قراءات نقدية

عبد الهادي عبد المطلب: قراءة في رواية "ليلة مع رباب" للكاتبة فاتحة مرشيد

حين يصنع الراوي أقدار القارئ

«نحب الذكريات لأنها لا تتغير ولا تشيخ، بينما نحن نتغيّر ونشيخ»..  (الرواية ص 213)

تقديم: ... وأنا أمسك الظرف بيسراي وأفتحه بيمناي لأخرج ما به، هاجمني هجوم من يدعوني إلى عناق أدبي، عنوان الرواية التي وصلتني هدية من الشاعرة والأديبة والروائية فاتحة مرشيد، «ليلة مع رباب (سيرة سيف الراوي)» الصّادرة في طبعتها الأولى 2025 عن المركز الثقافي للكتاب.

أثارني العنوان وهيّج ما بداخلي من أسئلة مفاتيح محتملة للرواية، ووضعني قبل الإبحار في عوالمها السردية، أمام تساؤلات أولية عِدّة، هذه العتبة المفتوحة على كل التأويلات والغامضة، في الآن نفسه، رغم وُضوح علاماتها الفنية والجمالية التي يفصح عنها الغلاف.

قلّبت الصّفحات 220، وأنا أتساءل موظفاً ما ملكت من معرفة بسيطة في عالم الرواية، قارئاً يشاغب على النقد، لأحلّ لغز عتبة «ليلة مع رباب» التي كشفت لي عن بعض أسرارها، من تكون رباب هذه؟ لماذا ليلة وليست ليالي؟ ومن يكون هذا الذي يحلم بليلة واحدة مع رباب؟  ومن سيف هذا؟ وهل هي سيرة "سيف" أو سيرة القارئ؟

اتّسع العنوان ليفتح للقراءة الأولية الكاشفة تأويلاتها، في محاولة لاقتحام معاقلها وفضّ أسرارها الخفية، وسبر أغوار لغة سردها.

عتبة بمثابة باب قلعة الرواية؛ حيث يتحصّن الباب تحت تفسيرات وتأويلات تتعدّد بتعدّد الفاتحين والمغامرين، والمُتعطّشين لِلَذّة الفتح المبين، حين يقفون عند مداخلها منتشين بنصرهم وهم قد خرجوا بإحساس غير الذي دخلوا به، إحساس يمتزج، لا محالة، باللذة والألم، بالحب والكره، بالقوة والضّعف، بالانتصار والهزيمة وهو قدر الفاتحين.

أول الفتح..

دخلت «ليلة مع رباب» قارئا أتحسّسُ معاقلها وخباياها، وأتلمّسُ طريقا إلى شخوصها وفضاءاتها وأحداثها لأجد لي مكانا، ليس ببعيد، للمراقبة، من دون تدخّل، محاولاً الخروج منها برصيد وافر من الأحاسيس والملاحظات والترميمات والإرشادات، راجيا أن تُضفي على الرواية مُسحة من جميل شغفٍ يُحفّز قرّاء محتملين لولوج عالم هذه الرواية.

«ليلة مع رباب»، رواية تسائل في القارئ جزءاً منه، يظنّه منْسيّاً أو متواريّاً في غياهب النفس والذّاكرة، حين تضعه أمام مرآةٍ تعكس ما يهرب منه مبتعداً عنه وهو ملاحقه، عالم يدفعه، من دون مقدّمات ولا حِيَل سردية، بل ببناء تشكّلت أحداثه، وتلاقت شخوصه وتفاعلت، وانفتحت فضاءاته وتنوّعت في غير ضيق، لتبصُم على عمل متميّز يُنبّه، يُسجّل، يحكي بجرأة آسرة، يكتنه أعماق النّفس عبر خطاب يمتاز بغناه وتنوّعه، رغم بساطة لغته القويّة والمتماسكة، الظاهرة والمخادعة.

من الشيخوخة تنطلق الرواية لتنتهي إليها، «إنها الشيخوخة يا سادة» ، يأخذنا السارد عبر اتفاق مبيّت مع الراوي «سيف»، إلى عالم ينسج خطواته ببطء، لكنه لذيذ، يفتح أمام القارئ فرصا للتأمل والوقوف للسؤال، عن ماضيه وحاضره والآتي من أيامه، وما يعتمل فيها من أحداث، توقف القارئ أمام نفسه وأمام الأسئلة العابرة للنص الروائي. فالراوي يتوجّه بالكلام إلى القارئ، يبرم معه اتفاقاً قبل ولوج عالمه الحكائي، ينسج معه شكلاً من الأُلفة تفتح للسرد آفاقاً يلتئم فيها القارئ بالشخوص والأحداث بحلوها ومرها، بنحسها وسعدها، يُعدّه لتلقي الآتي من الحكي الجميل، فاتحاً افق انتظاره على ما سياتي من الأحداث مستعملاً من الأمثال الشعبية ما يضفي على السرد قوته وتماسكه وسيرورته، ومن الأسئلة ما يفتح لفضوله المعرفي أن يغوص في نفسه عبر الشخوص التي تتحرك داخل النص، مع ترك هوامش وتفاصيل يكتبها القارئ بِصَمْتِه وتأمُّلاته ليُعيد تشكيل بعضها حين يضع نفسه في لُججها.

