قراءات نقدية
فؤاد الجشي: الفتنة والهوية في رواية بيت القبطِية

بين وقت وآخر، ثمة كلمات تتحدث بصمت، تنتظر من يطرق بابها. باسمها ونصوصها تهديك حلقات من حياة، ومن زمان كان له وقته وحاضره، وله أيضًا انتظاره. بين النظرية والتجربة تقاس المعرفة، والقلم وحده غائر، على قربه وبعده، يناديك إلى عمقه. والفراغ محجوب لكنه موجود، كأنه سراب في وجدان متوقف بسبب ليبرالية الحياة التي طغت على الإنسان في بحثه وحقه في العيش بكرامة، الكرامة التي ينشدها في خضم صراعات الحياة وتقلباتها.
إنّ هذه السطور ليست إلا انعكاسًا لحالة من التأمل في واقع تتقاذفه المتغيرات، حيث وجدت نفسي أضع جانبًا هرج الحياة وصخبها، متوقفًا عند لحظات أكون فيها في حاجة ماسّة للجوع والعطش، جوع المعرفة وعطش الفهم، أمام نهر دافق يراك ولا يراك، مستسلمًا لقدره أن يمضي قدمًا في البحث عن النهايات، تلك النهايات التي لا تكون دائمًا كما نتصور، بل تأخذنا إلى بدايات أخرى لم نحسب لها حسابًا.
لا أخفيكم سرًا، فالبرد القارس كان دافعًا لي لأن أبحث عن الدفء، لكن ليس بالطرق المعتادة. ارتأيت أن أتلحف بكتبي التي سوّفت في قراءاها، فبقيت متراكمة على أرفف مكتبتي بانتظار لحظة مناسبة أستعيد شغفي بها. أغلقت باب مكتبتي، وبين أكواب الشاي والقهوة الساخنة، أعلنت الحرب على القراءة، وأصبحت ساعات النوم محدودة جدًا. كنت أرافق كتابي من الصباح حتى المساء، وفي ساعات الفجر الأولى، حيث يُولد الفكر النقي بعيدًا عن ضجيج العالم.
في كل مرة أفتح فيها كتابًا، أشعر أنني أخوض مغامرة جديدة، أعيش حيوات أخرى، وأختبر مشاعر لم أعشها من قبل. إنها رحلة لا نهاية لها، ويصبح الماضي جزءًا من الحاضر والمستقبل.
في رحلتي هذه، انتهيت من قراءة رواية "بيت القبطية" للكاتب المصري أحمد العشماوي، وهي رواية تتسم بعمقها الدرامي والاجتماعي. تأخذنا الرواية إلى أقصى ريف مصر، حيث يلتحق نادر فايز كامل بوظيفته وكيلَ نيابة في قرية صغيرة بشمال الصعيد. هناك، تبدأ الأحداث في التداخل، ويصبح القارئ شاهدًا على حبكة متشابكة تسلط الضوء على واقع المسلمين والأقباط في المجتمع المصري، حيث زرعت الفتنة جذورها العميقة، وتحولت إلى شرخ اجتماعي سبب كوارث لا تُحصى.
الرواية تجسّد الصراعات الطائفية التي أودت بحياة الكثيرين، حيث اشتعلت الحرائق بسبب العنف والتكفير المتبادل، وامتلأت الحياة بالمآسي والضياع. تتوالى الأحداث، وكأنها انعكاس للواقع الذي تعيشه بعض المجتمعات المنغلقة. تبرز في الرواية شخصية سيدة قبطية غامضة، تشكل نقطة تقاطع مهمة في سير الأحداث، إذ يغوص المؤلف في أعماق النفوس المعقدة، ناسجًا صورًا مدهشة للأحداث والمشاعر.
ما يميز الرواية ليس فقط حبكتها المشوقة، بل قدرتها على تقديم صورة واقعية للمجتمع المصري بكل تناقضاته. لقد رسم المؤلف تفاصيل الشخصيات بدقة، ليجعلنا نشعر وكأننا نعيش داخل الرواية، نتنفس مع أبطالها، ونتألم مع معاناتهم. لقد استطاع المؤلف أن يعكس ببراعة كيف تتحول الأفكار والمعتقدات إلى سلاح مدمر عندما تُستغل في غير موضعها الصحيح.
لقد وجدت نفسي أطرح العديد من الأسئلة حول واقعنا الحالي:
كيف يمكن لمجتمع أن يعيش متعايشًا ظاهريًا بينما تغلي في داخله مشاعر متناقضة؟
كيف يمكن للحياة أن تستمر وسط هذا الكم من الصراعات؟
وكيف للإنسان أن يحافظ على إنسانيته وسط عالم يمزقه التطرف؟
هذه التساؤلات ليست جديدة، لكنها تعود للظهور في كلّ مرة نواجه فيها واقعًا مشحونًا بالتوترات والانقسامات
وفي الوقت الذي كنت أقلب فيه آخر ورقة من "بيت القبطية"، وجدتني أفكر في الرواية التالية التي ستأخذني في رحلة جديدة، رحلة قد تحمل إجاباتٍ أو تثير مزيدًا من الأسئلة الملحّة، لكنها بالتأكيد لن تتركني كما كنت.
كلّ كتاب نقرؤه يترك أثرًا، بسيطًا أو عميقًا، لكنه يضيف شيئًا ما إلى هويتنا. وهكذا، تستمر رحلتي بين الكتب، رحلة ابتدأت ذات يوم، لكنّها لن تتوقف؛ لأنّ كلّ نهاية تحمل في طيّاتها بداية جديدة، وقصة أخرى، وفكرة أخرى، وعالمًا آخر ينتظر رحالة يكشف معالمه وطقوسه إلى كلّ إنسان على سطح هذا الكوكب.
***
فؤاد الجشي