالمفارقة مع الموت.
- ينتهي إلى الخلود الرمزي للعشق.
تعزّز هذه البنية العلاقات البنيوية (السببية والاستنتاجية) والإيقاع الداخلي الموحّد.
2- التحليل السيميائي
- المؤشّرات: الألم/غياب الألم لتحديد موقع الذات من الوجود.
- الأيقونات: العاشق/المعشوق بتمثيل إنساني عام.
- الرموز: الألم، الموت، العشق كجسور نحو المعنى الفلسفي–الوطني.
3- المستوى النفسي
يتحوّل الألم إلى وعي وجودي، والموت إلى صورة للانقطاع، والعشق إلى طاقة وجدانية قادرة على تجاوز الفناء، مما يعكس دينامية بين الشعور الفردي والانتماء الجمعي.
4. البعد الرمزي–الوطني
يتحوّل العشق إلى حب الوطن الذي يستمر في الذاكرة الجمعية رغم رحيل الأفراد، فتظل الراية مرفوعة.
5. الخلاصة
تُبرز المنهجية التكاملية قدرتها على توحيد البنية الشكلية والدلالية الرمزية، والمعنى النفسي والبعد الفلسفي–الوطني، لتقدّم فهمًا أشمل وأعمق للنص.
الانزياحات الدلالية والاستعارات
يعتمد النص على انزياحات دلالية تُعيد تشكيل شبكة القيم، إذ يُستبدل المعنى الشائع للألم — بوصفه معاناة — بمعنى وجودي يؤكّد حيوية الذات. ويُعاد تعريف الموت، لا كفناء بيولوجي، بل كغياب للإحساس، فيما يغادر العشق دلالته الغزلية ليصبح قيمة رمزية ذات بعد وطني خالد. وتتكامل هذه الانزياحات مع استعارات بنيوية؛ فالعاشق والمعشوق يتحوّلان إلى أيقونات تمثّل كل مَن قدّم ذاته في سبيل قيمة كبرى، والعشق إلى استعارة كبرى للوطن في وعي جمعي يتجاوز الأفراد.
الخاتمة
بُنيت القراءة وفق المنهجية التكاملية على تحليل النص الشعري، موضوع الدراسة، بوصفه هيكلاً مركباً تتداخل فيه المستويات البنيوية، السيميائية، الدلالية، النفسية، والرمزية ذات الطابع الوطني. وقد أفضى هذا التداخل إلى إعادة صياغة التجربة الفردية للألم والعشق ضمن أفق فلسفي وإنساني شامل. تُظهر البنية النصية نظاماً منطقياً تصعيدياً يمزج بين تثبيت قيمة الحياة عبر الألم، ومقارنة جدلية مع الموت، وصولاً إلى تأطير العشق في سياق خلود قيمي.
كما أسفر التحليل السيميائي عن الكشف عن العلاقات المعقدة للعلامات التي تؤسس بنية المعنى في النص، فيما أوضح الانزياح الدلالي واستخدام الاستعارات آليات انتقال المفاهيم من مستوياتها التقليدية إلى أفق رمزي جديد يمنحها دلالات مستحدثة. على الصعيد النفسي، برز النص كوسيط لتحويل معاني الألم إلى رؤية وجودية تتسم بالتأمل، وتجلي الموت كانقطاع شعوري يحمل دلالات عميقة، بينما يتخذ العشق شكل طاقة وجدانية تتخطى حدود الذات الفردية لتشمل الجماعة ككل، مما يعزز البعد الوطني ويحجز له مكاناً ملموساً في المخيال الجمعي
***
سهيل الزهاوي