قراءات نقدية

آمال بو حرب: نقوش الماء على طين الروح.. رحلة في التصوف الشعري

قراءة في المجموعة الشعرية (مطرٌ على خدِ الطين) للشاعر حسين السياب

حين تبوح اللغة بقلق الإنسان:

الأدب ليس ترفًا لغويًا، بل فعل وجودي يعبّر عن قلق الإنسان وتساؤله عن المعنى، والعدم، والزمن. في النص الأدبي، تتحوّل اللغة إلى أداة كشف، وتصبح الكلمة مرآةً للذات، تُضيء عتمات النفس وتعيد تشكيل علاقتها بالعالم. أما الشعر، فهو التجلي الأعمق لهذا القلق؛ لغة تتجاوز الظاهر لتغوص في صميم التجربة الإنسانية. وكأن كل قصيدة هي محاولة للقبض على لحظة وعي أو لصياغة سؤال لا جواب له. وكما قال المتنبي:

"وما كنتُ ممن يدخل العشقُ قلبهُ، ولكن من يبصر جفونك يعشقُ".. فالعشق هنا ليس عاطفة سطحية، بل توق أنطولوجي نحو المطلق ويؤكد سارتر:

"أن الوجود يسبق الجوهر، والإنسان مشروع مستمر للخلق"..

فالكتابة عند الإنسان ليست تعبيرًا عن كينونة مكتملة، بل عن صيرورة دائمة تبحث عن المعنى وسط الخراب. ومن هذا المنطلق، هل يمكننا أن نقرأ ديوان (مطرٌ على خدِ الطين) للشاعر حسين السياب، كرحلة وجودية تتشابك فيها اللغة مع الطين، ويتحوّل المطر إلى استعارة كونية تمثل الخلق والانبعاث والتلاشي في آنٍ واحد؟.. وإلى أي حدّ تستطيع هذه الكتابة الشعرية أن تعيد تشكيل ذاتنا في مواجهة الموت والفقد والغياب؟1594 alsayab

1- الشعر أداة لكشف الكينونة:

يتجلى الشعر عند حسين السياب كأداة ميتافيزيقية تتجاوز حدود اللغة الاعتيادية، لتمارس دورها في الكشف الوجودي عن الذات والكون معًا. لا يتعامل السياب مع اللغة بوصفها وسيلة للتواصل فقط، بل بوصفها كيانًا حيًّا يملك قدرة على خرق الصمت وكشف المخفي وإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والعالم. الشعر لا يجيب عن أسئلة الوجود، بل يعيد تشكيلها في هيئة رموز وصور وانزياحات، تخلق توترًا دائمًا بين المعنى واللامعنى، بين الذات والعالم.

"أُعيد ترتيب الحكاية

دون انتصاف الليل"

"أجمع الأضداد بمحبرةٍ سيرياليةٍ تتدلى منها جماجمُ عارية الأوصاف"

هذا التكوين الشعري ينطلق من نقطة محايدة بين الحلم والفقد، بين اللغة والصمت، حيث تصبح القصيدة ضربًا من الفلسفة الكاشفة، لا لأنها تنظّر، بل لأنها تضيء المعتم في وجود الكائن الشعري.

2- اللغة الشعرية: أفق للتشظي والتحول:

ليست اللغة عند السياب مجرد وعاء شكلي لجماليات القصيدة، بل هي أداة هدم وبناء. في مفرداته، تتداعى الصور وتتراكب لتخلق عوالم تنفتح على التشظي

والاحتمال. تتحول اللغة إلى مكان صراع داخلي، وتتحطم التراكيب التقليدية تحت ضغط الذات الممزقة. القصيدة هنا لا تُروى بل تتفجر، والكلمات لا تصف بل تعيش وتتناسل.

"كأنني أبتلع طوفانًا من الصمت الأزلي"

"على عصا اللقاء المنتظر أتوكأ"

إن هذا الانغمار في اللغة هو انغمار في الذات بوصفها كينونة تتكوّن باستمرار، في فضاء مفتوح على الفقد والتحول. يتحدث السياب هنا من قلب الانهيار، وفي كل بيت، يعيد تشكيل وعيه بالزمن، بالعالم، وبذاته.