بحس الطبيبة العارفة بمكامن النفس البشرية وخباياها، وبمبضع الجرّاح تتّبع الطبيبة/الكاتبة دروب النّفس ومجاهلها، تُعرّي ما اختبأ تحت أردية الألم والوجع، أو توارى خلف الحبّ والكره، أو تردّد بين الأمل والرجاء، لتفسح مجالات للبوح والكلام والسؤال، والانخراط في صناعة أقدار هذه النفس وتحمّلها ومكابدتها، فتوقِف القارئ/الإنسان أمام ذاته، تذكّره كي لا ينسى أنّه يَجُرّ رجليه جرّاً إلى نهاية محتومة، يعرفها ويتجاهلها، «عن هذه الذات سأحْكي، وبالتحديد عن نسخة منّي لم تعد موجودة» ، فهل هي نسخة من الراوي «سيف» أو نسخة منّا نحن الذين فتحنا الرواية لنكون جزءاً منها؟ «فالنّاس سوف ينسون ما قلته، وسوف ينسون ما فعلته، لكنّهم أبدا لن ينسوا ما جعلتهم يشعرون به» .

بنفس الجرأة التي اقتحمت بها الكاتبة فاتحة مرشيد عوالم رواياتها السابقة، تحاول أن تجعل من الهمّ والألم الإنساني مصدر إلهام امتاز بتدفّق لغوي سلس، هادئ وجِرّيء، في تناسبٍ مع الأحداث وانتقالاتها لتغوص عبر السؤال الحاضر دائما في متن الحكي، يدعم القارئ ويشدّه شداًّ إلى سيرورته المتوالية. تقتحم دهاليز النفس تُشَرِّحها، تعتصرها بهدوء العارفة المتمكّنة من أدواتها، وبوساطة تداخلٍ لغوي يجمع بين عربية سليمة ومثل عامي دارج على الألسن، وذلك لنقل التفاصيل والأحداث التي تبني المعمار الروائي من مبتدئها إلى منتهاها عبر لغة ثرية ثرّة، سلسة الانقياد، سهلة وقوية في نفس الآن بتواشجها مع الأحداث، تتسع دوائرها لتشمل كل مكونات الرواية، مظللة بالأمثال الشعبية المحفورة في ذاكرة الزمان والنّاس، لتجعل منها سيرة «سيف» والقارئ.

«ليلة مع رباب»، رواية تهمس إلى القارئ حين يواكب الأحداث، يرافق الشخوص، يكتشف الفضاءات، ولا سبيل له إلى التراجع حين يقتحم معاقلها، أو التسرّع وهو يجوب دروبها، لأنّها حتماً ستقوده إلى مصيره المحتوم، المسكوت عنه خوفاً أو كرهاً، وهو يقطع مراحل العمر ساهِياً لاهِياً، لا ينتظر ليصله النداء رغماً عنه، سيصل من دون تبريرٍ لذلك، «وما حاجتي على التبرير لكم؟»  وقد دخلتم القلعة تنشدون الفتح، مواجهة مستفزّة، منبّهة تجثم على القلب ضاغطةً، تعيدنا إلينا، قاطعة مع الذي مضى، مستشرفة الآتي الذي لا نعلم عنه شيئا. بما أنّها علامات قاطعة وقاسية مع الحال والحاضر، تهمس لنكتشف ذواتنا/مآلنا، نبحث عنا بين سطور الحكي ومن خلاله، لتنتقل القراءة إلى انصهار وحلول بذات «سيف الراوي» الذي هو نحن، ومصاحبته عبر توالي الأحداث وتناميها. لعل الكاتبة تتقصّد، في الإعلان عن الفكرة بسهولة ومن دون مقدمات، ليعرف القارئ الذي تحيطه الأسئلة المُنَبِّهة، أنه هو المقصود، من جهة. ومن جهة أخرى، تُمكّنه من مجاورة الشخوص والتّماهي معها ليخرج من الرواية بأقل الأضرار. فالسارد يعلن ذلك بأسئلة مواكبة للسرد، تلك الأسئلة التي تضع القارئ في قلب السردية، تشده إلى المتن لتجعل منه مشاركاً فاعلاً في الأحداث لا متفرّجاً، ومنتبهاً أن هذا الجسد الذي، يَحمل ويُحمل، أدّى مهمّته، وحان الوقت لأن يستريح، «وهل بمقدور القلب أن يُحيي الخراب؟» ؛ ما دام العطّار لا يصلح ما أفسد الزمان. أحداثٌ تُوقف القارئ أمام نفسه متسائلاً في غير بحثٍ عن جوابٍ، ليحسب سنوات عمره التي تمر تباعاً، وأمام خياريْن: إمّا «أن ما لا نستطيع الحديث عنه، ينبغي أن نتجاوزه في صمت» ، نتجاوزه ونمضي إلى الأمام؛ أو نلزم الصّمت والعيش «خارج الزّمن» حسب تعبير إليوت، ليصبح مجرد ذاكرة، «إنّها مأساة الإنسان، تكمن في تمزّقه.. فقلبه يريد الحب، وعقله يسعى للنّجاح، أمّا روحه فلا تحلم إلا بالسّلام" ، "ولكم أن تفسروا كما يحلوا لكم» .