3- الطين والمطر: جدل الثبات والتحول:

ينبثق الطين في ديوان حسين السياب بوصفه رمزًا للتجذر، للثقل الأرضي، للجسد، وللمحدودية. بينما يمثّل المطر حركة خارجية، تأتي من السماء لتزلزل هذا الثبات، وتكسر الانغلاق. العلاقة بينهما ليست علاقة ضدين، بل علاقة تفاعل وجدليّة وجودية. المطر لا يغسل الطين فحسب، بل يعيد تشكيله، يفكك حدوده، ويبعث فيه معنى جديدًا.

"تعالي كنرجسة تمنح المطر رفاهية الانهيار على خد الطين"

هكذا تُعاد كتابة علاقة الإنسان بالمادة، بالجسد، بالهوية. لا يعود الطين مجرّد استعارة ترابية، بل يتحول إلى موقع للكتابة والخلق، حيث يُعاد فيه تأليف الوجود في كل مرة تمسّه قطرة مطر.

4- المطر: عمل وجودي وجمال مهدد:

في نصوص حسين السياب، المطر ليس ثيمة طبيعية أو زخرفية. إنه لحظة وجودية مكتملة، قوة خارجة عن السيطرة، تفرض على الذات مواجهة ذاتها. إنه الجمال حين يتحول إلى صدمة، إلى دهشة هايدغرية، توقظ الكائن من رتابته، وتدفعه إلى إعادة تأمل مصيره الهش.

"الأفكار توقد رأسي

وتُشعلني كسيلٍ

يُخيفني تفجرها..."

بهذا التصور، لا يتعامل السياب مع المطر بوصفه نعمة، بل بوصفه فوضى، حدثًا يتقاطع فيه الشعري بالميتافيزيقي، ويولد من خلاله فعل الخلق في أقسى تجلياته. إنه الماء الذي لا يروي، بل يهدم ويعيد البناء.

5- المنفى: طرد مزدوج من الجغرافيا والذات:

لا يُصوّر السياب المنفى كفقد مكاني فقط، بل كتمزّق أنطولوجي. المنفى عنده هو حالة طرد مزدوج: من الوطن، ومن الذات. إنه تجربة غربة مضاعفة، حيث تتحول الأماكن إلى أطياف، ويغدو الجسد نفسه غريبًا عن رغباته وألمه.

"ولا أُمسك ظلك

المسافر عبر حقول الأقحوان"

"أتعرى من كل المدن

التي لا تعود لي"

تعبّر هذه الصورة عن شوق يائس، وعن إدراك عميق بأن الانتماء لم يعد ممكنًا، لا خارجيًا ولا داخليًا. الذات المهاجرة تتفتت، وتلجأ إلى القصيدة كي تعيد رسم حدودها، ولو بشكل مؤقت.

6- الموت: من الفناء إلى فعل الكتابة:

الموت ليس غيابًا سلبيًا عند السياب، بل هو شرط للكتابة. هو النقطة التي تنبثق منها القصيدة بوصفها مقاومة للعدم. يعيد الشاعر تشكيل الموت ضمن اللغة، ليمنحه إمكانية جديدة: أن يكون بداية لا نهاية.

"أطرز كفنًا ناصع البياض للأمنيات"

"تسحبني بئر مهجورة

ولا أعرف كيف أنجو منكِ"

الموت لا يُلغى، بل يتحول إلى سؤال شعري مفتوح، وإلى مادة لغوية تُنتج المعنى. هكذا يتقاطع السياب مع كامو، حيث يصبح الاعتراف بعبثية الفناء شرطًا لتحرّر الوعي وصحوة الجمال.

7- اللغة والرمز: بين التمزق والتجاوز:

الرمز عند السياب لا يُستخدم لتزيين النص، بل لتفكيكه. إنه وسيلة هروب من المباشر إلى العميق، ومن السطحي إلى المتأزم. يتكئ الشاعر على رموز متعددة: من الأسطورة، من الدين، من الطقس، من الجسد، ليعيد بناء ذات تتكلم من داخله وتتشكل في لحظة الكتابة.

"في مهرجان الملائكة والشياطين

تتشظى قصائد مصابة بلعنة الماء"

هذا التوتر بين التطهير والانهيار، بين القداسة والانكشاف، يجعل من الرمز قناعًا شفافًا، ومن اللغة بؤرة مقاومة، تكتب الذات لا كما هي، بل كما يمكن أن تكون.

8- الحنين والألم: من رماد الفقد إلى شرارة المعنى:

الحنين عند السياب ليس عاطفة خافتة، بل قوة كامنة في كل بيت. إنه ألم داخلي يتحرك من الذاكرة إلى اللغة، ومن التجربة إلى المعنى. يتحول الحنين إلى مرآة تُعيد للذات ملامحها المفقودة، وتُحفّزها على الخلق.

"أغرس في تربة قلبك قصائد الخريف"

تلك سنابلك تحمل رائحة الشمس"

لا يعود الألم مجرد كرب شخصي، بل أداة كونية لصياغة المعنى. كما يرى نيتشه، فإن المعاناة تُنبت الفكر، والسياب يجسّد ذلك في كل شطر، حين يجعل من الوجع مدخلًا إلى التجاوز.

السياب والفلاسفة الوجوديون: مقاربة أنطولوجية في العمق

في ديوان (مطر على خد الطين): تتقاطع التجربة الشعرية لحسين السياب مع مسارات الفكر الوجودي، لا على مستوى التنظير المباشر، بل من خلال ما يمكن تسميته انفعالًا فلسفيًا ضمنيًا يتخلل اللغة والصورة والبنية. ففي عوالمه المتشظية، تتردد أصداء أساسية لأربعة من أبرز أعلام الفلسفة الوجودية: هايدغر، سارتر، كامو، ونيتشه، مما يجعل من قصائد حسين السياب مساحة مفتوحة لحوار غير معلن بين الشعر والفلسفة.

1- هايدغر والسياب: القلق كشرط أنطولوجي للكشف:

يرى مارتن هايدغر أن الإنسان يُلقى في العالم ليكون "كائنًا -  هنا" (Dasein)، يعيش في القلق بوصفه الحالة الأصلية التي تكشف له عن معناه. هذا القلق لا ينشأ من شيء خارجي، بل من تماس الذات مع هشاشتها، مع فراغها، مع نهايتها الممكنة. في شعر السياب، يتردد هذا القلق كنبض داخلي:

"مرآةٌ خرساء تصرخ فيّ"

"تطحنني أرصفةُ الغياب

تسكبني في فمِ الحياة"

ها هنا، لا يظهر القلق كاضطراب نفسي، بل ككثافة أنطولوجية تدفع الذات نحو مواجهة مصيرها. العالم ليس مكانًا للسكينة، بل فضاء لتكشّف الوجود من خلال الهشاشة والصراع. كما عند هايدغر، القلق ليس شيئًا ينبغي التخلص منه، بل هو بوابة للانكشاف، لإدراك الذات في لحظة الصدق العميقة مع مصيرها.

2- سارتر والسياب: الحرية بوصفها مشروعًا مستمرًا للخلق

في فلسفة جان بول سارتر، لا يولد الإنسان بذات جاهزة، بل هو مشروع حرية مستمر. الوجود يسبق الجوهر، والذات تُبنى عبر الفعل، لا تُعطى سلفًا. حسين السياب يتقاطع مع هذه الفكرة حين يُظهر الذات الشعرية في حالة من المقاومة المتواصلة، وكأنها تنهض من رماد الهزائم لتعيد تشكيل نفسها ضد القدر وضد الحتمية.

"لم أرتّب الليلَ قداسًا للفجيعة،

لن أستسلم للمتاهاتِ التي ترسلها الأقدار”

هنا تتجلى فكرة الحرية الوجودية لا بوصفها امتيازًا، بل مسؤولية مرهقة. فالذات، عند السياب، لا تبحث عن معنى جاهز، بل تبتكره، ترسمه من خلال الألم، وتكتبه في مواجهة التلاشي. إنها ذات سارترية بامتياز: مُدانة بالحرية، ومطالبة بالخلق.