بنفس الجرأة التي تحرّك دواخل القارئ كما في كل رواياتها، تحاول الكاتبة في «ليلة مع رباب»، فتح موضوع «الشيخوخة» بما قبلها وما بعدها، مواربة باب عيادتها النفسية، بحذر من يملك آليات ولوج النفس الإنسانية بتؤدة يصاحبها التّبصّر والحكمة والذّكاء، نبحث عن أنفسنا ونحن نلج مكتشفين أسرارها، فاتحين معاقلها، نبحث عنّا، نستمع إلى ذواتنا أكثر مما نحكي. تستحضر الكاتبة تلك الأمثال الشعبية التي تغذّي المتن الحكائي وتجعله قريبا من القارئ، بما يتّسق مع الأحداث والحوار والشخصيات أيضا، في تآلف متين، صادق ورصين، وتكتب لتهمس إليك، لا لتعطيك خلاصاً، بل تمنحك مرآة تنظر فيها إليك، يقول الراوي: «كل واحد منكم رسم في ذهنه صورة معينة، هي في الحقيقة تعبّر عنه أكثر مما تعبّر عني» .

ما لا تخطئه عين القارئ، هو امتلاك الكاتبة/الطبيبة الخبرة الكافية مع اتساع اطلاعها عن تجاويف النفس البشرية، وما يصنعها كذات تكابد الآلام والأوجاع، والكره والحب، والانتظار والإقدام، في بحث عن الاستقرار النفسي حين تبوح بهواجسها وما يعتمل بداخلها، و«سيف الراوي» نموذجها، وهو استمرار لنهج الكاتبة المتميّز الذي يلج عوالم ودهاليز النفس الإنسانية بإيقاع سردي عبر لغة لا تخجل من قاموسها الحافل بما يقرّب المعنى ويسهل الغوص فيه.

الرواية أكثر من سرد لسيرة «سيف الراوي» الذي وقف أمام شيخوخته ليروي ماضيه وحاضره بحضور القارئ كشاهد أولاً، ومنتظرٍ لمصيرٍ قد يقترب من مصيره، ما منحها رؤيةً تجمع بين الجسد والعقل، بين التفكير والمغامرة، عامرة بالأسئلة التي لا تنتظر أجوبة آنية من القارئ، وتحفر فيه طريقا إلينا، نكتشف عبره أنفسنا التي نظن أننا نفهم دواخلها رغم حملها لنا، بطريقة غير مباشرة، لأن الأدب عند المبدعة فاتحة مرشيد «غير مجامل، قد يجعلنا نلمس الجانب الإنساني في أعماقنا المعتمة، أو يوقظ إنسانيتنا أمام بشاعة وجهنا الآخر» ، لعلّها صدقت، ونظنّها كذلك حين وصلت بالقارئ إلى مشارف النفس المثقلة بالهموم والباحثة عن لحظات العشق الكاسحة للأحزان، «لا تيأس أبداً أيها العزيز، أزهر من جديد، أثبت لهم أم الذّبول خرافة» ، ولأنه «عبر الكتابة نستطيع ترميم الكثير فينا» .

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب

الدار البيضاء:20/05/2025

 

في المثقف اليوم