3- كامو والسياب: العبث وتمرد الجمال:

يرى ألبير كامو أن مواجهة العبث لا تعني الاستسلام له، بل أن نتمرد عليه من خلال الجمال، من خلال التمسك بالحياة بالرغم من خوائها. في ديوان السياب، يتحول هذا التمرد إلى فعل شعري، لا يُنكر العدم، بل يجعله خلفية تزداد فيها الصور توهجًا.

"هذا البحرُ لي وحدي…

غريقٌ في أعماقه…

لا أريدُ النجاة"

إنها تجربة عبثية واعية، يرفض فيها السياب الإنقاذ السهل، ويرتمي بإرادته في لجة المعنى المراوغ. كما في منطق كامو، يصبح الموت نفسه مادة للخلق، وتتحول الحياة إلى رهان شعري: كل بيت هو فعل تمرد على العدم، وكل صورة هي محاولة لترسيخ الجمال في وجه الزوال.

4- نيتشه والسياب: الألم بوصفه قوة للخلق والتحول:

في فلسفة فريدريك نيتشه، الألم ليس عبئًا يجب التخلص منه، بل هو مصدر التحول الخلّاق. من المعاناة تولد الإرادة، ومن الجرح تنبثق القوة. هذا المبدأ يشكل بنية داخلية واضحة في شعر السياب، حيث تُعاد صياغة الذات من خلال لهيب الفقد والخذلان.

"أمارس غوايةَ الروحِ

في مجالس التوابين

أشتهي أن أضاجع دلالات الفرح"

لا ينفي الشاعر الألم، بل يعانقه حتى التخمة، ثم يصوغه مجازًا، ويجعله أساسًا لتكوين شعري جديد. كما في تصور نيتشه، يولد السياب من رماد ذاته، ويعيد ابتكار نفسه عبر الحنين، الخسارات، والفقدان. إنه الشاعر الذي يتجاوز هشاشته عبر القصيدة، ويجعل من كل جرح شرفة تطل على أفق جديد من المعنى.

9- ثنائية الأمل واليأس: توازن على الحافة:

يتحرك السياب بين الأمل واليأس كمن يرقص على جسر هش. لا ينهار في الحزن، ولا يطمئن تمامًا للنور. بل يجعل من هذا التوتر مبدأ للكتابة، ومن الحافة فضاء لولادة القصيدة. اليأس لا يُلغى، بل يُصاغ جمالياً.

"تلك مزامير الصيف لا أنصت لها

لأني وُلدت من ذاكرة غيمة محمّلة بماء الأوطان"

الأمل موجود، لكنه ليس يقينًا. إنه فعل مقاومة مستمر، يتجلى في الصور، في الانزياحات، في تردد الشاعر بين الحضور والغياب، بين التمسك والانفلات من الذات.

الخاتمة:

إن تجربة حسين السياب في ديوان (مطر على خد الطين) هي تجربة وجودية بامتياز. ليست الكتابة عنده فعل تعبير، بل فعل انكشاف، وتحول، وتجاوز. القصيدة عنده كائن حي، يصرخ، يئن، يتهشم، ثم ينهض من تحت الطين والمطر حاملًا لغته الخاصة، وهويته المتبدلة، وكينونته التي لا تكتمل أبدًا. لقد كتب السياب من حافة الموت، ومن هوامش الوجود، ومن فجوات الغربة؛ فجعل من الشعر بيتًا للقلق، ومن اللغة وطنًا متحركًا. فهل ما زال ممكنًا أن نرى الشعر تجربة جمالية خالصة بعد هذا العمق

الوجودي؟ أم أن علينا أن نعيد النظر في وظيفة الكلمة حين تصير بيتًا للفقد والمطر والطين؟

***

د. آمال بو حرب - ناقدة وباحثة

في المثقف اليوم